تم بمرسوم جمهوري «22» لسنة 2010م لأول مرة في تاريخ السودان إنشاء وزارة بمسمى «وزارة تنمية الموارد البشرية» وقد كن السودانيون في حاجة ماسة إلى مؤسسة رسمية تنتهج نهجا علميا لتنمية الموارد البشرية في هذه الحالة الحرجة من تاريخهم، وذلك أن سوء إدارة المؤسسات التربوية والخدمية وحتى التشريعية قد أضّر بفاعلية الانسان السوداني ضررا بليغا. لقد باشر السودانيون مهامهم الادارية والسياسية في فجر الدولة الوطنية بحماسهم الفطري ونشأتهم الريفية التي رفدت محصلتهم العلمية بالمهارة والطهارة ولكن لمحة خاطفة إلى حال المجتمع والدولة بعد خمس وخمسين عاماً من الاستقلال تكشف ولا شك عن ضعف إداري اتى على الطمأنينة العامة في كافة التراب السوداني وفشل في المحافظة على الأقليم الجنوبي وبسط السلام في كثير من المناطق الاخرى ويرى الناظر جيوشاً من الأمم تسرح وتمرح في بلادنا بموجب القانون الدولي ومع مطلع الألفية الثالثة اصبحنا شعباً وارضاً حقلاً لتجارب القانون الدولي ومن البند السابع في مجلس الأمن الدولي تسوى أمورنا وأمورنا كذلك تتصدر أجندة الجامعة العربية والاتحاد الافريقي وبذلنا الكثير من موارد الدولة البشرية والمادية لمناورة القوانين الدولية التي تصدر بحقنا. الآن وقد وصلنا هذه المرحلة من المعاناة المُزرية شعبا وحكومة يجب أن ننظر للأمور نظرة تعيد المبادئ والقيم التي تأسست عليها الدولة إلى نصابها ينهي محض إرادتنا الصراع السياسي حول السلطة وتحوله إلى ضغط يقوم به الطلاب والمرأة والمثقفين والسياسيين والنقابات هذا الضغط نوجهه الى إجبار القيادات لبناء مؤسسات الدولة وفقا لاختصاصاتها وأن تعاد هيكلتها ومسمياتها وميزانياتها وفقا للقانون. والمؤسسات قطعا ليست مجرد هياكل وميزانيات ولوائح بل هي بشر يديرون هذه المؤسسات هؤلاء البشر غني عن القول لابد ان يكونوا أكفاء مؤهلين مختصين في مجالاتهم بالإضافة الى أهم عنصر في الفاعلية وهو الحرية، حرية الضمير والمعرفة فالشخص، العالم الفذ يخون ضميره المعرفي من أجل انتمائه السياسي قطع شك لا يفيد عمله ولا تنظيمه لذلك فإن إعادة الاعتبار الى «علمية المهنة» هو المخرج الوحيد للبلاد من التردي الاداري الذي نيعشه فنحن لا نعيش أزمة سياسية فقط بقدر ما نعيش بؤسا وفقرا إدارياً في كافة مرافق الدولة حتى الحساسة منها إن كانت تشريعية او عسكرية. وما لم نواجه هذا التردي ونوقفه بخطط واستراتيجيات وقوانين صارمة نأخذ فإن اي حكومة عريضة او غيرها سنحتاج الى انقاذ وهكذا ستدخل البلاد والعباد في دورة جديدة من الحكم من إنتاجنا المحلي نضيفها الى الدورات المتعاقبة من دورات الديمقراطية والانقلابات الى دورات انقاذ الانقاذ وانقاذ انقاذ الانقاذ.. ! كيف لأي حكومة ايا كان مسماها أن تدير البلاد بمؤسسات لا تقوم على مهنية واختصاص وتحتكم الى مرجعية قانونية يديرها الاكفاء من ابناء السودان من أولئك الذين يعطون ضميرهم المعرفي الاولوية القصوى..؟! إن وزارة تنمية الموارد البشرية إذا أرادت أن تطلع بدورها التاريخي في «انقاذ الخدمة المدنية» من سياسات الانقاذ، عليها بضبط المصطلحات والاختصاصات وان تفكر بعمق في إعادة مهمة الرقيب الاداري «الامبوذرمان»، كما اني اتساءل بحرقة كيف لبلاد يتحدث قادتها عن تطبيق الشريعة الاسلامية ولا يوجد فيها «مفتي ديار» إن الذين يتحدثون عن الشريعة الإسلامية الغراء بحماس سياسي هم مثلا درسوا فقط منهج الدراسات الاسلامية في المدارس الثانونية ثم بعد ذلك إلتحقوا بمعاهد وكليات عسكرية او قانونية او غيرها لا علاقة لها بالعلوم الشرعية هذا الا إذا ظن السودانيون إن الشريعة ليست علما يحتاج إلى إحاطة كاملة به وهو علم يؤخذ من مذاهب وعلماء للأخذ به من الوقت والجهد الكثير فالشريعة ليست منفستو تكنية اي مجموعة وتطبقه هي علم له أركانه وقواعده وشروطه فهل يترك هكذا.؟ لقد كان الشرطي الذي يجلد الفتاة عارا على كل الفقهاء في السودان الا يوجد عالم واحد يكتب او كتب منشورا للمحاكم عن كيفية تطبيق الشريعة كان حريا بهم وبمن يهتم بتنمية الموارد البشرية أن يهتموا بتدريب وإعداد كل العاملين والموظفين والقضاة والعساكر الذين يتناولون أمرا كالشريعة الاسلامية له ضوابطه وأركانه وهذا مثال واحد فقط من أمثلة عديدة نحتاج فيها وزارة تنمية الموارد البشرية إلى بسط مداها على كافة المجالآت التي أصبح التدريب والتأهيل فيها مسألة ضرورة قصوى. إن من العقبات الكبيرة التي يجب على وزارة تنمية الموارد البشرية إزالتها حتى تستيع الإضطلاع بدورها هي أن تطلب من الموتمر الوطني أن يفصل فصلاً بيناً بين من هم قادة البلاد ومن هم المديرون ومن هم المنتجون فبعد عشرين عاماً من إدارة البلاد أصبح مثلهم كمثل الذي وضع سلماً على الجدار الخطأ فبقدر المشقة والجهد الذي بُذل في الصعود قطعاً سيصل من وضع السلم في الجدار الخطأ إلى المكان الخطأ! لذلك لن تحقق الكفاءة الحقيقية ما لم نبدأ ونحن واضعون الغاية في اذهاننا! ما هي الغاية التي يريدها المؤتمر الوطني كحزب حاكم الآن للسودان؟ حزب يتحكم فيه الجهاز التنفيذي! والا هل قادة المؤتمر الوطني راضون عن إدارة البلاد الآن؟ وإلا هل يوجد أصلاً في اذهانهم فرق بين الادرة والقيادة؟ وهل حقيقة توجد لدى عُلماء الادارة فروق بين الادارة والقيادة؟ يقول إستيفن آر كوفي في كتابه العادات السبع للناس الاكثر فعالية في ص122 «تستطيع سريعاً فهم الفرق المهم بين القيادة والادارة إذا ما تخيلت مجموعة من المنتجين يشقون طريقهم عبر الغابة باستخدام المناجل وهؤلاء هم المنتجون... والمديرون يقفون خلف هؤلاء المنتجين يشحذون المناجل، ويضعون السياسات ويجهزون الادوات ويضعون برامج التنمية.... والقائد هو الشخص الذي يتسلق أعلى شجرة ويقوم بعمل مسح شامل للموقف ويصيح «إننا نسير في الغاية الخطأ» ولكن ما هو جواب المديرين والمنتجين والمنشغلين والفاعلين «اصمت! إننا نحرز تقدماً!» إن تحديد دور القيادة ودور الادارة في هذه اللحظة المفصلية من تاريخنا هو الذي سيجنبنا الانهيار الكامل. إن أزمتنا في هذه اللحظة والتي تقعدنا عن تنمية أي موارد