كثيرون هم الذين يعتقدون ان السودان استفاد من الاستعمار البريطاني اكثر من الفائدة التي عادت لبريطانيا من السودان وهم يتحدثون عن تلك الفوائد وفي مخيلتهم ،ذلك الارث الذي تركته بريطانيا ممثلا في بعض المشاريع التي يعتبرها البعض من المشروعات الكبرى مثل مشروع الجزيرة وخط السكك الحديدية وفي منظورهم ذلك الارث الذي تركته بريطانيا من بعض النظم الادارية مثل تأسيس الخدمة المدنية والنظام القضائي والذي لا زالت بعض قوانينه تجد الممارسة مثل قانون الشركات لسنة 1925م. وانا هنا لا أتحدث عن الفوائد التي عادت لبريطانيا من استعمارها للسودان من انها سرقت خبراته ونهبت موارده وحملتها فوق القطارات والبواخر وذهبت الى مقر المملكة التي لا تغيب عنها الشمس. ولكن هناك دروس وعبر ومواقف استفادت منها بريطانيا واوربا بشكل عام من السودان ولعل اولى هذه الدروس هي تلك الانتصارات التي حققها الامام محمد احمد المهدي على الاستعمار البريطاني واستطاع هذا السوداني البسيط ومعه قلة من اهل السودان ان يهزم بريطانيا وحضارتها في شخص غردون باشا رمز قوتها العسكرية والذي جيء به من الصين ليؤدب اهل السودان ويذيقهم طعم الهزيمة كما اذاقها اهل الصين، ولكن الحسابات اختلفت وكانت هزيمة افزعت اوربا سيدة العالم في ذلك الوقت ، واصبح القصر الجمهوري والذي قتل فيه غردون مزارا لكل الوفود الصينية التي تزور السودان لتقف عند المكان الذي قتل فيه غردون الذي اذاق اهل الصين كل اصناف العذاب والاضطهاد. هذه الهزيمة جعلت بريطانيا واوربا بصفة عامة تعيد حساباتها وتراجع مواقفها في مستعمراتها التي لا تغيب عنها الشمس - وكان هذا الدرس من السوداني محمد احمد المهدي جعل اوربا تعيد شيئا من العلاقات مع تلك الشعوب ولا تنظر اليها كما ينظر العقيد القذافي لشعبه ويصفه «بالجرذان».... واذا لم نذهب بعيدا ففي عهد الخليفة عبدالله التعايشي خليفة المهدي فقد ارسل رسالة شهيرة الى الملكة فكتوريا ملكة المملكة المتحدة العظمى رسالة يدعوها فيها الى الاسلام ويقول لها : (اذا اسلمت وحسن اسلامك لزوجناك يونس ود دكيم) ويونس ود دكيم هو احد رجال ثورة المهدية ومحاربيها ، والخليفة عندما يقدم يونس ودكيم زوجا لملكة بريطانيا مقابل اسلامها فهنا تتعاظم اهمية يونس ود دكيم. ورغم الخبراء والمحللين من اهل الدبلوماسية الحديثة ينتقدون هذه الطريقة التي قدم بها الخليفة دعوته لملكة بريطانيا للاسلام إلا انني اعتقد ان الخليفة عبدالله هو صاحب السياسة المعروفة الآن في دنيا السياسة والدبلوماسية سياسة (العصا والجزرة)، وقد يكون له الحق تاريخيا بقدر ما انتشرت رسالته هذه لملكة بريطانيا بالدخول للاسلام وتزويجها ليونس ود دكيم، وبالتالي يكون يونس ود دكيم ايضا دخل التاريخ من باب آخر غير باب الثورة المهدية وهو اول (جزرة) لوّح بها في وجه قوى كبرى...! وبالتالي يحق للدبلوماسية السودانية ان تفخر بهذا الامر بان سياسة (العصا والجزرة) خرجت لأول مرة من السودان وكما هو معروف فان هذه السياسة تخرج من الاقوى للاضعف في نظر اليوم والخليفة في ذلك الوقت يعتقد انه الاقوى بتلك الحسابات والتي انتصرت فيها الارادة السودانية وهزمت بريطانيا وحضارتها في شخص غردون باشا وكما ذكرنا فان هذه الهزيمة افزعت اوربا سيدة العالم في ذلك الوقت وبالتالي من حق الخليفة عبدالله ان يلوّح بالجزرة