ترجمة: سيف الدين عبد الحميد أصدر الدكتور فرانسيس دينق مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية،ووزير الدولة للخارجية الأسبق مؤخرا كتابا جديدا موسوم ب «السودان على الحافة» يحمل رؤى حول مشاكل الوحدة والانفصال والهوية السودانية ، وقضايا المهمشين، وتترجم «الصحافة» الاصدارة وتنشرها تعميما للفائدة.. تقوم هذه المذكرة على النتائج والملاحظات من خلال زيارتي الأخيرة إلى السودان وإثيوبيا. فالسودان مواجه بأزمات متعددة إذا لم تتم إدارتها بصورة بناءة يمكن أن تتفجر إلى كارثة إبادة جماعية، فهذه الأزمات لا تعكس فقط في العلاقات المتوترة باضطراد بين الشمال والجنوب مع اقتراب استفتاء تقرير المصير لعام 2011م بل تعكس أيضاً في الصراعات العرقية المتداخلة داخل الشمال والجنوب. إن المخاوف حيال عواقب الانفصال الجنوبي لا تتصاعد وتيرتها داخل السودان فقط بل تتصاعد أيضاً في المنطقة وعلى مستوى القارة الإفريقية والمستوى الدولي. فبالنظر إلى الأعداد الكبيرة من الجنوبيين المقيمين في الشمال، فإن الانفصال العدائي يمكن أن يتمخض عن أعمال إبادة جماعية وحشية تذكرنا بالانفصال الهندي/الباكستاني. وحتى لو انفصل الجنوب، فإن البحث عن سودان جديد لا تمييز فيه على أساس العنصر والعرق والدين والثقافة والفوارق بين الجنسين والذي ناصرته الحركة الشعبية والجيش الشعبي من المرجح أن تسعى له المجموعات غير العربية في الشمال بما فيها المجموعات الموجودة في جنوب كردفان والنيل الازرق والبجا في الشرق والمجموعات العديدة في دارفور بل وحتى النوبيون المجاورون لمصر في أقصى الشمال. وربما تبحث هذه المجموعات عن الدعم من الجنوب المستقل، ولكن إذا دعم الجنوب حركات التحرير في الشمال فإن الخرطوم سترد قطعاً باستغلال التوترات العرقية في الجنوب لإضعاف حكومة جنوب السودان وخلق فوضى وجعل الجنوب غير قابل للحكم، لذا فمن المصلحة المشتركة لكل الأطراف في السودان والآخرين المعنيين بإيجاد أساس مشترك لسلام شامل حقيقي داخل إطار الوحدة الوطنية أو جعل عملية الانفصال سلمية ومتناغمة وتعاونية ما أمكن. رغم أن زيارتي إلى السودان لم تكن في شكل مهمة بالمعنى المألوف، لكنني أجريت مناقشات مكثفة في جميع المناطق الثلاث التي زرتها واستطعت الحصول على أفكار مهمة وتوصلت لبعض النتائج حول الوضع السائد في البلاد، وأدناه ملخص للنتائج: أولاً: كان هناك خوف واسع النطاق حيال استفتاء تقرير المصير في الجنوب الذي يتوقع له أن يتمخض عن الانفصال الجنوبي، والرأي الذي يتشاطره الكثيرون في السودان وفي إفريقيا عموماً هو أن الانفصال الجنوبي سيكون كارثياً للجنوب وللمنطقة بل حتى لإفريقيا. ثانياً: هناك دعاوى واسعة بأن هذا التكهن المخيف تنسقه غالباً الخرطوم لكي تعزز نبوءة محققة ذاتياً فحواها أن جنوب السودان لن يستطيع حكم نفسه وسيكون قطعاً دولة فاشلة وعبئاً على المنطقة والمجتمع الدولي. ونادراً ما يكون هناك جهد بذل لتحليل العوامل التي قد تفسر هذه الكارثة المتوقعة وماذا يمكن أن نفعل لتفاديها ولمساعدة الجنوب على النجاح لصالح السلام والأمن والاستقرار الإقليمي. ثالثاً: أحد أوجه القلق حيال مستقبل الجنوب المستقل هو أن التركيز ينصب بصورة طاغية على أن الكوب معظمه فارغ مع إجراء أية محاولة بالكاد لتقييم ما تم تحقيقه حتى الآن في مواجهة الخلافات الهائلة المتجذرة بعمق في الإهمال التاريخي ودمار حربٍ عمرها نصف قرن من الزمان. رابعاً: للمفارقة أنه في الوقت الذي يخشى فيه من انفصال الجنوب المحتمل لكن لم يول اهتمام مناسب إلى التغييرات المطلوبة على المستوى المركزي لجعل آفاق الوحدة الوطنية جاذبة أو على الأقل سائغة للجنوب. خامساً: كانت