آخر ما يمكن أن تسببه المفاهيم القادمة من خارج أية ثقافة، هو انقلاب هذه المفاهيم على نفسها حتى لو كانت تلوِّح بالخير وتُقدم الخلاص، وليس مثل مفهوم الديمقراطية - بالشكل الذي تُصدَر به إلينا من بعض الدوائر الغربية - تمثيلاً لهذه الحالة، بينما هذا المفهوم نفسه، وبالشكل الذي يُطرح علينا، يتعرض للمراجعة الفكرية في الثقافة الغربية ذاتها.قبل أن نهلل لرياح الديمقراطية الآتية من بعيد، لابد أن نراجع محتواها لعلها تكون مفرغة من مضمونها الإنساني فتنقلب على نفسها وعلينا صناديق الاقتراع وحدها، يمكن أن تأتي بأوخم العواقب إذا كانت قواعد الاختيار خاضعة فقط للعدد وتحرّكها غوغائية الشعارات ثمة أصوات قادمة تحذّر من الآيديولوجيات الهمجية، التي تفرزها ممارسات اقتراعية لا تستند إلى القيم الإنسانية والحضارية لذلك تكون الثقافة هي المدخل الحقيقي لتمكين الديمقراطية من الترسخ في المجتمع، واستعادة جوهرها الحضاري الذي يحترم التعددية ويصون كرامة وحقوق الإنسان . هلل كثيرون لرياح الديمقراطية الوافدة على المجتمع السوداني ، وبغض النظر عن صدق أو عدم صدق من يقف وراء هذا الوافد عبر الحدود وعبر الثقافات، فإن هذه الديمقراطية المرادة لنا تظل مبهمة الملامح لأنها كادت تقتصر على ملمح واحد هو ملمح التغيير عبر صناديق الاقتراع، وكأن صناديق الاقتراع هذه - شفافة أو غير شفافة - فيها الحل السحري لكل مشاكلنا. لكن طرح مفهوم الديمقراطية بهذا الشكل المتسرع ، مع ما ألحق به من مطالبة بحريات اجتماعية ، أيقظ لدى المثقف السوداني مخاوف وتحفظات كثيرة، بالرغم من إيمانه بجوهر الديمقراطية كنهج، لتأكيد حرية الإنسان وتشريف اختياره والتشديد على حقوقه في الحياة والتطلع للأفضل ومن ثم تبدوالمفارقة بين التحبيذ والتحفظ في مسألة الديمقراطية عالجتها أقلام سودانية عديدة، رصدت اعتراضات من زوايا مختلفة تخص هذا الحزب السياسي أو ذاك، بينما حقيقة التحفظات في صميمها ينبغي أن تكون ثقافية، لأن التحفظات في هذه الحالة لن تصب في خانة أن الديمقراطية مسألة هامشية، بل تصر على أن الديمقراطية مسألة أساسية تمامًا في صلب أية عملية إصلاح أو نهوض سوداني مرتقب، ولكن أية ديمقراطية نريد؟ وأية اجتهادات ديمقراطية تكون لنا أنفع وأكثر قدرة على الحياة والتفاعل مع الواقع بجذوره وفروعه المتشابكة، دون تعسف ولا اصطناع؟فالديمقراطية بكل تجلياتها الجوهرية هي نشاط إنساني، ومادامت كذلك فلابد لها أن ترتكز على أسس ثقافية وثيقة الصلة بالإنسان الذي يمارسها، أي تجد الاجتهاد الملائم لهوية كل إنسان في حقل الممارسة الديمقراطية وفي ذلك على الأقل في الوقت الراهن. ويبدو أن مشكلة بعض المثقفين هي أنها تتردد بين التشكيك بصلاح الديمقراطية والأخذ بها كوصفة، مع الاعتراف بأن الديمقراطية لاتقدم حلا لجميع مشاكل المجتمع السوداني، إلا أنها تعبر عن تطور نظرة جديدة للإنسان، تضعه في إطار المشاركة، وتراهن على عمقه الأخلاقي الإيجابي. ذلك أن الديمقراطية ممارسة وإبداع يومي، تتكفل مختلف عناصره بتخفيف الضرر الناجم عن تكليف قطاع واسع من الناس لممثلين منهم بإدارة شئونهم خلال فترة معينة من الزمن والشعوب كالأفراد لاتتعلم إلا من تجاربها الناجحة والفاشلة، وأضمن وسيلة للتعلم هي الشروع في التعلم باكرًا.لكن هذا التعلم المبكر، على أي منهج ديمقراطي سوف يسير؟ ومن أي ينبوع للحريات سوف يرتوي؟ فثمة ملاحظات ثاقبة بدأت تنتبه للديمقراطية الشكلية التي لا تعني - في أفضل صورها المعروضة علينا - إلا تسلط الأكثرية، بينما الذي نريده منها، أخلاقيًا وحضاريًا أن تكون معبرة عن التعددية واحترام حقوق الإنسان الفرد، دون جور مما يبدو أنه أغلبيات، أغلبيات تحصل على مواقعها لأسباب لا تتعلق بالاختيار الرشيد، بل بغوغائية الخطاب الذي يداعب الغرائز السياسية أو الاجتماعية أو الدينية لجمهور الناخبين، خاصة إذا كان الجهل والأمية يسودان هذا الجمهور. وليس هذا وقفًا على ما يمكن أن يحدث في المجتمعات الموصوفة بأنها مجتمعات متخلفة فقط، بل هي ظاهرة ملحوظة ومروعة في كثير من الديمقراطيات الأخرى التي يفوز بثمرتها الآن من هم أكثر مجاهرة بالتوجهات المنغلقة والمتعصبة عرقيًا والمتعالية على الآخرين، علماً بأن التصحيح غالبًا ما يأتي بعد خسائر مادية وروحية هائلة تصيب جسد الأمة، ويتطلب تعويضها تكاليف باهظة. فهل يحتمل جسد المجتمع السوداني، المنهك أصلاً، مغامرة الخسارة وفداحة التعويض؟ أم أن المراجعة والتحفظات لابد أن تكون واضحة من الأساس، ولابد من البحث عن مكمن الخلل، أو عقدة الافتراق بين الديمقراطية الشكلية مقصورة على أطرها السياسية وبين الديمقراطية مشمولة بالقيم العليا الإنسانية الكائنة في جوهرها الحضاري والأخلاقي؟إن التحفظات الناشئة في مواجهة عصف رياح الديمقراطية القادمة واحتمالات تعسفها، ليست وقفًا على المجتمع السوداني، فالدول الغربية نفسها يعتري بعضها القلق من جراء تشوه المثل الأعلى في الديمقراطية ،علماً بأن مصطلح الديمقراطية بات يطغى على المحتوى السياسي، ويكاد يحدث تزييفًا متعمدًا يحول دون القدرة على استيعاب طبيعة هذه التجربة كما تكشف عن نفسها على أرض الواقع. وعلى خلفية هذا التناقض بين الشكل والمضمون، هنالك بعض الأحزاب أخذت تهيمن على مفاتيح السلطة السياسية وتصادر وسائط الإعلام، على اختلافها، وتلقي بتأثيرها على أذهان الأكثرية الساحقة على نحو يذكر بغسل الأدمغة. على هذا الأساس، يكون الفرق واضحاً بين ممارسة الديمقراطية وتعبئة الأكثرية للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات بذريعة أن نظامًا سياسيًا كهذا يفترض هذه الممارسة الاقتراعية بغض النظر عن المشاعر والهواجس أو حتى الأفكار العدوانية التي تفعل فعلها في الناس. وهو يرى، في هذا السياق، أن الأكثرية التي تمارس حقها الانتخابي، إنما تستخدم هذه الآلية السياسية، على نحو انتهازي، للتعبير عن ميول شعبية ساحقة، هي في الواقع منافية للتجربة الديمقراطية، لا بل تشكل مقتلاً لها. والسبب في ذلك أنه عندما تستنفر الأكثرية على قاعدة من الميول القومية عدوانية كانت أم متطرفة ، سرعان ما تتحول إلى كتلة غريبة عن الواقع الديمقراطي ، تكمن في أنها تغرِّب الأكثرية عن مصالحها الحقيقية، وتجعلها فريسة لأوهام لا علاقة لها بواقعها. ذلك أيضًا، ، حيث الديمقراطية صارت لا تعني - في الممارسة - غير حكم الأغلبية وتسلطها، بينما تعني الليبرالية: التعددية وعدالة القانون واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين البشر. ويرى أن هذا التغيّر أو التشوّه مرجعه تغير ميول جمهور الناخبين الذين صاروا أميل للمحافظة، وأقل قبولاً للآخر، وأكثر نبذًا