الدرس الليبي يخبرنا بوضوح متكرر: أن شخصا واحدا لم يمكنه «فهم» مطالب شعبه في الوقت المناسب، يتسبب لهذا الشعب بجرعات من ألم لا حدود له: اليوم ولأجيال قادمات. فها هو تعنت العقيد القذافي يستدعي تدخلا دوليا لحماية المدنيين في ليبيا، فمنذ كوسوفو في مارس 1999م لم يعد ممكنا للعالم أن يشهد المدنيين يقتّلون دون أن يفعل شيئا لإنقاذهم، وقد تم تفعيل مفهوم «مسؤولية الحماية» منذ ديسمبر 2001م للفصل بين مفهومي السيادة وضرورة حماية المدنيين «موسوعة الدهشة من الشبكة العنكبوتية». ولو تواطأت الحكومات وأجهزة الإعلام «كما فعلت في دارفور والآن ما حدث من تأخر تدخل المجتمع الدولي في موضوع ليبيا» بسبب المصالح ومجاملة الحكومات في حالة ليبيا أو بسبب تصنيف شعب ما، بعدم الأهمية في حالة دارفور فالشعوب في تلك الدول «أي الدول الفاعلة في المجتمع الدولي»، لا تترك الحكومات لحساباتها تلك، لأن القطاع الثالث أي منظمات المجتمع المدني تستطيع تحريك اللوبيات التي تسقط الحكومات متى ما لم تتبع نبض الجماهير وتستجيب لحاجتها وأمرها، وقد صار الناس في جميع الكون شركاء في الأفراح والأتراح بسبب الثورة المعلوماتية والتقنية وثورة الاتصالات: فما أن تشكو الألم في ليبيا، مثلا، حتى يشاركك كل إخوة الإنسانية في كل قارات الدنيا في نفس اللحظة وبذات العمق. وبهذه المشاركة لا مناص من تدخل المجتمع الدولي للحيلولة بين المجرمين والفتك بشعوبهم. وفي مساء 19 مارس 2011 قام التحالف الدولي بتوجيه ضربات موجهة في عملية سميت «فجر أوديسا» لتحصينات القذافي الجوية لترده إلى صوابه. ومع أفضلية معالجة أزمات الدول داخليا دون تدخل خارجي، لأن ذلك قد يفتح طاقات القدر المجهولة وأبواب الأجندة الخارجية، ولكنها الخيارات اليائسة تجبر الناس حينما ينفرد مجرم، بشعب أعزل يقصفه بالطائرات والأسلحة الثقيلة يصير لا بد من وقفه لحماية الشعب وكما قال المتنبي: يأتي على المرء في أيام محنته زمن حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وندعو ربنا أن يتغمد أهل ليبيا برحمته ويهيئ لهم من أمرهم رشدا. في السودان نجد تعنتا مماثلا لتعنت العقيد الليبي حمانا ربنا من عواقبه «بصلاة تنجينا» «تجدها في راتب الإمام المهدي». ونقول ذلك من رصد دقيق لمحاولات عديدة حاولت جميعها إسماع الحكام صرخة داوية مفادها:عدم الاستجابة لمطلب الشعب الأوحد بديمقراطية حقيقية ستنجم عنه احتقانات تتفجر في شكل احتجاجات شعبية واسعة إن سدت المنافذ أمامها تكون عنفا أكثر شمولية: بحمل السلاح ضد الحكومة «وقد حدث هذا منذ 2003م في دارفور» أو وسائل الضرار الشامل التي وصفها الإمام الصادق في سياق حديثه عن العلاقات الأمريكية الإسلامية والعربية بعد 11 سبتمبر، مفسرا بأن مواجهة أمريكا العنيفة لما سمَّته بالإرهاب بوسائل التدمير الشامل تترك من صنفتهم أعداءً لها، بسبب فوارق الإمكانات بدون خيارات للتنفيس عن الغضب الناتج عن الظلم، فيلجأون لوسائل الضرار الشامل المذكورة من أعمال تخريبية وربما اغتيالات وتفجيرات، مما يفسد الحياة السياسية ويمزق الوطن إن وصلنا لمرحلة تلك الخيارات اليائسة في السودان. تلك الصرخات المثابرة لم تجد حظاً من استجابة، وكانت ومازالت تقع على آذان صماء وقلوب عمياء. وبينما كان الإهمال حظ مساعي الحادبين الحثيثة تلك، نجد أن «المنقذين» من المؤتمر الوطني منشغلين باستغراق: بحثا عن شرعية تمكنهم من البقاء أطول ! لكن تلك الشرعية