لاشيء يحيط بالاشجار الباسقات الا السيور البلاستيكية الرفيعة باللونين الابيض والاحمر تحدد معالم المكان ليكون علماً، فالسقف فروع وصفق اخضر والمدي مفتوح علي الاشجار الخضراء والبساط حشائش يانعة، هنا يجلس موظفون علي كراس ليبية وخشبية بانتظار مواطنين يقررون مصير وطن، بالصدفة او بتقدير لجنة الاستفتاء المحلية وقع الاختيار علي هذه البقعة لتكون مركزاً للاقتراع، لا شيء يميزها عن ما عداها من البقاع كلها ،غابات تسد العين من اول الطريق او من اول وهلة تخرج فيها الي خارج مدينة واو باتجاه الغرب الحبيب (علي قول استيلا قايتانو)، فالشجر يشتجر في كل متر مربع، وبالكاد تجد السيارات طريقها ( المعبد بصنع شركة آيات او غير المعبد الذي لم تطله أيادي العمران منذ هبط ادم الي ظهر البسيطة كما يقول الدكتور جون قرنق) الي مقصدها ، مراكز التصويت . دقة ونظافة : ما يلفت نظرك وانت تتجول في مراكز الارياف هذه دقة التنظيم والنظافة فكل مركز تجده معدا بذات الطريقة سور افتراضي وكراسي علي الجهتين الشمالية والغربية يجلس عليها مراقبون يتراوح عددهم بين سبعة الي تسعة، وترابيز خلفها كراسي يجلس عليها موظفون بزي اصفر مميز يتراوح عددهم بين خمسة الي سبعة، وخارج السياج تنتشر قوة للشرطة مكونة من «4» الي «14» مسلحين بالكلاشنكوف، وآخرون تخمن انهم اعضاء في الحركة الشعبية او الأمن او الاستخبارات، وتحت شجرة ابعد قليلاً تجد السلطان وحوله بعض الناس، وفي كل المراكز لن تجد اوساخا او قمامة فلكأن النساء العاملات اللائي يجلسن في مكان قريب يراقبن الاوراق قبل سقوطها لياخذنها بعيداً قبل استقرارها على الأرض. ويأتوك حالمين وراجلين : يسكن المواطنون هنا في قطاطي وكرانك متباعدة، تجد اسرة تتكون من فردين او ثلاثة تتوسط ارضا زراعية مساحتها خمسين فداناً ثم تجد الاسرة التالية في مساحة تزيد او تنقص عن تلك، لا يربط بين الاثنين الا درب صغير يشق الحشائش يسمح بمرور فرد واحد وهذا بالطبع لايعني عدم وجود تجمعات سكانية ولكنها في احسن الاحوال لا تتجاوز العشر اسر أو العشرين كرنكا. والسبب وراء ذلك ان المواطنين الذين عادو حديثاً الي اراضيهم تتملكهم امال التنمية وتزداد توقعاتهم باقبال الناس عليهم بعد زمن وجيز، فطفق كل صاحب ارض يتحسس ارض صبحاً ومساء يناجيها بوعود خضراء بعد طول هجران، فمنهم من يحلم بالميكنة الحديثة ليودع الزراعة التقليدية التي سئم منها، ومنهم من يحلم باكتشافات بترولية أو معدنية او طريق مسفلت يقسم ارض أجداده ليحصل علي تعويض مجز، ويقول هنري ليون بابلي (مستقبل الجنوب كويس في كل الاحوال بعد السلام)، هنري الذي عاد الي موطنه بقاري بعد تقاعده من خدمة طويلة بالقوات المسلحة نال فيها رتبة الرقيب يتوقع ان تدعمه الدول الغربية بالمعدات الزراعية الحديثة من جرارات وتقنيات ري منتظم ومنظم ويعلق امالاً كباراً على استدامة السلام . في هذه المناطق الريفية يواجه الناس صعوبة في الوصول الي مراكز الاقتراع حتي ان بعضهم يسير علي قدميه لثلاث ساعات كي يدلي بصوته كما يحدثني بول موري زولو رئيس مركز ناتابو، ويقول ان الذين صوتوا في اليوم الاول جاءوا كلهم راجلين وكانت معاناتهم بادية للعيان مما دفع بالسلاطين للاستعانة باصحاب المواتر(بودابودا) لنقل المواطنين في اليومين التاليين، واعلم لاحقا ان السلاطين هم اعضاء في لجنة الطواريء التي شكلها حاكم الولاية لمتابعة عمليات الاقتراع في كل المراكز . ناخبون عبر البودابودا: الموتر هو الوسلية الانجع للانتقال في دروب الحشائش الرابطة بين المواطنين ومراكز الاقتراع المنصوبة بين اشجار المانجو، وتعرف وسيلة المواصلات هذه باسم البودابودا ويخبرني محمد محجوب المقيم بمدينة واو ان اصل التسمية يعود الي اللغة السواحيلية وانتشرت البودابودا بواسطة الوافدين الي الجنوب من دول شرق افريقيا ثم صار بعض المواطنين يمتهنون هذه المهنة بعد أن حصلوا هم انفسهم على مواترهم الخاصة، ويقول انها تجد رواجا لسببين، لطبيعة المنطقة وشوارعها الضيقة ولعدم تكلفتها، وبطبيعة الحال لا يحمل الموتر سايكل اكثر من راكب الي جانب السائق ولكنه هنا يحمل ضعفي حمولته ويحدثني برناردو جون (صاحب موتر) انهم ينقلون بين ناخبين وثلاثة في المشوار الواحد الا ان يكون المنقول