إن الفكرة عندما تتبلور وتخرج إلى النور، لا بد لها من مواعين قد تتسع وتضيق، وقد تكون على حسب ما هو مرسوم من برنامج وأسلوب من ابتكرها. كانت الفكرة في طريق حل أزمة الحركة الاتحادية بعدما وصل تباين الرؤى حول قضايا الوطن والحزب إلى نقطة ذوبان ملامح الحركة الاتحادية في حزب لا يحمل من ملامح حزب الوسط حزب الحركة الوطنية إلا الاسم والراية، فكان لا بد من سلسلة تطور الأمور والاحداث في الوطن منذ انقلاب 25 مايو إلى ما بعد الانتفاضة، وأن يكون الحزب بالشكل الذي أصبح عليه، وقد قال فيه الشريف زين العابدين الهندي إن الحزب خرج ولم يعد منذ مايو، إذ اعتبرت فترة النضال ومعارضة النظام المايوي الدكتاتوري مرحلة اولويات وطنية كما هو معروف في ادبيات وبرنامج الحزب. ان دينماكية الحزب تتجلى في العهود الديمقراطية والحريات الاساسية عندما تنداح لا بد أن يكون الحزب احد روادها، كل ذلك ذهب ادراج الرياح بعد الانتفاضة، اذ عاد الحزب بتشكيلاته، واستبدل ماكنيزم الصراع فيه إلى فريق عمل أو عدة مجموعات، فحدث ما حدث من انشقاقات وتكتلات ظهرت جلياً بعد يونيو 89م، إذ ان الحزب في طرح فكرته للخروج من نفق الازمة كان لا بد من اتباع ماكينزم جديد واعادة تأصيل وتنظيم وتأطير لفكرة الحزب الحديث المؤسسي، وكانت أولى تلك الإشارات هي شعار حرية الفرد... ديمقراطية التنظيم.. حكم المؤسسة. الشعار الذي قاد به الأمين العام آنذاك الشريف زين العابدين الهندي الحزب إلى ما يُسمى بالطريق الثالث، وكانت الفكرة بأن الحوار الوطني يبدأ مع النفس أولاً في نقد ذاتي للتجربة كاملة منذ النشأة والتكوين، وكان آخر الكلم ذلك الكتاب الذي هو حقيقة مرجعية جديدة في العمل الحزبي النظري بما حوى، وأيضاً كانت مقررات مؤتمري الاسكندرية «1 و2» التي خرجت كأوراق عمل، وكتيب التأصيل والتنظيم وبما حوى من أوراق عمل. وسارت الفكرة ككرة الثلج تتدحرج وتضيف إليها من الأفكار التنظيمية والسياسية والوطنية، وأيضاً الأشخاص انضم من انضم وأبى من أبى، حتى جاءت مبادرة الحوار الوطني الشعبي الشامل، الحوار مع الحاكم والمحكوم، التي كسرت الطوق بين حاجز المعارضة المسلحة وسلم تسلم، حوار مع النظام والجماهير أفضى إلى اتفاقية دمشق ذات البنود السبعة التي ابتدرت كل الحوارات، وسبقت كل المبادرات، وانبنت عليها كثير مما بعدها من مواقف الرافضين للنظام، إلى أن وقع الكل، واختتمت بنيفاشا وما ادراك ما نيفاشا.. هذا على المستوى الوطني. وعلى التوازي في كل ما سبق كان لا بد لآلية الحزب ان تعمل وفقاً لطبيعة الاشياء، واتساقاً مع الفكرة وماعوناً للتفاوض المؤسسي والحزب والجماهير، هذا طريق قال فيه الشريف زين العابدين رحمة الله عليه، انه طريق الآلام وانه للمستبيعين من الكوادر والقيادات، وكان لا بد لآلية الحزب أن تتطور من نواة صغيرة لفكرة إلى تنظيم ابتدأ منذ أن وطئت ارجل المبادرة أرض الوطن ممثلة في الأمين العام آنذاك المرحوم الشريف زين العابدين ومن معه إلا قلة من الرجال والمال يواجهون تحديات وطنية كأولوية قصوى وتحديات حزبية، لا بد أن تجاري الحدث العام، وكانت المجموعة على قدر المهمة، ولكنها سنة الحياة وديدن النفوس البشرية في تحولات شهدها تطور ذلك التنظيم داخل كتلة كبيرة واستطاع أن يخترق طريقاً ويجد متنفساً رغم الجراحات والاساءات وكثير من الضرب تحت الحزام وفوقه والأطراف، لكن المشوار مضى تحت تفاعلاته، وأصبحت الفكرة حزباً عقد مؤتمره العام ووضع بصمته على الحياة السياسية في السودان في القرن الحادي والعشرين، رغم التكتلات والمؤامرات من الحليف والصديق والأعداء. وكان أن انتخب لأول مرة رئيساً للحزب وأميناً عاماً، وتحول الحزب من التنظير إلى الواقع، ونجحت الفكرة في انتاج مؤسسة قد نتخلف حول ديناميكيتها وفاعليتها، لكنه نجاح وتطور ملموس لعشرين عاماً من تكوين النواة. ومن تلك النجاحات أتت من فكرة محاصرة في عقل انسان إلى صرخة وطنية فتحت الباب أمام انفراج سياسي، بغض النظر عن محدوديته، لكنه أسهم في تطوير المعالجات للأزمة السياسية، وانه شق الطريق للآخرين وذلك نجاح على المستوى الوطني. أما عن المستوى التنظيمي، فكانت مؤسسة مهما كان الرأي منقسماً حولها وفعاليتها، وما هو مطلوب منها، ومن فيها، إلا انها نجحت في ان تنتخب رئيسا للحزب وامينا عاما واجهزة حزبية من عامة الناس، وليس من عشيرة أو قبيلة أو طائفة، وقد حققت تلك ما نادت به أمام الآخرين في تحقيق ديمقراطية التنظيم وان توقفت، وايضاً إنتاج مؤسسة واجهزة ممثلة لجنة مركزية وأمانة عامة ومكتبا سياسيا، وهذا في جانب تحقيق النجاحات، ورغم التحديات الوطنية فإن فكرة الحزب المؤسسة قد وضعت اللبنة الاولى، كيف يكون عمل المؤسسة، وان لم تعمل ذلك فإنه لا يتم صدفة، انه فريق عمل متناغم وجماعي قام في بداياته بتنظيم دقيق وفعالية عالية وانجاز على مستوى التحدي الوطني والحزبي، قد يفوق كثيراً ما تم ويتم في أورقة منظومات تمتلك الكتلة والسلطة والمال والجاه.. المسألة ليست مسألة ما فعل الأشخاص، ولكن الفكرة أن العمل السياسي العام عمل ديناميكي متواصل يحتاج إلى ارادة وتفكير استراتيجي وادارة، وقد كانت كاريزما الادارة التي أُديرت بها البدايات لها من الادراك والفهم الاستراتيجي في العمل ما أخرج كل تلك الانجازات الواضحة للعيان، ومهما تحدث الإنسان أو المجموعة حول ما جرى وما يجري الآن فستظل المنظومة الادارية للفكرة هي الرائدة في قيادة العمل إلى مآلاته الحالية، بغض النظر عن الفاعلية والدينماكية التي تحتاج إلى حوار بناء، وليس نقداً للأشخاص، وما كسبوا وما اكتسبوا، وكل نفس بما كسبت رهينة.. وقديماً قالت الاعراب: «أروع النجوم هي التي تنير درب القافلة». * عضو المكتب السياسي للحزب الاتحادي الديمقراطي