المفقودة منذ يومهم الأول، ليس لها من سبيل، لا أمس ولا اليوم وحتى يرث الله الأرض وما عليها، والسبب واضح لكل من يريد أن يرى: لا شرعية لما أُسس على باطل، بقاعدة شرعية شديدة الوضوح مفادها: ما بني على باطل فهو باطل. وبقوله تعالى عزّ من قال «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» التوبة «109». ويمكننا رصد ذلك السعي اللاهث المتوسل للشرعية دون جدوى في عدة محطات: أولا: من خلال شعارات البيان الأول: استيقظ الناس في قيظ يوم «جمعة» يوم 30 يونيو 1989على أصوات المارشات العسكرية وصوت الانقلابيين بلسان العميد أ.ح «آنذاك » عمر حسن أحمد البشير رئيس مجلس قيادة «الثورة»، يخبرهم بدم بارد أن حرياتهم قد سلبت بليل وحقوقهم اُنتهكت وبلادهم ستحكم دون إذن منهم لأكثر من عقدين قادمين، ولولا ضيق الرقعة المتاحة لأوردت لكم أعزائي القراء ذلك البيان الأول كاملاً، فقراءته مقرونا بما آل إليه الحال اليوم، تكفي وحدها ليتيقن قارئه من أن الإنقاذ حققت عكس مقاصدها بشكل مريع وبحسب العز بن عبد السلام «أي عمل يأتي بنتائج عكس مقاصده فهو باطل» بما يوجب تنحي هذا النظام فورا، لحظة غدا ذلك الفرق بين الأهداف والنتائج واضحا لا يغالط. وذلك عدا خيانة الأمانة والكذب وخيانة العهد التي ولغ فيها الانقلابيون بانقلابهم على حكم شرعي، منتخب هم شركاء فيه لا يعانون من عزلة أو اعتزال ليس بكسبهم بل بكرم أهل السودان، «كل من تابع تلك الفترة يدرك كيدهم الذي كادوه للديمقراطية بوضوح سافر يكفي لعزلهم من الحياة السياسية منذ ذلك الزمن». سنتجاوز عن الإنشاء في مقدمة البيان فهي محض ترهات وأكاذيب لن تزيدنا إلا غيظا على غيظ، وسنأتي بأهم النقاط التي أثارها المنقذون في بيانهم الأول، ونكتفي بلفت النظر إلى آخر تطور في الملف قيد النظر في أقواس بجانبها. تحدث البيان الأول عن الوضع المريع «قبل 1989» الذي ظلت ترقبه «قواتنا المسلحة» وما دعا المنقذون لإنقاذنا حيث أن: - الديمقراطية مزيفة بشراء الذمم والتهريج السياسي «راجع انتخابات ابريل المخجوجة2010م». - إضاعة الوحدة الوطنية بإثارة النعرات العنصرية والقبلية في حمل أبناء الوطن الواحد السلاح ضد إخوانهم في دارفور وجنوب كردفان، علاوة على ما يجري في الجنوب في مأساة وطنية وسياسية، «تذكروا ما حدث في دارفور منذ 2003م وصراع المؤتمروطنجية الأخير بالأسلحة البيضاء في بورتسودان الصحافة 20/3/2011م» - الإهمال القصدي للقوات المسلحة، مما أدى إلى فقدان العديد من المواقع والأرواح، حتى أصبحت البلاد عرضة للاختراقات «دخول قوات خليل في 2008م حتى قلب ام درمان في العرضة، والقوات النظامية تتفرج بلا حيلة، ووزير الدفاع حينها لم يجد سوى الأحضان المرحبة من الحكومة والبرلمان»..!! - استلاب البلاد من أطرافها العزيزة «ضياع الفشقة وحلايب بلا محاولة لاستردادها» في هذا الوقت الذي نشهد فيه اهتماما ملحوظا بالمليشيات الحزبية «مليشيات الدفاع الشعبي وتسليحها وتأهيلها على حساب القوات النظامية ». - الفشل في تحقيق السلام حتى اختلط حابل المختص بنابل المنافقين والخونة «الانفصال العدائي للجنوب». - تدهور الوضع الاقتصادي «هل مؤشر الى أن الدولار صار 3.500 جنيه قابلة للزيادة يكفي للبيان هنا؟» وانهيار الخدمات وتعطيل الإنتاج وارتفاع الأسعار «لا تحتاج لتعليق» والفساد «مقابلة مع أخ الرئيس في الرأي العام يعلن عن ماهية شهرية تبلغ 11.500 مليون وشغله عدة وظائف من بينها