لحق الاختلاف، ومن ثم أكثر تعصبًا وضيقًا بالأقليات، وأوفر تزمّتًا اجتماعيًا. فإذا كان هذا هو حجم وإطار القلق لدى الأحزاب السودانية إزاء ما لحق بالقيم الديمقراطية ذات الأبعاد الحضارية من تآكل، بل تكريس لغوغائية الأعلى صوتًا، والأمهر في مغازلة الميول المتعصبة والأنانية لدى الجماهير، فما بالنا بواقعنا السوداني الذي تقدم تربته المثقلة بتراث الطائفيات والعصبيات والقبليات والعشائريات من حقل خصب لنمو الغوغائية، بل الهمجية، الهمجية تجاه المختلف والمعترض والمغاير؟! إنها همجية مخيفة يمكن أن تأتي ببساطة عبر صناديق الاقتراع، في ظل أُمية غالبة بمجتمعنا تقارب نسبتها الستين في المائة، فضلاً عن الأمية الثقافية لدى كثير ممن أفلتوا من أمية القراءة والكتابة، فهل يعني ذلك رفض الديمقراطية عامة، وتحبيذ نقيضها؟ بالقطع لا، فلا تزال الديمقراطية هي الاجتهاد الإنساني الأفضل لصون حقوق الناس في المجتمعات المعاصرة، شرط الحذر من تفريغها من محتواها الإنساني والحضاري، وتجاهل واقع كل قيم الأمة وتراثها الثقافي. ومن هنا تلوح الديمقراطية كحقل رحيب يتسع للاجتهادات التي هي ثقافية حتمًا. إن التحدي الذي يواجهه الأمة السودانية اليوم، ليس بناء الديمقراطية كنظام كامل وجاهز، ولكن بدء عملية التحول والانتقال الطويلة حتمًا إلى الديمقراطية، وبشكل سلمي ومختار، عبر توسيع دائرة الحريات وحقوق المواطنة العادية، التي تسمح للرأي العام وللأفراد على اختلاف انتماءاتهم ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية بالمشاركة في التفكير الجماعي الحر في المستقبل، ويجب أن تكون المسألة الوطنية والاجتماعية هي المدخل إلى عملية التحول الديمقراطي، ونحن نفهم أن التحوّل الديمقراطي المقصود، هو قطعًا الرافض للهمجية المشار إليها، عبر المؤسسات المدنية لطرح مفاهيم التعددية والانفتاح على الآخر المختلف، الأمر الذي من شأنه القبول بآلية الديمقراطية بصورة سليمة وصحيحة، وإلاّ فستصبح جهود تعميم الديمقراطية بطيئة جدًا علماً بأن الأحزاب السودانية اختصرت الديمقراطية في أحد مظاهرها فقط، وهو صندوق الاقتراع، فالديمقراطية ليست آلية، إنما هي ثقافة، أو ثقافة الديمقراطية شرط أساسي لقيامها لا يقل عن آليته. إن صمام الأمان لضمان عدم تفريغ مفهوم الديمقراطية من محتواه الإنساني الأهم، والمرتبط بقيم المشاركة، التي تعني حق الاختلاف، واحترام هذا الاختلاف، والحرص على التعددية وصون كرامات الناس، بإعمال العدالة بينهم ورفعة القانون، كل هذه التحصينات لمفهوم الديمقراطية الحضارية، لا الغوغائية، لا يمكن الارتقاء إليها، إلا برفع أداء الناس الحضاري لتكون اختياراتهم أكثر رشدًا، وأحكامهم أصلح، وهذا طموح لا سبيل إليه إلا بالتأني واحترام واقع الشعب وثقافته وتراثه، وتوسيع رقعة وتأثيرات الثقافة، خاصة ثقافة الديمقراطية: الحرية الفردية، حرية الرأي، حرية التعبير، حرية الفكر، ثم الحريات الجماعية، وهذه تتطلب المزيد من المداخلات المجتهدة، التي توائم بين هذه الثقافة، وتراث المجتمع لصياغة تجربة خاصة توائم المجتمع، وتصبح آلية لتطوره السلمي نحو التحول الديمقراطي. ويبقى الموضوع مطروحًا للنقاش والاستمرار في الحديث حوله من كل الكتّاب والقرّاء المهمومين بهذه المسألة المصيرية التي نحن في طريقنا إليها الآن .