بعض المعالجات الإعلامية لشؤون سياسية يمكن أن تقود إلى بلبلة وإلى حالة من عدم اليقين بطرح للأمور من خلال منظور ضيق، فما يقال عن أن فرنسا طلبت من عبد الواحد محمد نور مغادرة اراضيها إذا لم يشارك في مفاوضات الدوحة، هو قول يتكرر بين حين وآخر، دون ظهور نتائج ملموسة تعزز ذلك.. فهل يعتقد من يروجون لمثل هذه الأنباء أن الأمور على أحسن حال، وأن السلام بات قاب قوسين أو أدنى من دارفور، بينما الواقع أن دارفور ومعها السودان على مفترق طرق مع تعثر جهود التسوية. ويلفت النظر ما قاله فاروق أحمد آدم، أحد القادة السياسيين في دارفور، عندما سأله مندوب الاذاعة عن نوايا باريس تجاه عبد الواحد، حيث أشار إلى أن مثل هذا الأمر يتردد في الإعلام كثيراً، ويبدو أن فاروق، القيادي في المؤتمر الوطني، يلمح بذلك إلى صيغة متكررة لم تسفر عن نتائج على الأرض، وقد دعا إلى التركيز على العلمية السلمية من خلال التفاوض عوضاً عن الاستغراق في إلهاء الناس بطريقة تستخف بالعقول، وحث الجميع بمن فيهم عبد الواحد على التفاوض. وفي الحقيقة فالمطلوب معرفة السبب الذي يمكن أن يحمل فرنسا على الضغط على عبد الواحد، وما إذا كانت هناك مساعٍ سودانية مقبولة لدى باريس يمكن أن تدفعها للقيام بمثل تلك الخطوة، ونعلم أن الأجندة الفرنسية لا تخرج كثيراً عن الموقف الأوروبي الأمريكي تجاه الخرطوم، وهو موقف تبرز فيه بوضوح المطالبات بشأن محكمة الجنايات الدولية. ويأتي كل ذلك على خلفية مشهد عام يتصف بالتصعيد، بعد أن بدا أن منبر التفاوض في الدوحة يتوارى خلف جهود السلام من الداخل، وخلف نيران المعارك التي نشبت في أكثر من جهة في دارفور أخيراً، فهناك عملية كبكابية التي قام بها فصيل عبد الواحد محمد نور، وهي عملية محدودة لكنها تحاول اثبات الوجود في افق مفتوح على المعارك مع تراجع جهود التفاوض، وهناك امكانية التقارب بين الفصائل في الميدان، وقد رأينا العمليات المشتركة بين حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان التي يقودها مني أركو مناوي، مثلما حدث في معارك «أم برو» و «شقيق كرو» في شمال دارفور، وهو تعاون كان يمكن أن يكون مجديا لو تحقق على مائدة التفاوض التي تعاني كثيرا من تشتت الحركات، ومن عدم وجود وفد واحد يتحدث نيابة عنها. وعلى الرغم من كل هذه الأجواء التي تبدو عسكرية محضة، فإن جهود التفاوض خصوصا لا ينبغي أن تتراجع، وقد انقضى موعد 18 أبريل الذي حددته الحكومة لانهاء المفاوضات، حيث تنصرف الحكومة بكلياتها إلى التركيز على عقد مؤتمر لقوى دارفور الداخلية في اطار تطبيق استراتيجية سلام دارفور، والتي تعتمد بشكل اساسي على استمرار عملية التنمية، وعلى رأس ذلك طريق الانقاذ الغربي الذي لخصت مواطنة من دارفور اهميته بقولها: إن تنفيذ الطريق يقطع نصف المسافة إلى التسوية. وتتضمن الاستراتيجية السلمية إلى جانب ذلك اجراء الاستفتاء وفقا لما تقول به اتفاقية ابوجا، فضلا عن المسائل القانونية والعدلية والتعويضات واعادة النازحين. وفي ما يتصل بالاستفتاء فقد بدا في أوائل أبريل الجاري، أن الحكومة تقدم عرضاً بإمكانية ايقاف اجراءات الاستفتاء الذي لا تريده الفصائل في هذا الوقت على الأقل، حيث رهن