تمر الساحة السياسية السودانية بمرحلة عصيبة تستدعى المراجعة والمسألة، عن كل السياسات التي انتهجتها الحكومات والمعارضة منذ الاستقلال، وما أفضت إليه من أوضاع هددت الوحدة الوطنية، كما تتطلب المرحلة أيضا وبشكل عاجل الإلتفاف حول مشروع سياسي وطني يعظم من فرص التماسك الداخلي ويؤمن الوحدة الوطنية لما تبقى من مكونات الوطن الاجتماعية والجيواستراتيجية التي تظهر نتيجة لانفصال الجنوب المتوقع، وبروز جنوب جديد قوى بمقوماته وأدواته. يتجه الجنوبيون هذه الأيام نحو صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في قضية مصيرية يمكن أن تمنحهم حق إقامة دولة مستقلة، في حدود 1956م التي أكدتها اتفاقية نيفاشا 2005م، الأمر الذي يبرز جنوبا جديداً للشمال الحالي، وضعاً جيواستراتيجي، جديداً بالنسبة للدولة الوليدة يسهم في تشكيل العلاقات الثنائية بين البلدين. يولد الانفصال جنوب جديد جغرافياً واجتماعياً وثقافياً وحدود طويلة تبلغ أكثر من «2000» كلم أطول حدود في أفريقيا مما يستدعي تعاوني المشترك لإدارتها لتحقيق مقاصد وأهداف اتفاقية نيفاشا، ويتوقف ذلك على قدرة الدولتين في تجاوز خلافاتهما ومعالجة القضايا العالقة بحكمة وانتهاج سياسية داخلية تعظم فيها علاقات الجنوبيون الجدد بالطرفين. علما إن الجنوبيون الجدد هم أهالي ولايات النيل الأزرق، سنار ،النيل الأبيض، جنوب كردفان وجنوب دارفور. توصف معظم هذه الولايات في السابق بولايات الوسط والاعتدال وذلك لاعتبارات التماذج والتداخل والتعايش القبلي، والتسامح الديني والترابط الثقافي الذي أنشأته دولة سنار التي شكلت القومية السودانية المعبرة والمتمثلة لثقافات المركز والهامش، إلى جانب استحداثهم لأنماط حياة وثقافة جديدة مكنتهم من التحكم في الصراعات البينية واحتواء الخلافات بينهم حيث لم تدخل هذه الولايات في صراعات داخلية أو مع المركز، كما ساعدتهم البيئة الطبيعية والموقع الجغرافي من بناء وتمركز مشروعات تنموية عملاقة. يمثل الجنوب الجديد برقعته الجغرافية الممتدة من أقصى الشرق إلى أقصى الجنوب الغربي عمقاً استراتيجياً للسودان، وجنوباً متميزاً ومنتجاً وغنياً وحاضراً أصيلاً فى الهوية السودانية، حيث تتوفر به قدرات اقتصاديه و امكانات كبيرة مثل البترول، والمشاريع الزراعية، مثل صناعة السكر، وإنتاج الكهرباء والسدود، ثروة غابيه، وحيوانية، والبرية إلى جانب توفر الموارد الطبيعية وتنوع الأراضي الزراعية والتضاريس السهلية والجبلية، و معدلات الأمطار العاليه، والمعادن مثل الذهب والكروم والنحاس، بالإضافة إلى معدلات كثافة سكانية عالية، وتجانس سكاني وثقافي ورصيد ثقافي وحضاري مشترك مع القبائل النيلية، سياسياً، استطاع سكان تلك الولايات، بناء دولهم الخاصة في سنار، ودولة الفور، ومماليك صغيرة عديدة، إلى جانب إسهامهم المقدر في الثورة المهدية، وحديثاً، شارك أهالى تلك الولايات في الحرب الأهلية ضد المركز انعكست آثارها عليهم ثقافياً واجتماعياً، الأمر الذي أتاح لهم اكتساب خبرات وقدرات برزت بوضوح في مشكلة دارفور في أبعادها الداخلية والخارجية، و في اتفاق السلام الشامل الذي منح ولايتي النبل الأزرق وجنوب كردفان حق ما يعرف بالمشورة الشعبية مما وفره لهم وضع سياسي متميز في الساحة السياسية السودانية ومكانه دوليه لا يمكن تجاهلها، إلى جانب أن الجنوب الجديد سوف يجاور دولة الجنوب الوليدة التي تتطلع إلى خدمات ولايات الجنوب الجديد، وإمكانية الاستفادة من قدراتها وخبراتها سلباً أو إيجاباً لخدمة مصالحها، مما يشجع ويدفع الجميع فى الدخول في اتفاقيات استثمارية ناجحة خاصة في مجال الكهرباء، والمحاصيل الزراعية «الذرة» والتجارية البينية بشكل عام مستفيدين من أبعاد التداخل الاجتماعي والخبرة التاريخية في التعايش المشترك. من هنا تبرز أهمية صياغة سياسة داخلية وخارجية جديدة ورشيدة تعظم من فرص المحافظة على تلك القدرات والامكانات وتنميتها وتوظيفها لخدمة مصالح الاهالى أولاً، وتقوى من عرى الترابط والتداخل الاجتماعي لينعم الاهالى بالسلم والأمن والتنمية عبر تنفيذ برتوكول المشورة الشعبية بمهنية وعلمية تعكس الشفافية وحسن التوجه نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي يتطلع له الاهالى، كما تسعى الحكومة في معالجة أوضاع بقية ولايات الجنوب