في وجه ملكة بريطانيا المهزومة. واذا اقتربنا اكثر فنجد السيد دونالدهولي وهو احد ألمع الاداريين البريطانيين الذين عملوا في السودان خلال فترة الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي فقد ذكر في احد كتاباته الى ان الموروث الثقافي والحضاري السوداني الذي استلهم البريطانيون بعض اسباب نجاحهم في وضع اللبنات الاولى لبناء الدولة السودانية وبالتالي يشير هذا البريطاني الي الموروث الحضاري، والثقافي وكان يشير الى تلك الحضارة الضاربة في عمق التاريخ وتخلدها آثار البجراوية والبقعة والمصورات والبركل، وان السودان القديم من ترهاقا وعبره والبعض يعتقد ان السودان بنته بريطانيا والتاريخ هو الذي يتحدث عن ذلك كله ولعل احدثها قيام دولة سنار التي قامت في عام (1504م) واسست لحكم (لا مركزي) في ذلك الوقت وايضا لها الحق التاريخي كما انها اسست اول اتحاد بين امارات مختلفة قبل ان يؤسس الشيخ زايد بن سلطان اتحاد الامارات بين ابوظبي ودبي والشارقة والفجيرة وعجمان ام القوين ورأس الخيمة في عام (1971م). وقبل ان تأتي اوربا بالاتحاد الاوربي الذي جمع الآن اكثر من (27) دولة في اتحاد واحد محكومة بسياسة واحدة، ألا يحق للدبلوماسية السودانية ان تفخر بالشخصية السودانية في عمق التاريخ وهي تنفرد بمثل هذه المبادرات في ذلك الوقت ويجئ العالم اليوم ليقول لنا ان هذا هو الاساس الصحيح الذي يفترض ان تسير عليه الاشياء. ولم يدرأن اهل السودان قدموا فيه نماذج واذا قفزنا بالزمن ووصلنا الى عام 1956م، وهو تاريخ استقلال السودان وتاريخ تأسيس وزارة الخارجية السودانية والخارجية هي الوحيدة التي لم يكن اساسها استعمارياً بنيت عليه مثل المالية جاءت من السكرتير المالي البريطاني والداخلية اسس لها السكرتير الاداري البريطاني ولكن الخارجية هي الوزارة الوحيدة التي كانت سودانية خالصة. ويذكر السفير الدكتور البشير البكري وهو من الذين تم اختيارهم للعمل في وزارة الخارجية في بداية تأسيسها وكانت محطته الاولى الى فرنسا لمعرفته باللغة الفرنسية والمجتمع الفرنسي وروى هذه الواقعة (اذكر في السنة الاولى ان احد ضيوفي في السفارة السودانية بباريس هو سفير ووزير واستاذ يدعى (جوكس) كان اول السفراء الفرنسيين الخبراء الكبار الذين عملوا في الاتحاد السوفيتي عين في ايام الجنرال ديجول، سألني كيف تكونت وزارة الخارجية السودانية الناجحة؟ شرحت له طريقة تكوين وزارة الخارجية من وجوه سودانية مختلفة التخصصات والثقافات وبعد ان انتهيت من حديثي اذا بالرجل يضحك ضحكة شديدة ثم قال: (اكتمك سبب هذه الضحكة، اضحك لا اقول لك ان كنت محرجا وانت تروي نشأة وزارة الخارجية هذه النشأة الجديدة في العالم الثالث ونحن في فرنسا رغم ممارستنا للدبلوماسية منذ زمن بعيد نفكر في ادخال اضافات جديدة في وزارة الخارجية بدخول وجوه من جهات اخرى مميزة بالكفاءة ولا نعتمد على الدبلوماسيين المحترفين) انتهى حديث السفير الفرنسي في منتصف الخمسينيات ليجد ان السودان سبق فرنسا في هذا المجال وادخل وجوهاً ذات تخصصات وثقافات مختلفة في الوقت الذي كانت فرنسا في ذلك الوقت منتصف الخمسينيات ان تدخل امرا جديدا على الدبلوماسية لتجد ان السودان سبقها في هذا المجال. ولعل من تلك الوجوه التي قدمتها الدبلوماسية السودانية مختلفة التخصصات قدمت الخبير التربوي الاستاذ عوض ساتي ليكون سفيرا في لندن وتم ا ختيار محمد احمد النيل وهو مهندس ليكون سفيرا في روسيا والدكتور ابراهيم أنيس وهو من الاطباء المعروفين سفيرا بواشنطن والدكتور الحضري وهو طبيب ليكون سفيرا في الهند وكان محمد عثمان يس وهو رجل اديب تعلم في بريطانيا كان وكيل الخارجية. وبمناسبة بريطانيا هذه فان فكرة هذا المقال تداعت اليّ وانا اتابع ما ينشر في الصحافة السودانية من مقالات من مدونة السفير البريطاني في الخرطوم نيكولاس كاي والذي لم يكمل عامه الاول في الخرطوم والتي جاءها من كنشاسا حيث عمل سفيرا لصاحبة الجلالة (2007 - 2009م) وهو الآن في الخرطوم يكتب ل (الصحافة) وهي ايضا تسمى (صاحبة الجلالة) وبالتالي يكون نيكولاس كاي هو سفير لصاحبة الجلالة (ملكة بريطانيا) بالاصالة وسفير لصاحبة الجلالة (الصحافة) بالوكالة. والكتابة في (المدونات) في المواقع الإلكترونية يبدو انها سياسة بريطانية في العمل الدبلوماسي باعتبار انها تحقق عدة فوائد عامة وخاصة لتصبح في النهاية مجموع هذه المدونات هي عبارة عن كتاب او كتب يمكن ان تحقق الفوائد المرجوة في رسم السياسات المستقبلية او ان تصبح تلك المدونات عبارة عن مراجع وتحقق في ايام نشرها على الصحافة او المواقع الالكترونية جزءا كبيرا من المهام الدبلوماسية وطرح افكار جديدة على الرأي العام المحلي الذي يمثل فيه السفير بريطانيا اي كان موقعه. وتغض الخارجية البريطانية الطرف عن تلك الكتابات ما لم تمثل لها حرجا دبلوماسيا مع حلفائها الاقوياء او الضعفاء، وتأكيدا على هذا القول فقد تبرأت الخارجية البريطانية بل واعلنت الحكومة البريطانية (الحكومة) وليست (الوزارة) انها سحبت مقالة كتبتها سفيرتها في لبنان على مدونتها اشادت فيها بآية الله محمد حسين فضل الله وهو احد القيادات الدينية في لبنان توفى العام الماضي ، واوضح المتحدث باسم الخارجية ان النص الذي كتبته السفيرة سحب لأنه رأي خاص (حسب قوله) وكانت السفيرة كتبت مقالا في مدونتها بعنوان (وفاة رجل شريف)..! قالت فيه ان فضل الله كان اكثر من سياسي لبناني وسعدت بلقائه... ونحن نتابع مدونات السفير البريطاني في الخرطوم والتي تنشرها الصحافة السودانية نأمل ان لا يجئ ذلك اليوم الذي تبرأ الخارجية البريطانية مما كتب في مدوناته خاصة وان الناطق الرسمي باسم الخارجية البريطاني عمل مدرسا في الميدان والجمامعات السودانية ومتزوج من سودانية وبالتأكيد يعلم الطبيعة السودانية والسياسة البريطانية. وكنا نسأل ماذا يريد السفير البريطاني من نشر مدوناته على الصحافة السودانية هل يريد اختراق في العلاقات السودانية البريطانية ؟ هل يريد ان يحدث مفاهيم جديدة في العمل الدبلوماسي؟ ومهما كانت اهدافه، فان عليه ان كان يريد تفصيلا للعلاقات فعليه: /1 الدعوة للقاء جامع للمهتمين بالعلاقات السودانية البريطانية. /2 تفعيل جمعية الصداقة السودانية البريطانية. /3 العمل من اجل تبادل الزيارات على المستوى الشعبي بالتركيز على دعوة شخصيات بريطانية من التنظيمات الشعبية لزيارة السودان خاصة في المجالات الرياضية والثقافية والفنون. أما ان كان السفير البريطاني يريد بهذا العمل اضافة جديدة للدبلوماسية بصفة عامة فاذا نجح في مهمته مثل ما فعل اهل السودان من قبل وما اشرنا اليه فإننا لا نتوانى في منحه شهادة ويكون اول سفير بريطاني بدرجة (زول)...!