قال أستاذي المرحوم الدكتور كمال إبراهيم بدري وقد جاء من أندونيسيا في إجازة وذهبت لزيارته في منزل جده العتيق بابكر بدري في شارع العرضة بأم درمان: «الناس في الدنيا كلها يبنون البيوت ثم يزرعون فيها الحدائق، إلا في أند ونيسيا... لأن أند ونيسيا حديقة كبيرة فإذا بنى الناس فيها بيوتاً كانوا بذلك قد حصلوا على البيت والحديقة معاً!». هكذا دائماً يعلق د. كمال بدري بثقافته العالية وجَلَده على المطالعة وظرفه إذ لما كنا في شمال نيجيريا ما جاءت سيرة مدينة كدونا إلا قال «كادونا العوازل» وميدغري إلا قال «ما دغري» وكنو إلا قال «كانوا ثم بانوا».. كان يجلس مع الطالب النيجيري ليفهمه درساً عويصاً في النحو العربي تحت ظل شجرة أربع ساعات ولا يمل. في آخر أيامه حج واعتمر ومات في اندونيسيا في الفصل وهو يمسك الطباشيرة ويدرس... تلك الميتة التي طالما تمناها جده بابكر بدري فحصل عليها كمال... هكذا أخبرتني أخته لأمه زميلتنا الدكتورة منى كنتيباي. وسبب هذه «الرمية الطويلة» استلافًا من صديقنا بروفيسور عبد اللطيف البوني هو أن الأندونسيين عمَّروا قطاراً قديماً عمره أكثر من مائة سنة وأجروه في سفرة مداها أكثر من مائة ميل في ضاحية بارعة الجمال في أرضهم التي لا تنقطع عنها الخضرة ولا الماء؛ حتى يركبه الناس بغرض السياحة والترفيه، علماً بأنَّ سعر التذكرة لهذه الرحلة الشائقة هو أربعة دولارات لا غير، يعني عشرة جنيهات سودانية. وجاءت الكاميرات بالاندونيسيين السعداء وهم ينطلقون في رحلة القطار الرومانطيقية هذه، والقطار يطلق صافرته التي طالما أتلفت أعصاب المسافرين والمودِّعين على نطاق الدنيا، وكأنِّي بزنقار يقف على محطة السكة حديد التي قالوا إن عمرها مائة وثلاثون سنة وهو يغني «من بف نفسك يا القطار ورزيم صدرك قلبي طار ... وينو الحبيب ... زي ما شلته جيبو يالقطار!». قلت عندها نحن أولى بمثل هذه الرحلات.. فعندنا محطة عطبرة للسكة الحديد التي يناهز عمرها المائة والثلاثين عاماً... فلماذا لا نعمِّر قطاراً من هذه القطارات القديمة ونجريها نحو أركويت في شرق السودان، أو جبل مرة في غربه أو نحو حظيرة الدندر، فنحن نمتلك زيادة على ما يمتلك الأندونيسيون هذه العاطفة الجياشة من الموروث العربي القديم؛ حيث كان الناس يقفون على أطلال المحبوبات ويبكون، نحن بدلاً من الانتباه إلى مثل هذه اللمسات الإبداعية الرائعة، نكره قديمنا ونعتدي عليه وليس أدل على ذلك شيء مثل إلغاء «الترام» وتحطيم محطات السكة الحديد... قالوا إن فكرة إلغاء الترام جاءت من أحد المسئولين الشديدي الوطنية الذي رأى في الترام «مظهراً من مظاهر الاستعمار» إن كان ذلك صحيحا فلماذا لم يكسروا القصر والجامعة وكبري النيل الأبيض ويحرقوا مشروع الجزيرة «أعرف أن أحد القراء سيقول من تحت أسنانه في غيظ ... قد فعلوا». الإدارة تحتاج أحياناً مع «القرارات والقوانين واللوائح» إلى شيء من الخيال الفنان الجامح الذي يبهج الناس ويطور الحياة... كان أحد أصدقائنا يقول إن رائعة تلودي وزنقار «من بف نفسك يا القطار» من منقيات الدم... يقول ذلك غير ملتفت لاعتراض من قد يعترض من الأطباء.