كونه ضابطاً برتبة في القوات المسلحة ودخوله في استثمارات كبيرة طرفا عن الدولة دون صفة مفهومة «نسخة سودانية من سيف الإسلام» وحديث حاج ماجد سوار بما سمي «فقه السترة» عن محاسبة المفسدين من المؤتمر الوطني داخل أروقة الحزب، كأن الذي سرق هو مال حزبهم أو هُمُ الوطن». - تشريد الشرفاء تحت مظلة الصالح العام، مما أدى إلى انهيار الخدمة المدنية، وقد أصبح الولاء الحزبي والمحسوبية والفساد سبباً في تقديم الفاشلين في قيادة الخدمة المدنية، وافسدوا العمل الإداري وضاعت بين أيديهم هيبة الحكم وسلطان الدولة ومصالح القطاع العام «الأرقام المخيفة للجيوش الجرارة التي أحيلت للصالح العام إضافة لهجرة سودانية واسعة بلغت ما يفوق الستة ملايين في خارج السودان، أما هيبة الحكم وسلطة الدولة، فهل هناك ضياع لهيبة الحكم أكبر من أن يكون رئيس البلاد مطلوبا لدى العدالة الدولية ولا يستطيع الحركة والسفر؟» - إهمال الأقاليم «راجع شكاوى نواب الولايات في برلمان الانتخابات المخجوجة كيف يزأرون من استئثار بعض الولايات بكل شيء على حساب إهمال ولايات أخرى». - صار السودان في عزلة بعد أن كان محل احترام وتأييد «؟؟؟!!!!!!!» . بعد سقوط كل الدعاوى في البيان الأول لجأ أرباب النظام إلى حيل أخرى يتوسلون بها إلى الشرعية الضائعة، فما أن تثار أمامهم قضية من قضايا الناس حتى يستعصموا «بالانجازات»: ثانيا: التوسل للشرعية بالانجازات: ويذكرون في هذا المجال استخراج البترول. ولكن البترول نعمة انقلبت إلى نقمة، حيث يتعامل معه المؤتمر الوطني كريع خاص، فميزانيته ظلت زمنا خارج الميزانية، وبند صرفه مفتوح دون شروط، وقد صب حصريا في جيوب المحاسيب والموالين واستخدم للرشوة وإفساد الذمم، وضيع الزراعة والصناعة وهي الموارد المتجددة. وما استفاد منه الشعب شيئاً. ثم يذكرون في الانجازات الشوارع والسدود، وان صرفنا النظر عن طرق تنفيذها المريبة، إذ تسند لشركات المحاسيب حارمة لسواهم، وتصاحبها الأخطاء وعدم التقيد بالأولويات. ونجد أن جلها تم بقروض سيسددها الشعب السوداني من حر ماله. ثم يذكرون اتفاقية السلام كانجاز عبقري، ولكنها انتهت إلى ما انتهت إليه أختها اتفاقية أديس أبابا في 1972م التي أبرمها الدكتاتور الراحل نميري ولكنه مزقها بنفسه قائلا «المشكلة شنو اديس ابابا عملناها نحنا ونهيناها نحنا»، وكذلك نيفاشا التي أبرمت بعد ضغوط خارجية معروفة ومشهودة، فقد نالها المصير الذي قرأه بين سطورها الإمام الصادق المهدي منذ كان حبرها رطبا كونها معيوبة و«مخرمة مثل الجبنة السويسرية» وها نحن نشهد نهاياتها بهذا الانفصال العدائي. ثالثا: التوسل للشرعية بالانتخابات: وقد رصد الراصدون«الدوليون والمحليون» المخالفات المريعة المصاحبة لانتخابات ابريل 2010م بحيث فقدت المصداقية تماما ولم يكن الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي إلا لأسباب معلومة هدفها إيصال اتفاقية السلام لمحطتها الأخيرة في يوليو 2011م، بينما يبطن ذلك الاعتراف تمييزاً عنصرياً لا يرانا أهلاً للديمقراطية. رابعا: التوسل بكرت الشريعة: ولكن الشريعة ليست شعارات براقة أو أماني نفوس مريضة ! الشريعة بمقاصدها الخمسة، وهي الكليات الشرعية «حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال» لكل منها مقصده ومواصفاته وتبعاته من رحمة وعدل ونفي الضرر ورفعهِ وقطعهِ، مما يمكن الرجوع إليه في مظانه. أما ما يدور في سودان اليوم فالبعد بينه