هناك نزعة للنظر إلى أزمة دارفور بمعزل عن الأزمات في الجنوب والصراعات في المناطق الأخرى من الشمال. فالكلمة الواحدة التي تقال باعتبارها سبباً جذرياً لهذه الصراعات الجهوية المستشرية هي كلمة »التهميش« تهميش المناطق غير العربية بواسطة المركز العربي الإسلامي. تقود النتائج آنفة الذكر إلى الملاحظات والتوصيات المتلازمة الآتية: أولاً: العواقب الكارثية المتوقعة لانفصال الجنوب لها تداعيات مشؤومة لذا من الأفضل ألا يسمح بحدوثها، الشئ الذي يعني إشانة اتفاقية السلام الشامل. ونجد سلفاً أن الخلافات حول إجراء الإحصاء ونتائجه والاستعداد للانتخابات القومية لعام 2010م ورفض تنفيذ بروتوكول أبيي وقرار التحكيم وترتيبات الاستفتاءات في الجنوب وفي أبيي بعثت جميعها بإشارات خطيرة فحواها أن اتفاقية السلام الشامل لن تنفذ بمصداقية وربما يُساء إليها إساءة صارخة. وإذا قُدّر لهذا أن يحدث فإن الجنوب قطعاً سيحمل السلاح مرة ثانية وربما بالاشتراك مع المناطق غير العربية المهمشة في الشمال، فهناك سلفاً دلائل على سباق التسلح بين شركاء اتفاقية السلام الشامل وهو سباق يشير إلى احتمال استئناف الاعمال العدائية. ويجب أن تحترم اتفاقية السلام الشامل وتنفذ تنفيذاً كاملاً تفادياً للرجوع إلى الحرب. ثانياً: يجب أن يحدد فشل حكومة جنوب السودان ويُحلل لكي يقوم أساساً للإجراءات الصائبة لمنع حدوث الكارثة المتوقعة. فإذا كانت مشكلة حكومة جنوب السودان تتعلق بنقص في قدرات الحكم إذن يجب على كل المعنيين أن يساعدوا في تقديم القدرات أو تعزيزها بمفعول فوري. ثالثاً: لكي تعزز قدرات الجنوب لكي يحكم نفسه، فمن المهم تقييم ما تم إنجازه سلفاً في إنشاء مؤسسات الحكم على مستوى حكومة جنوب السودان وفي الولاياتالجنوبية. كما أن القيادات القبلية لديها أيضاً طاقة كامنة غير مستغلة لإقرار القانون والنظام في المناطق الريفية وهي طاقة استخدمتها الإدارة الاستعمارية بشكل فاعل بيد أنها قوِّضت بواسطة سياسات ما بعد الحقبة الاستعمارية وأثر الحرب عليها. ويمكن أيضاً أن يُدعم هؤلاء القادة القبليون ويُقوَّوا لكي يوطدوا السلام والأمن في المناطق الواقعة تحت نفوذهم. رابعاً: رغم أن إصلاح إطار الحكم الوطني لجعل الوحدة جاذبة يعتبر عملاً صعباً وليس له من وقت إلا القليل جداً، لكن التغييرات المدهشة لإحداث عملية التحول الديمقراطي التي تصورها اتفاقية السلام الشامل ربما لا تزال تجمِّل الآفاق للوحدة الوطنية. ويمكن إنجاز ذلك فوراً بإنفاذ نظام حكم ذاتي في كل مناطق الشمال شبيه بنظام الحكم الذاتي في الجنوب مع قسمة متكافئة للسلطة على المستوى القومي. خامساً: لتصحيح الاتجاه إلى فصل أزمة دارفور والصراعات الجهوية الأخرى في الشمال من الوضع في الجنوب ولمعالجة تهميش الأطراف من جانب المركز المهيمن عليه عربياً، يجب أن تتجاوز البلاد صيغة »دولة واحدة بنظامين« المضمنة في اتفاقية السلام الشامل وتتبنى صيغة فيدرالية »لدولة واحدة بنظم متعددة«. وفي حين أن هناك سبباً وجيهاً للقلق بشأن الطبيعة الشقاقية للتعددية نجد أن الصيغة السائدة حالياً »لدولة واحدة بنظامين« برهنت على أنها أكثر شقاقية من خلق أساس للوحدة المقصود في البدء. إن »نظام دولة واحدة بنظم متعددة« سيعمل على تسهيل تحالفات متقاطعة تقدم أساساً للتحول الديمقراطي وتعزز الوحدة الوطنية، فالتفاعل المتناغم بين أهالي المناطق المختلفة يمكن أن يتمخض تدريجياً عن عملية تكامل قومي ستتمخض في النهاية عن تعزيز الوحدة الوطنية نحو صيغة »دولة واحدة بنظام واحد« وهي الغاية المنشودة. تظل أبيي تشكل تحدياً للسلام والوحدة والاستقرار في البلاد، ويمكن أن يقال الآن إن حزب المؤتمر الوطني نجح في