الدكتور غازي صلاح الدين المسؤول عن ملف دارفور ومستشار رئيس الجمهورية، تأجيل اجراءات الاستفتاء بتوصل الوساطة إلى وثيقة للحل النهائي في الدوحة. وقال: «نأخذ في الاعتبار أنه إذا خرجت وثيقة نهائية ووافقت عليها الأطراف جميعا فهذه الوثيقة تلغي ما قبلها». وتنطوي الرسالة، التي جاءت في شكل تصريح صحفي، على عرض واضح للحركات لانجاز السلام قبل بدء اجراءات الاستفتاء، وهي في ذات الوقت ربما تعكس صعوبة المفاوضات، وأن الاستفتاء أصبح أمرا لا مناص منه، بالنظر إلى الوضع الميداني الذي لا ينذر سوى بالمزيد من التصعيد العسكري. وكل ذلك يقود إلى القول إن حل المشكلة لا يزال أمرا بعيد المنال، فليس هناك ما يستفاد منه على أنه تقارب بين أطراف السلام في الدوحة، فيما تمضى الحكومة قدماً في ترتيبات السلام الداخلي وفقا لاستراتيجية سلام دارفور، بما في ذلك صدور الأمر الرئاسي بإجراء الاستفتاء، ومن ثم فإن الفصائل ستميل أكثر إلى التصعيد لإثبات وجودها طالما ظلت خارج استراتيجية السلام، كما أن الحكومة من جانبها ستحاول القضاء عليها من أجل تهيئة الأرضية الملائمة لتطبيق الاستراتيجية. ومن الواضح أن أياً من الجانبين لن يحسم الوضع عسكرياً، وقد حاولا ذلك طوال ثماني سنوات. ويلفت النظر أيضاً في التطورات الدارفورية الاستقالة التي تقدم بها عبد الدائم زمراوي المدعى العام لقضايا دارفور، والذي جاء تعيينه في المنصب للتعجيل في نظر القضايا المؤجلة في دارفور بما في ذلك جرائم القتل الجماعي، وتلك ذات الصفة المالية مثل قضية سوق المواسير، ومثل الجريمة البشعة التي حدثت في منطقة «تبرا» العام المنصرم وراح ضحيتها العشرات من المدنيين، لكن لا يبدو أن الكثير يتحقق على هذا الصعيد، فهناك حصانات وهناك مناصب رفيعة. وكل ذلك يستوجب ارادة سياسية قوية لانجاز هذا العمل المحوري والمهم في مجمل القضية. وقد أثارت الاستقالة علامات تعجب كثيرة، في وقت تركز فيه الحكومة على مساعي السلام من الداخل، حيث يعتبر طي هذا الملف أحد أهم عناصر استراتيجية السلام، باعتبار أن الوصول إلى ادانات محددة في هذا المجال يؤدي إلى خلق نوع من الثقة التي من شأنها تعزيز أي جهد للسلام. وفي كل الأحوال ينبغي الاقتناع بأن الحل عسكري أمر منهك لكل الفرقاء، وأنه سيفلح فقط في تعميق الجراح، وأن الحسم المفقود قد يفضي إلى رفع سقف المطالب في ظل الوضع السياسي الهش الذي تعيشه البلاد، حيث لا سبيل للخروج من هذه الأزمات سوى بتوافق يطول كل أمور الحكم وفقاً لصيغة قومية شاملة لا تستثني أحداً، وعلينا دائماً النظر إلى ما يحدث حولنا، وقبل ذلك النظر إلى ما بين ظهرانينا، فقد فقدنا الجنوب لتنفتح الأبواب على مصاريعها على مطالب بلا حدود.. وعن فوضى في أرض دارفور الواسعة يجهد فيها الكل لاثبات وجوده وانتزاع مقومات حياته، بينما يظل المواطن العادي يعاني من كل الأطراف، ومن كل العصابات التي لا تفتأ تتزايد في بيئة مواتية، ومع ذلك هناك من يتحدث عن وضع آمن، بينما الطريق بين أكبر مدينتين في الإقليم «الفاشر ونيالا» كان مغلقا لغياب الأمن، وعن ذلك قال مواطن استبد به القلق والغضب من طول الانتظار للسفر: لا نعلم.. هل تحاربنا هذه الحركات أم تحارب الحكومة؟!