* إن التسامح قيمة عليا ، وصفة محببة لبني الإنسان فى كل زمانٍ ، ومكان ، وغياب هذه القيمة ، يحول الحياة إلى جحيم لا يطاق ، حيث تتوتر العلاقات ، وتسوء المعاملات ، ويستشري الحقد والحنق بين النَّاس ، وبالتالي فلا فائدة لِرحْمٍ يَصِل ، أو وشائج دمٍ تختلط ، أو تمازجٍ ، أو مصاهرة. * وينسحب التسامح علي الرأي والرأي الآخر ، فلا يشتجر من هم على إختلاف ليتحول الأمر إلي خلاف ، ولا يلغي أحدٌ أحداً بحكم أن الإلغاء يقود إلي الإقصاء ، ومن يُقصى تلتهب النار فى جوفه ، فيحدث ما يسمي الإقصاء ، والإقصاء المضاد . * وفي عالم السياسة ، عندما يتمكن الفجور فى الخصومة ، وتطغي عوامل الصراع ، وعناصر النزاع ، لا يفكر المتخاصمون فى قاسم مشترك يجمع بينهما ، ولا إلي كلمة سواء تقرب بين موقف وموقف ، ورأي ورأي ، وإنما تجد العداوة ما يجعلها تسري بلا توقف ، وكل ذلك عندما تنعدم معايير السماحة ، وتغيب صفات القبول ، وإن كان هذا القبول تصاحبه عللٌ وعلات . * والتسامح السياسي ، لا يعني أن ينطبق الرأي مع الرأي ، ولكن قد يبقي الرأي مخالفاً ، والتباين قائماً مع وجود الودًّ ، وحسن الظن ، وإستمرار التواصل بأريحية وطيب نفسٍ ، مما يتيح مساحة للتواصل ، بعيداً عن التعنيف والمخاشنة ، والتبكيت . * وفي تاريخنا السياسي ، ظهرت نماذج حية أثبتت بأن أهل السودان لا يخلطون بين شأنٍ إجتماعيٍ ، وآخر سياسي ، لذلك نجد أن الأضداد السياسية تجتمع علي صعيد واحد عند المكاره ، فيعزي صاحب الفكر اليميني من يعتقد فى فكرٍ يساري ، ويلتئم شمل الأسرة الواحدة في الأفراح بالرغم من إختلافات توجهات أعضاء هذه الأسرة الفكرية التي تتجه من نقيض إلي نقيض . * والسماحة في كثير من الأحيان تحول العداوات إلي صداقات ، والنقائض إلي متماثلات ، والإختلافات إلي نسقٍ واحد ، وتناغم يعز عن النظير ، ولولا عمق وقوة التسامح في المجتمع السوداني ، لما عاد الرئيس جعفر نميري ليطلب مصالحة مع جماعات ناصبته العداء ، وقابلهم بشراسة ، وصفًّى جزءاً منهم لكنه سامحهم وسامحوه ، وعقد معهم إتفاقية جعلت منهم أعضاء في تنظيمه ، وآخرين نُصَّبوا من قبله وزراء . * كما أن ذات السماحة هي التي قادت جعفر نميري للعودة بعد الإطاحة به فى العام 1985 ، فلم يمسه سوء إلي أن توفاه الله ، بالرغم من أن فترة حكمه قد شهدت إعدامات ، ومشانق لطيفٍ واسع ممن كانوا علي خلافٍ معه ، أو حاولوا الإنقلاب عليه في فتره من الفترات . * والسماحة بين أهل السودان بحكم أنها مؤصلة ، وضاربة الجذور ، فإنها هي التي تجمع من تفرق وما تفرق ، وترمم البيت الذى تصدع ، والقلب الي تمزق ، والجفوة التي كادت أن تقود الجميع إلي صراع ونزاع . * وما أجمل السماحة عندما تكون أصلاً من أصول المجتمع ، وركناً ركيناً لا تهده الحادثات .