هدوء مشوب بتعقيدات مربكة يكتنف الساحة في سودان مابعد الانفصال، فثمة تباين غريب يلازم سير الامور في مختلف أرجاء ماتبقى من السودان.تباين موازٍ لذلك الذي أفضى إغفاله إلى تشظي السودان لدولتين وربما ثلاث أو أكثر .فالجنوب بدأ يرتب أوضاعه منفرداً ،والموت بدأ يزحف نحو «الجبال» بجنوب كردفان غير آبه بمحاصصات شريكي نيفاشا،فيما يُقصف الشرق بغارات إسرائيلية ،ويتزايد أوار الحرب على الجهة الغربية ،وبعيداً عن كل هذه الدماء، يرزح المركز في خرطوم النيلين تحت وطأة تململ لازال محاطاً بسياج حوارات تدور هنا وهناك، بين الحزب الحاكم وقوى المعارضة التي مافتئت تتنقل بين طاولات الحوار ،من حوار إلى أخر ،وهاهي تتأهب مرة أخرى لحوار جديد تقوده هذه المرة مستشارية الأمن القومي التابعة لمؤسسة الرئاسة السودانية ،يفترض أن تبدأ أولى فعالياته نهاية الشهر الجاري بورشة تناقش أوراق العمل والمحاور وفق ما قطع بذلك حاتم الوسيلة المشرف المسؤول، عن تنسيق الحوار القومي الاستراتيجي بمستشارية الأمن القومي، مشيراً إلى أنه يفترض أن يتم الفراغ من إعداد الوثيقة الاستراتيجية للحوار القومي الوطني قبل منتصف يونيو المقبل، توطئة لرفعها إلى الرئيس عمر البشير،قبل أن يكشف الوسيلة والذي تحدث للزميلة «الرأي العام » أمس أن أكثر من «60» حزباً مسجلاً بينهم الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي «الأصل»، بجانب القوى المدنية بحضور ألفي شخص سيكونون ضمن المشاركين في حوار مستشاريته التي كلفت أكثر من«15» جامعة، و«20» مركز بحث باعداد أوراق العمل. حوار المستشارية الذي حُدد أجله وينتظر أن تبدأ مداولاته خلال الايام القليلة الماضية ،يأتي بالتزامن مع حوار أخر يقوده المؤتمر الوطني الحاكم مع ذات القوى الحزبية التي يستهدفها الوسيلة ورفاقه بالحوار المنشود ،مع أن بعضاً منها قد أعلن رفضه مسبقاً لفكرة الحوار تحت مظلة مستشارية الامن القومي ،حسبما بادر بذلك أصدقاء المستشارية والنظام السابقين في المؤتمر الشعبي ،بالاضافة إلى أعداء النظام الاستراتيجيين في الحزب الشيوعي السوداني الذي رفض هو الاخر التحاور عبر المنظومات الامنية ،وهو الرفض الذي كلف المستشارية ثمناً باهظاً ،دفعه منسقها السابق وأحد أبرز أركانها اللواء حسب الله عمر الذي حاول تقريب وجهات النظر وإظهار المستشارية كجسم محايد بقولته الشهيرة «إن لم يتفق الجميع على الشريعة ،فلتذهب الشريعة»،فذهب حسب الله من المستشارية،لتبقى «الشريعة» و الانقاذ في مكانهما ،وهاهو خلفه حاتم الوسيلة يبتدر عمله بذات سياسة سلفه دون أن يمس بالشريعة ليطالب في أول حديث صحفي له عقب تكليفه بتنازلات حقيقية من المؤتمرالوطني الحاكم ،على صعيد الاصلاحات السياسية وقبول الآخر وإحداث تغيير جذري في السياسات العامة للحزب حتى يزيد من فرص نجاح الحوار الاستراتيجي،ليمضي الوسيلة مفصلا شكل التغيير المطلوب ،مؤكداً على أن اجراء تغييرات على صعيد الافراد ليس بالتغيير الحقيقي ،فالامر يتطلب اجراء اصلاحات سياسية ومناقشة قضايا الاقتصاد والبطالة بشفافية ،بالاضافة إلى تضمين مطالبات الحد من الفقر والبطالة في مناقشات الحوار بجدية ،مع انتهاج الشفافية لحوار بناء مع القوى السياسية، وعدم تسييس الخدمة المدنية واختيار الاشخاص على اساس الكفاءة والمؤهل دون النظر الى الولاءات الحزبية ،وهو مايراه الوسيلة الطريق الاقوم للخروج من النفق.بيد أن روشتة الوسيلة لم تحظ بتعليق من الحزب الحاكم ،فساد الصمت وعم الارجاء،عدا محاولة وحيدة قام بها الحزب الاتحادي الاصل في مسودة لتعديل الدستور الانتقالي للعام 2005 ،إلا أن الصمت لن يستمر طويلا حسب الوسيلة الذي أكد على مشاركة حزبي الاتحادي والامة في حوار مستشاريته في غضون الايام القليلة القادمة .