إعاقة ترسيم الحدود بواسطة لجنة حدود أبيي. ويجب على طرفي اتفاقية السلام الشامل أن يعكسا النوايا الحسنة المتبادلة والتعاون في التأكيد على التنفيذ الموثوق لقرار المحكمة، وذلك في ضوء قرار تحكيم أبيي الذي وازن بوضوح مصالح الشمال والجنوب فيما يتعلق بالحدود. إن ابداء هذه الحنكة سيمضي قدماً في تعزيز السلام والمصالحة والتعاون بين الدينكا والمسيرية، فالقادة الوطنيين يجب أن يُنظر إليهم قادة لكل السودانيين لا للأحزاب، كما يجب أن يحموا كل المواطنين دون محاباة أو تحيز. إن الدمار الفظيع الذي ألحق بأبيي في مارس 2008م يجب ألا يسمح بوقوعه مرة ثانية أبداً، ويجب على حكومة الوحدة الوطنية وخاصة حزب المؤتمر الوطني أن يتحملوا مسؤولية أن يسود الأمن والسلام في المنطقة وضمان أن تلعب أبيي مرة ثانية الدور التجسيري الذي ظلت تلعبه تاريخياً بين الشمال والجنوب كما تعترف بذلك اتفاقية السلام الشامل وتدعمه. ويمكن أن يظل السعي جارياً وراء قضية الوحدة مهما كانت نتيجة استفتاء 2011م في الجنوب وذلك بالنظر إليها في إطار ديناميكي بين متوسط الأجل وطويل الأجل. وبعد كل شئ فإن الوحدة والانفصال يعتبران درجات مختلفة من العلاقات يمكن تعزيزها أو إضعافها بواسطة العوامل النوعية المعنية، فجعل الوحدة جاذبة له بُعْدٌ مادي يقتضي تنفيذ مشروعات ذات أثر سريع من التنمية الاجتماعية/ الاقتصادية في مجالات البنى التحتية خاصة تلك التي تربط الشمال والجنوب والخدمات الاجتماعية في مجالات كهذي كالصحة والتعليم والتخديم خاصة تخديم الشباب. بل الأكثر أهمية هو البُعْد الأخلاقي الذي يعني إلى حدٍّ كبير خلق إطار وحدة وطنية يخرج من بين عوامل النطاق العام التي هيأت في الماضي أساساً للتمييز وعززت حساً فطرياً سليماً من الانتماء للأمة على قدم المساواة بحسباننا مواطنين. ومع ذلك فإن احتمال اختيار الجنوب للانفصال أمر غير مستبعد ويجب التعاطي معه بصورة بناءة وذلك بإحباط نقاط الأزمة ومعالجتها ولتعزيز التعايش السلمي والتعاون بين الشمال والجنوب باعتبارهما جارين ذوي روابط تاريخية متأصلة. ويمكن مفاوضة حرية الحركة عبر الحدود والإقامة والتخديم وقسمة الموارد المهمة كالنفط والماء من أجل المنفعة المشتركة ومع آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان أعيد بناؤه، سودان عدم التمييز في كلا الشمال والجنوب وذي ثقة متبادلة طورت من خلال الشراكة التعاونية، فإن احتمال إعادة التوحد لا يجب استبعادها وربما ينص عليها بوضح في بنود الانفصال الودي. وإزاء هذه الأهداف يجب أن تظل الأممالمتحدة بتعاون لصيق مع الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية وكل أصحاب المصلحة في اتفاقية السلام الشامل يقظين في المشاركة والعمل. ويجب عليهم بشعور من الاستعجال أن يساعدوا للحوار الجاري أو المشاورات الجارية حول القضايا المهمة المعنية ويحشدوا الدعم المطلوب لتنفيذ مشروعات الوحدة ذات الأثر السريع ويعالجوا بعض نقاط المشكلة المتوقعة لاستباق أية عواقب سلبية للاستقلال الجنوبي. يجب أن يؤخذ في البال أن فشل تنفيذ اتفاقية السلام الشامل يمكن أن يكون كارثياً، فقد أوضحت التجربة أن اندلاع الحرب رداً على انتهاك اتفاقية السلام كثيراً ما يأتي عفوياً وتصعب السيطرة عليه، في حين أن العواقب السلبية للانفصال يمكن إحباطها ومنعها. فبالنظر إلى مستوى عدم الثقة والمرارة المرتبطتين بحروب الهوية الطويلة والإتاحة السهلة للأسلحة المتطورة والتوترات المرتبطة بتفكك البلاد إذا استؤنفت الأعمال العدائية، فإن الوضع سيصبح قطعاً وضع إبادة جماعية مع وجود أعمال وحشية على نطاق شامل. يجب منع ذلك، والآن هو وقت اتخاذ الإجراءات الوقائية.