من ذوي الاحتياجات الخاصة فيتم ترحيله لوحده والاولوية في الترحيل لهؤلا وكبار السن، اما سعر المشوار فيتوقف علي بعد المسافة وقربها ويجري الاتفاق حوله مع السلطان الذي يحدد المكان والشخص المراد نقله منه ويقول جون ان السلطان لا يدفع لهم نقودا وانما بنزيناً موضحاً انهم يتقاضون عن المشوار القريب كريستال بنزين سعة واحد ونصف لتر وعن البعيد ثلاث كرستالات وحين عدت الي واو علمت ان سعر الكريستال الواحد للبنزين هو احدي عشر جنيها . ويشكو مدير مركز فرج الله فارس فحل من قلة المواتر في منطقته ويقول ان المتاح منها في المنطقة موترين فقط ،مشيراً الي انه لولا تدافع الناس في اليوم الاول نحو الاقتراع لواجهوا صعوبات كبيرة في وصولهم الي المراكز ،موضحا ان السيارات لا تستطيع الدخول الي مناطق سكن المواطنين ولذا يعتمدون على البودابودا، بينما الامر بالنسبة لمدير مركز بقاري وليم اوديكي بيلي مختلف قليلا فالمواتر اوفر عدداً واصحابها يكادون يكونون مقيمين الي جوار المركز ويتسدل علي ذلك بارقام المقترعين في اليومين الاول والثاني والثالث حيث صوت «598» ناخباً من جملة «817»و هو عدد المسجلين، ولا ينسي اوديكي ان يذكرني بان حديثهم عن اسهام البودابودا في نقل الناخبين لا يخرج عن كونهم يعلمون ما يدور حولهم مشددا علي ان رؤساء المراكز لا يديرون العمليات التي تتم خارج مراكزهم ،ويشير الي ان المواتر واتجاهات حركتها تتم بواسطة لجان الطوارئ . السلاطين يتحدثون : في مناطق ناتابو وبرنجي وبقاري وانقودكلا وفرج الله وانقيسا وتادو وانقو حليمة لا صوت يعلو علي صوت السلاطين فهم عماد الاقتراع وسدنته، ولا يخفي الذين استطلعتهم «الصحافة» انحيازهم لانفصال جنوب السودان ويقول السلطان انجلو بقاري (84عام) الذي يتبع له «13» عمدة في منطقة بقاري ان مناطقهم لم تشهد اي تنمية منذ عهد الاستعمار البريطاني الا بعد عودة الحركة الشعبية الي الداخل ويشير الي مدرستين في الجوار احداهما بناها الانجليز والثانية بنتها الحركة الشعبية ويقول انه يدفع رعاياه للتصويت لصالح الانفصال بلا تردد من اجل ان يحصل الناس علي تنمية ويقول انه يعمل جهده لانجاح عملية الاقتراع ويقوم بالطواف بنفسه رغم تقدمه في العمر لحث المواطنين علي الاقبال علي المراكز ثم يرسل البازنقرات لاحضارهم، وحين اسأله ما اذا كان يتوقع مشاكل بعد الانفصال يجزم بان لا، ويقول (المشاكل دي بتاعت الكلاب ونحن ناس مسالمين وخصوصاً قبيلة البلندة) ويقول بانهم يحلمون في العيش بسلام مع دولة الشمال وجميع الدول الاخري . ويتحدث سلطان انقودكلا السلطان سانتينو زنفيلا (86عام) عن ان الجنوبيين خرجو مرتين علي الجلابة (1955 ? 1983) ليس من اجل الوحدة وانما من اجل الانفصال ويقول (ربنا لمّانا مع الجلابة في وطن واحد ولم نجد منهم اي مساعدة ولا داعي للاستمرار معهم) ويقول سانتينو انه ايضاً يحث رعاياه علي التصويت علي الانفصال متمنيا ان يتوحد الجنوبيين في خدمة بلدهم وان لا تحدث لهم مشاكل مجددا مع الجلابة وان يصيروا والشمال احسن جيران . قلق وترقب : السؤال المحوري الذي يوجهه رئيس مفوضية استفتاء جنوب السودان بولاية غرب بحر الغزال وول مادوت شان الذي اصطحب معه وفداً اعلاميا محليا وجريدة «الصحافة» في جولته بغرب غرب بحر الغزال هو (ما عدد الصوتين مقارنة بعدد المسجلين)، وفي كل مرة يسمع الاجابة من مدير المركز المعين يتنفس الصعداء، فنسب التصويت تراوحت بين «70-80%» ووصلت في بعضها الي «90%»، ففي ناتابو صوت (278) من جملة (350) وفي انقودكلا (560) من (732) وفي انقيسا (614) من (679) وحين اعاجله بالسؤال : لم هو قلق من نسب التصويت، أذلك لان القانون نص علي ان التصويت يعتبر لاغيا اذا لم تبلغ نسبة المصوتين 60% من جملة المسجلين، وأقول له ان من عليه القلق من ذلك هو حكومة الجنوب والحزب الحاكم الحركة الشعبية وليس انت، فيقول: ان ما يقلقه هو احتمال اعادة العملية برمتها بعد ستين يوماً من اعلان النتيجة ويتحدث عن حجم معاناتهم في اعداد المراكز خصوصاً النائية منها ،وعن الاجراءات المرهقة التي قاموا بها منذ تكون المفوضية يقول ان العملية برمتها كانت متعبة ومملة له ولطاقمه ويضيف (نحن بذلنا جهداً خارقاً في الفترة الماضية ونريد ان نرتاح ).