لكن حاتم الوسيلة ذاته ليس عضواً في حزب الامة وبالتالي لايمكنه أن يقطع بهذه الثقة في مشاركة الامة في الحوار وفق ما مضت لذلك مريم الصادق المهدي القيادية بحزب الامة ،مبينة أنهم مع تبنيهم لنهج الحوار الوطني حول الاجندة الوطنية إلا أنهم لن يشاركوا في حوار مستشارية الامن القومي ،مشيرة في حديثها ل«الصحافة» أمس أنهم لن يتفاوضوا سوى مع المؤتمر الوطني لكونه الحزب الحاكم ،مبينة أنهم قد فرغوا من الحوار مع الوطني ،وأن ماتوصلوا له سيتوج بنقاش بين رئيسي الحزبين في لقاء قمة ينتظر أن يلتئم قريباً، لتعرض مخرجاته على مؤسسات حزب الامة ومن ثم حلفائه في تحالف المعارضة الذين لازال حوارهم مع الامة متواصلا حول مختلف القضايا التي ترى مريم الصادق أنها لايمكن أن تناقش مع مؤسسة مختصة بالامن القومي ،لكونها تحتاج لمناقشتها وضمان تنفيذها لمظلة سياسية ،وتذهب مريم الصادق بعيداً ،مشيرة إلى أن ماتتبعه مستشارية الامن القومي لايفيد في الخروج بالوطن من الكارثة المحدقة به ،ناصحة المستشارية بان لاتقحم القوى السياسية في الحوار عنوة ودون موافقتها إن كانت تروم أن تمضي في جهد وطني حقيقي ،لان الحوار الذي يكون أمر المشاركة فيه محل تجاذبات لايمكن أن يفضي إلى نجاحات .إلا أن ضمانات نجاح حوار المفوضية تتمثل في أن الأحزاب ستشارك في إعداد الأوراق لأجل مناقشتها برؤية بناءة وصولاً لاستراتيجية قومية لحكم سودان ما بعد التاسع من يوليو،كما أكد على ذلك الوسيلة الذي بدا واثقاً من وصول حوار المستشارية إلى نهايات سعيدة، ليسترسل مستعرضاً مميزات حواره ،مشيراً إلى أنها المرة الاولى التي سيشارك فيها أساتذة الجامعات في وضع منهج لحكم السودان ، و أن مخرجات الحوار ستشكل وثيقة دستورية تصلح أن تكون دستوراً دائما للبلاد. كما أن محاور النقاش ستستمد من عدة محاور أبرزها ، السياسي والحقوق والحريات والخدمة المدنية والتعديلات الدستورية والحكم الراشد وقضايا الفساد ،بالاضافة إلى المحور الاجتماعي الذي يشتمل على مناقشة قضايا الفقر والبطالة و الشباب والهوية. والمحور الاقتصادي المتمثل في الموارد الاقتصادية وسياسات التحرير والاستثمار، بجانب محوري الاعلام، و الأمن والدفاع، ومحور العلاقات الدولية.لكن وبعيداً عن تفاصيل حوار المستشارية المرتبة بعناية يظل أمر المشاركة في الحوار محل تجاذب في حد ذاته ،وهو الامر الذي ترى مريم الصادق أنه يمثل محاولة لخلق الفتن داخل القوى السياسية وبين بعضها البعض ،الامر الذي يمكن أن يضعف الثقة في الحوار ومراميه التي تعتبر تمظهراً جلياً لصراع التيارات ومراكز القوى داخل المؤتمر الوطني حسب مريم الصادق ،التي أردفت :«ولاحاجة لنا ولا للسودانيين بمثل هذا الحوار» ،لتقفل باب مشاركة حزبها في مداولات مستشارية الامن نهائياً.وإن شارك الامة أوغيره في حوار مستشارية الامن فانه يكون قد شارك المستشارية والحكومة والمؤتمر الوطني في الجهل بمهام مستشارية الامن القومي التي تعتبر جزءاً من مؤسسة الرئاسة وتنحصر مهامها في قضايا الامن القومي حسب مايفصل ذلك المحلل السياسي المعروف حاج حمد محمد خير ،مشيراً إلى أن مهام هذه المستشارية تتعلق جميعها بقضايا الامن القومي السوداني مثل علاقاتنا مع الولاياتالمتحدة ،ودراسة آثار الثورة المصرية على الاوضاع الامنية بالبلاد وما إلى ذلك من القضايا القومية التي تهتم بها أجهزة الامن القومي في دول العالم أجمع ،ويبين حاج حمد في حديثه ل«الصحافة» أمس أن ماتقوم به مستشارية الامن القومي يعكس حالة التجذر التي يمر بها نظام الانقاذ وهي الحالة التي تصيب الانظمة الشمولية عندما تقترب من نهاياتها ،مشيراً إلى أن مايحدث الان يطابق تماماً ماكان يحدث في الايام الاخيرة لنظام الدكتاتور الراحل جعفر نميري،حيث يعاني النظام الحاكم الان من حالة «زهايمر سياسي» وفق حاج حمد ،الذي يبين أن الاصل في هذا النظام أنه قد أتى للسلطة عبر إنقلاب عسكري ،يحاول طوال العقدين الماضيين تغيير جلده الشمولي ،وما محاولات مستشارية الامن الاخيرة سوى واحدة من هذه المحاولات التي تجعل من مستشارية مختصة بالامن القومي تدير حواراً مع أحزاب داخلية إلا واحدة من تمظهرات الأزمة السياسية التي يعيشها هذا النظام وفق حاج حمد الذي يذهب إلى أن ماتقوم به المستشارية يمثل تفككاً لسلسلة القيادة في الدولة والتي تجعل كل مؤسساتها تعمل بالطريقة التي تريد ،قبل أن يتساءل :«وإلا لماذا تتخلى مستشارية الامن القومي عن مهامها الرئيسية في تأمين البلاد وتبحث عن الحوار مع أحزاب سياسية هي جزء من الأزمة في الوقت الذي تخترق فيه الطائرات الاسرائيلية مجالنا الجوي وتقصف كما تشاء في ظل دولة تخصص 70 بالمائة من ميزانيتها للامن والدفاع». [email protected]