إنها التجارب العديدة، والمحاولات المستمرة، تلك التى تدعونا إلى الإيمان بالمرجعيات، وأولها يتمثل فى ضرورة مجادلة النَّاس بالحسنى، والابتعاد عن الفظاظة والغلظة، وذلك ينبغى إلا يكون مساراً يتحرج من السير بمقتضاه المتحرجون ويكفى الاستدلال لإثبات ما أشرنا إليه أن نذكِّر بقول الله سبحانه وتعالى «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» وقوله «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ». والذين يعتقدون بسمو فكرهم، وطهارة مقاصدهم لا يحملون الآخرين قسراً أو يسوقونهم عنفاً، بل يتبعون فى سبيل تحقيق أهدافهم النبيلة أيسر المناهج وألطف العبارات، فلا يجابهون الإساءة بالإساءة ولا التبكيت والتعنيف مقابل الصدود، وشراسة المواجهة، ذلك لأن الإنسان أودع الله فى طبيعته أسراراً، فلو تيسر لنا معرفة هذه الأسرار، لما احتجنا إلى إقناعه باستخدام أقذع الألفاظ، أو الجنوح معه إلى المحاصرة، والهزيمة بالسلاح. حيث إن الفطرة السليمة غالباً ما تمتثل للصواب شريطة أن يتبع من يملك الصواب طريق اللين متحملاً للإيذاء بعنصر الجذب للنَّاس، وليس بالعناصر التى تدعو إلى الانفضاض وأستغرب جداً من جماعات، ترى بأن الحق ليس إلا فى منطقهم، لكنهم لا يسعون بذات المنطق لإقناع الآخرين به، ويكون خطأ المنهج، وعيب الأسلوب، هو الذى أبعد عنهم من كان قريباً، وحوّل عنهم من كان صديقاً، وبالتالى أسهموا بفعل طريقتهم الصعبة، وأدواتهم الجارحة فى حرمانٍ نفرٍ كانوا على مقربة للاقتناع، وعلى درجة عالية من الاستعداد للانضمام لمسيرة الرأى الصائب، لكنهم وجدوا صداً، وحال بينهم وبينه المنطق العنيف، والمنهج العاجز، والافتقار لعنصر الجذب، وما يوجب الاقتداء. وإننا عندما ندعو إلى ممارسة اللين، واتخاذ سبيل الحجة والمنطق بدلاً من الإكراه القسري، والضغط المعنوى، فإننا بذلك لا ننحو منحىً شاذاً بالنظر إلى ما انعكس على الإسلام من تأييد وترحيب كان ثمرة للدعوة بالحسنى والمجادلة بالتى هى أحسن. ودعاة المناهج السياسية، والرؤى الفكرية، والذين درجوا على اعتلاء منابر المساجد واعظين ومرشدين، كلهم مطالبون بطرح الأفكار، وتصحيح المفاهيم بأسلوب مقبول، دون تشدد وانكفاء، ودون حذلقة أو رياء. والنظريات السياسية، كما الاقتصادية وسائر المفاهيم، تقتضي أن يُسلك من أجل تحقيقها على أرض الواقع، طريق الرفق والسماحة، وإلاَّ لانقلب الحال، وساد الاختلاف، وطغى على مجتمع النَّاس الصراع والنزاع. وياليتنا جميعاً نعلم ونعمل بمقتضى الآية الكريمة «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» وما أروع سماحة الإسلام وما أسعد ذلك الذى يعيش مستمتعاً في ظل دوحته الوارفة الظلال!!.