في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إزدهت حديقة الغناء السوداني بمئات الالحان والقصائد الغنائية الخالدة التي ظل شذى عبيرها وصداها متوهجاً في أعماق ووجدان الناس، عبر السنوات.. وشهدت تلك الحقبة ميلاد عقد فريد من الأغنيات الكبيرة، الطير المهاجر، والود، والمصير، والحزن القديم، وتتعلم من الايام، وبعد الغياب، وشجن، وقصتنا، ولا تزال تلك الأعمال حاضرة ومسموعة ويحفظها معظم السودانيين عن ظهر قلب، وإلى جانب تلك الاغنيات يرف طيف جيل من الأغنيات الخفيفة الراقصة كالفراشات التي انتشرت كالنار في الهشيم. وحتى يومنا هذا تخرج من رماد الأيام كطائر العنقاء الأسطوري، ترى أي كيمياء أبدع تلك التي تقف خلف هذا الخلود؟ويومها كتب هاشم صديق واسماعيل حسن وبازرعة والتيجاني سعيد وسعد الدين ابراهيم وسيف الدين الدسوقي وعوض جبريل، روائع مدهشة من القصيد بحبر جديد من المفردات والأخيلة والمضامين، وأبدع ود الحاوي وأنس العاقب والماحي سليمان وبشير عباس والطاهر إبراهيم وعمر الشاعر في إنتاج ألحان نسخة واحدة لا تتكرر، ويتسابق المطربون في ابداع لآلئ الأغنيات في مكتبة هنا ام درمان وما يطلبه المستمعون صاحب الكعب الأعلى بين البرامج، ومن مهرجانات الثقافة يطلع على الناس مصطفى سيد احمد والامين عبد الغفار، وفي ليل الخرطوم عند نهاية الاسبوع كانت تقدل أنغام محمدية وعبد الله عربي وعلي ميرغني، وتصدح اصوات وردي وود اللمين وعثمان حسين وزيدان ومحمد ميرغني وابراهيم عوض ويوسف الموصلي مع حفيف النسمات، فتجبر البعض على الارتحال بحثاً عن المتعة في حفلات الأعراس، والمطربون الكبار اليوم في زهو الشباب أناقة طاغية وحضور وسيم في ساحات الفن والحياة وعلى شاشات التلفاز.. كان ذلك بالأمس البعيد قبل أن تجف الساحة ويختلط الحابل بالنابل، ويعتلي المهرجون كل الساحات الفنية... ولا يزال الناس في انتظار أن يخرج عليهم الحلنقي بعصافير الخريف ومحمد الأمين بقلنا ما ممكن تسافر وزيدان بالوداع وكابلي بضنين الوعد اتاح لى انقطاع التيار الكهربائى فى احدى ليالى الاسبوع المنصرم، التحرر من سطوة التلفزيون والفضائيات التى يضيق الفضاء ذرعا ببعضها، والتوقف عن ملاحقة العالم عبر الشبكة العنكبوتية. وذلك هدأة ليل صيفي بهيج يرفل فى غلالة رقيقة من الهدوء والنسمات الصيفية «البخيلة».. فاحتضنت جهاز الراديو الصغير تحت ضوء القمر الفضى الساحر، وادرت مؤشره نحو العواصم والعوالم والمحطات التى تأسرك الاصوات الاذاعية المنبعثة منها، ولكل اذاعة طعها الخاص ونكهتها المميزة مونت كارلو.. صوت العرب.. إذاعة الشرق الاوسط وال «بى. بى. سى» والقاهرة.. لكن تظل محطة هنا ام درمان والبيت السودانى هى الملاذ.. وأجمل ما فى انقطاع التيار الكهربائى في الليل أنه يمنحك قدرا من الشعور المريح بالهدوء والسكينة، ويجعلك تسترخى بعيداً عن صخب العالم المتطفل على أسرار دقات قلبك المرهقة. وأروع ما فى المذياع انه يمنحك حرية التحليق باجنحة الخيال، وتشكيل ملامح الامكنة والازمنة وفق ما تهوى، عكس شاشة التلفازالتى تجبر المرء على التعاطى مع الواقع والاشياء المجرد بكل أبعادها الحقيقية، فالصورة لا تكذب ولا تتجمل، ويصبح الراديو صديقا حميما اذا كنت تنصت الى محطة ذكية تجيد تلبية احتياجتك، بعد يوم طويل من العناء الجسدى والنفسى.. شكرا لكل الاصوات الاذاعية والكوادر الفنية التى تجمل فضاءات اثير هنا ام درمان ومحطات ال «اف. ام»، ببرامج جذابة بنكهة سودانية أصيلة على مستوى عالٍ من المهنية على مدار ساعات اليوم.