الجديد وهى ولايات النيل الأبيض، و سنار وجنوب دار فور بذات التوجه والتي سوف تعيش أوضاعاً مأساوية نتيجة لهذا الانفصال بقية أن نأمن بؤر التوترات وثغرات الفتن، وخارجياً، يجب ان تهدف السياسة الجديدة لتقليل فرص التدخل الاجنبى مرة أخرى بحجة التهميش وانتهاك حقوق الإنسان، واستغلال القوى المعارضة للأوضاع وتعميقها، كما يعد مؤشراً لحسن التوجه نحو دولة الجنوب الوليدة نفسها، طمعاً في مساهمة تلك الولايات لإعادة الوحدة للسودان مستقبلاً. لذلك تعتبر السياسة الرشيدة والحكيمة لتعامل مع القضايا العالقة بين الشريكين في المرحلة القادمة وقدرتهما على تثمين الرصيد المشترك الذي يمثله الجنوب الجديد بكل تكويناته وقدراته وتداخلاته وتفاعلاته مع الدولة الوليدة مدخلا أساسياً للعلاقات الثنائية بين الشمال والجنوب، ومن أهم أولويات السياسة الخارجية لهما، وذلك للحاجة المتبادلة والعاجلة بينهما، وتلعب الولاياتالجنوبيةالجديدة دوراً فى هذه العلاقات للخبرة التاريخية والتواصل الاجتماعي والقرب الجغرافي ولتكامل وتداخل الاحتياجات، حيث تعتبر أقرب نقطة تواصل للجنوب تتوفر فيها الاحتياجات المادية من ذرة، وطاقة، ومصافي بترول، وطرق نقل برية ونهرية معبدة. توجد في الجنوب الجديد العديد من الحركات المسلحة وانتشار السلاح إلى جانب الصراعات القبلي، و سوف يتعاظم هذا مع قيام الدولة الوليدة وقفلها لحدودها أو التضييق والتهديد للرحل ومنعهم من التوجه جنوبا مما يزيد الضغط على المناطق الزراعية للأهالى المقيمين وتهديد حياتهم في قراهم ليتكرر مشهد دارفور في الجنوب الجديد، إلى جانب بروز دولة جديدة لها قضايا لم تحل مع دولة الشمال وتم تأجيلها لما بعد الاستفتاء، مما يعظم من فرص مواجهة حدودية مع الدولة الجديدة، ودعمها للجماعات والحركات المسلحة مما يدخل السودان بشقيه في دوامة الحرب مرة أخرى. إن القوى الدولية والإقليمية المعادية للسودان سوف تستغل كافة الاختلافات والتميزات الموجودة في الجنوب الجديد وتذكيها وتدعمها لإشعال الحرب ولإضعاف قواه الاقتصادية. وظهر ذلك جلياً في الوعود الغربية إبأن توقيع اتفاق نيفاشا والتضليل برفع العقوبات واسم السودان عن قائمة الإرهاب حيث كانت المكافأة تدشين مشكلة دارفور بقوة. إن الارتكان إلى الوُعود الأمريكية في حال تنفيذ الاستفتاء غير مجدية ويتضح ذلك من عدم مساهمتها بجدية في حل القضايا العالقة بين الشريكين وفق جدولها الزمني وخاصة أبيي، وضعف ضغطها على الحركة الشعبية، بل ودعمها في توجهها نحو الانفصال مخالفة بذلك اتفاق نيفاشا نفسه. أن سعي الحركة الشعبية لامتلاك ترسانة حربيه وتدخلها في حدود ما بعد 1956م فى ظل الفترة الانتقالية للاتفاقية، واحتفاظها بأفراد عسكريين تابعين لبعض الفئات السكانية فى المنطقة، وفك ارتباطها سياسياً واستراتيجياً مع تحالف جوبا، وتخليها عن بعض رفقاء الدرب من الشمال تعد جميعها ترتيبات سياسية واستراتيجية تؤشر إلى إمكانية إحداث بعض الخروقات الأمنيه بعد الانفصال بحجة دعم الأصدقاء والمتحالفين القداما، أو لامتصاص وتنفيس الحماس الناتج عن نشوة الاستقلال، أو لاعتبارات ثقافية ودولية أخرى، مما يهدد أمن وسلامة اهالى الجنوب الجديد وتضعهم فى المواجهة العسكرية مع دولة جديده، وليست حركة تمرد محدوده، لها جيشها المنظم والمدعوم سياسيا ولوجستياً بالتالي تشكل تهديد حقيقى لتلك المجتمعات الرعوية، والزراعية البسيطة فى الجنوب الجديد. يمتلك الجنوبيون الجدد بتنظيماتهم الأهلية وبخبرتهم السياسية مفاتيح كثيرة للعب دور مزدوجاً ووسيطاً ناجحاً تجاه دولتى السودان، تعظم من فرص التنمية والاستقرار لمجتمعاتهم وتجنبهم الصراع الداخلى، وتصدير الحرب الى ديارهم وتمكنهم من العمل على أن لا تكون ولاياتهم ساحه لتصفية الصراعات الدولية، تلك الفرص عززها المجتمع الدولى بتوقيع اتفاق نيفاشا وما تضمنة من حصص مادية تساعدهم فى الحصول على حقوقهم وتأمين مكتسباتهم وتطوير انماط نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال نتائج المشورة الشعبية و بالطرق السلمية تجنباً لاستمرار المعاناه التى خلفتها الحرب، او المواجهة وهذه أسهل الطرق حيث يوجد الكثيرون فى العالم من يمولون الحروب ولا يعمرون الارض. * أستاذ مشارك، العلوم السياسية، المركز الدبلوماسي، وزارة الخارجية