بشرية هي أزمة فكرتنا عن الدولة ذاتها الناتجة عن التخلي عن الروح الوطنية والوطن والانتساب إلى المشروع وحتى المشروع الذي سُخرت له الدولة والسُلطة تمت خيانته ولم يحقق أي تقدم حتى على الصعيد الانساني يقينا التدخل الدولي الذي جاء ليعلمنا الادارة الانسانية لوجودنا كمجتمع. إذاً كما يقول المهاتما غاندي مفصلاً الخطايا التي تؤدي إلى الاضطرابات السياسية والاجتماعية إلى سبع «سياسية من دون مبادئ، وثروة من دون عمل، ومتعة من غير ضمير، وحكمة من دون شخصية، وتجارة من دون أخلاق، وعلم من دون إنسانية، وعبادة من دون تضحية». يقول محمد محفوظ صاحب كتاب الأمة والدولة من القطيعة إلى المصالحة لبناء المستقبل يقول «إن هذه الخطايا التي أشار إليها المهاتما غاندي متوفرة في الجسم العربي والإسلامي» لذلك إن ما يهمنا في مجال تنمية الموارد البشرية هو تنمية الشخصية السودانية في المجال الوطني وإيقاف إهدار المواهب لان الموهبة وحدها لا تكفي كما يقول جون سي ماكسويل في كتابه الموهبة لا تكفي أبداً فنحن في السودان طوال عمر الدولة الوطنية أهملنا كافة مواهبنا وقدراتنا باهمالنا للشخصية إذاً ما هي الشخصية التي إذا أهملناها أهدرنا مواهبنا يجيب ماكسويل «أسأل عشرة اشخاص عن ذلك وستحصل على عشرة إجابات مختلفة أما أنا فاعتقد أن الشخصية يشكلها في النهاية أربعة عناصر 1- الانضباط الذاتي 2- القيم الاساسية 3- الاحساس بالهوية 4- الاستقامة «المرجع ص196» وحتي لا ينصرف ذهننا في مسألة الهوية إلى الجدل البيزنطي الدائر في السودان عن الهوية فإن ماكسويل فسر ما يعنيه بالهوية قائلاً «لا يمكن لأحد في أي فترة من الوقت أن يكون أمام نفسه بوجه وأمام الجميع بوجه آخر، إلا وإلتبس عليه الأمر في النهاية ولم يعرف أيهما وجهه الحقيقي» فكيف تتعرف على نفسك؟ من أين تأتي قيمتك الشخصية؟ ما دافعك فيما يتعلق بالسلطة والمال؟! يفسر هذا المعنى المؤلف روث بارتون ما معناه: الفشل محتوم إذا تصور الانسان ما يرغب في فعله قبل أن يكتشف أي نوع من الاشخاص يجب أن يكونه؟ إذاً الهوية نقصد بها هنا انسانية الانسان ومدى انسجامه مع ذاته قبل أن يأخذ تناقضاته الذاتية وينتمي بها إلى هذا أو ذاك أو يتوسل باجداده أو بأي قيم حققها الآخرون في زمانٍ ما لهذا السبب بالذات أهدر السودانيون مواهبهم والتي يجب أن يعاد الاعتبار إلى رعايتها حتى تصل إلى شخصية متماسكة منسجمة مُدركة لأهمية انتمائها الوطني ثم بعد ذلك يتم تدريبها وتأهيلها لتقوم بدورها في «كحاكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته». والتدريب والتأهيل لن يكون مجدياً في مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتعليم والثقافة والتربية إلا في إطار غرس الذاتية الحرة وثقافة الحرية والمسؤولية. ان من أهم المبادئ الحاكمة لسياسات الموارد البشرية اعتماد العنصر الانساني كمرتكز لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة يتوازن بين أهداف المنظمة وأهداف الأفراد إذاً دعونا نبدأ بانسانية الأفراد.!!