وحقيقة الشريعة الغراء، بعد المسافة ما بين المشرقين، والشريعة السمحاء تبرأ إلى الله مما تفعله الإنقاذ. «راجع بهذا الخصوص شهادات الإسلاميين أنفسهم مثل د. الطيب زين العابدين وغيره من الباحثين الصادحين بالحق». خامسا: التوسل للشرعية بانتزاع الشرعية من الآخرين: ثم بعد نفاد كل محاولات البحث عن الشرعية، طفقوا اليوم هم وأعوان لهم يوحون للناس من خلال سؤال يريدون به إرباك الناس وإحباطهم واقتلاع الشرعية من التغيير القادم لا محالة، يسألون، حتى إن اتفقنا على انتهاء صلاحية نظام الإنقاذ: «من البديل؟» كأن حواء السودانية ولدتهم ثم عقرت، وهل كانوا بديلا صالحا لنتمسك بهم؟! لكن البديل ليس شخصا ولا حزبا.. البديل نظام: هو النظام الديمقراطي ولا يسأل مثل هذا السؤال الذي يدعي البراءة أو«المفخخ» كما تقول أستاذة رشا عوض في مقالها: «عقبات في طريق التغيير» إلا نوعان من الناس: 1- فئة المتغلبين من الحكام والمستأجرين من المرتزقة، وهم أصحاب الغرض والغرض مرض كما يقال- الذين يرسلون مثل تلك الإشارات لقطع الطريق أمام التغيير القادم باستخدام شتى الوسائل: فتحت خدمتهم أموال الدولة وترسانة إعلامية ضخمة كاذبة ومضللة تلوي عنق الحقيقة وتقلب الصور: إن الانتخابات ستأتي بالأحزاب المعروفة والأحزاب قد خبرناها وجربناها! ويجب التنبه لما تحمله هذه التبريرات من أكاذيب مركبة: - أولا، لا يمكن لحزب أن يحكم دون إرادة الجماهير، فإن أتت به أغلبية جماهيرية للحكم لم نحرمه؟ - ثانيا، مهما كان رأينا في تلك الأحزاب فوسائل تغييرها وسحب الثقة منها ممكنة كل حين وبأيدينا دون تكلفة النقص في الأنفس والثمرات والأموال «إذ المظاهرات حق مشروع من آليات المعارضة في الديمقراطية ولا يواجه بعنف». - ثالثا، أن تلك الأحزاب في النظام الديمقراطي تحكمها وتقيدها قيم الحكم الراشد من شفافية ومحاسبية ومشاركة وسيادة حكم القانون، ومهما التفت على القيد فلن تفلت من أعين الجماهير ومحاسبتها. 2- فئة الأوصياء على الشعوب من النخب الذين لا يعافون ولا يتعففون من خدمة الشمولية والتكسب منها، ويعتقدون أن فرصهم تضيق في الديمقراطيات ولذلك يحاربونها، وقد كنت في السياق راجعت د. فرانسيس دينق بمقال نشر في الصحافة في 18/3/2008م تحت عنوان: لم يعد إعلان حب الشمولية ممكنا وقد أبدى البروف استخفافا بالديمقراطية بحجة أنها ستأتي بذات الأحزاب بسبب الجهل المتفشي في السودان في حوار أجرته معه جريدة «الصحافة» وقد نشر، نص الحوار معه بتاريخ الاثنين 18 اغسطس 2003م. ويكفيني في السياق الاستدلال بما خطه قلم أستاذ مصطفى البطل في «4» مقالات نشرت في «الأحداث» خلال شهر اكتوبر 2010م تحت عنوان «سنوات النميري: القراءة القلندرية للتاريخ» من دفوعات محقة ومتماسكة عن الديمقراطية وتطورها وعن الأحزاب السودانية وأدائها بما لا يقارن مع عك الشموليات التي لن يقنعنا مخادع بأنها بديل ينجينا مثلما تحاول «العقول الانقلابية القلندرية» بتعبير البطل. لقد انتهت كل التوسلات الإنقاذية إذن، إلى ما هو متوقع من فشل ذريع وخيبات متتاليات، فقد قال ربنا في محكم تنزيله «ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون» البقرة «267»، وكذلك قال الرسول الكريم في الحديث الشريف «إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا». وبانتهاء تلك التوسلات للشرعية نعلن ونحن مطمئنون أنه قد آن أوان التغيير حتما وقد «سقطت سقطت يا الكيزان» . وسلمتم