انعقدت القمة الطارئة لدول الإيقاد، بشأن استعراض مسار تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، التي أشرفت المنظمة على ولادتها تحت رعاية وإشراف إحدى دولها المؤسسة، في نيروبي في 9 يناير 2005م، و إبان فترة حكم وإدارة الرئيس السابق دانيال أراب مُويّ، الذي شارك في المؤتمر كأحد ضيوف الشرف المرموقين، وألقى بياناً أمام رؤساء الحكومات والدول المشاركين. كان توقيت انعقاد القمة، الذي سبق الانتخابات المجدولة في السودان في 11 إبريل، بنحو شهر ويومين فقط، من الأمور غير المسبوقة في مراسم وأدبيات السياسات الدولية و روزنامات انتخاباتها، إذ من غير المألوف أن يقوم رئيس دولة، خلال فترة حملته الانتخابية، التي يفترض أن يكون فيها بين ظهراني قومه، محرِّضاً لهم وحاثّاً لتجديد ولايته، بالمشاركة في مؤتمرات على شاكلة ما انعقد في نيروبي، حيث تعترك الآراء، وتتحاور الأفكار، وتتداول السيناريوهات. وبالتالي فقد كانت موافقة الرئيس عمر حسن البشير على الموافقة على التوقيت المقترح لهذا المؤتمر الطارئ، بعد قمة الاتحاد الإفريقي في شهر فبراير الماضي وشارك فيه رئيسا الدولتين، و الذي اقترحه بإلحاح شديد الرئيس الكيني مُواي كيباكي، لينعقد بعاصمة بلاده في يوم 9 مارس الماضي، على أن يسبقه اجتماع المجلس الوزاري لدول الإيقاد في اليوم الذي يسبقه، كانت من الأمور غير المسبوقة في أدبيات السياسة المعاصرة، وفي الديمقراطيات المعاشة. وقد أشار إلى هذا الأمر الرئيس الكيني كيباكي نفسه إذ ذكر في بيانه المتلو أمام رؤساء جيبوتي، إسماعيل عمر جيله، واليوغندي يواري موسوفيني، ورئيسَي وزراء إثيوبيا ميليس زيناوي، والصومالي عمر شارماركي، وبحضرة الفريق أول سلفا كير ميارديت، النائب الأول لرئيس الجمهورية، ورئيس حكومة جنوب السودان، و الأستاذ/ علي عثمان محمد طه، نائب رئيس الجمهورية، ذكر كيباكي أن مشاركة السودان في المؤتمر الطارئ بنائبَي رئيس الجمهورية، في ظروف الانتخابات التي نعلمها جميعاً، ونعلم ما تعنيه لهما و لبلادهما، لهو أقوى الأدلة على ولاء والتزام حكومة الوحدة الوطنية بإنفاذ اتفاقية السلام الشامل، وهذا يُعدُّ من أكبر الضمانات التي تتوفر لنا في هذا السياق. أما في البيان الختامي للقمة فقد عبّر رؤساء دول وحكومات منظمة الإيقاد عن قناعتهم بأن ما تحقق في مجال تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، خلال السنوات الخمس الماضية، يعتبر إنجازاً ضخماً Enormous achievement ولكنهم أيقنوا أن ما تبقى لا يزال تحدياً كبيراً. و أكّدت القمة على ضرورة أن تنعقد الانتخابات على كافة المستويات و في الموعد الذي تم تحديده وبموافقة طرفَي الاتفاقية، لا سيما وأن الانتخابات وانعقادها في هذه المرحلة هو عين ما نصّت عليه الاتفاقية. وحيث أن الاتفاقية صِيغت بالتزامات قُيدَت بجداول زمنية، تتضمن إنجازات محددة بالتلازم التاريخي، بحيث لا يمكن أن يتقدم أو يتأخر إمضاء أحدها إلا وكان ذلك مؤثراً في إنفاذ الذي يليه، وبالتالي فقد كان الفهم السائد لدى رؤساء الدول والحكومات المشاركين في القمة، أن الاستفتاء المنصوص عليه في العام القادم 2011م لا يمكن أن يكون ممكناً ولا ملزماً لأطراف اتفاقية نيفاشا، ما لم تتم الانتخابات، وبالتالي فقد ورد بالبيان مناشدة حكومة الوحدة الوطنية للانتباه لأهمية الخروج بانتخابات شفافة وعادلة Fair and Transparent وهاتان العبارتان مقصودتان لأعيانهما. ففي إفريقيا، خلال العام الحالي والذي سبقه، ظلت هناك مشاكل صاحبت الانتخابات، أولها في البلد المضيف كينيا. فقد أدى عدم قبول أحد الأطراف من حزبي الرئيس كيباكي ورئيس الوزراء رايلا أودنقا، لنتائج الانتخابات في عام 2008م، إلى إزهاق أرواح عشرات الآلاف من المواطنين، الذين تناثروا شيعاً وطوائف، يرتدون لبوس العنصرية والعرق، و يحتفون بالقبيلة والعشيرة،ويذيق بعضهم بأس بعض، فأصبح الجار يَقتل جاره دون ذنب اقترفه سوى خلافه معه في الحزب الذي ينتمي إليه، والقاتل لا يدري فيما قَتل، و لا المقتول فيما قُتل. و نتج من جراء ذلك تشريد أنفس كثيرة، قدرتها منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة ب 000ر300 شخص، مما أدى إلى أن يطل على البلاد شبح محكمة الجنايات الأوروبية، ومدعيها العام لويس أوكامبو، الذي تعرفون، فظل يتوعد السياسيين هناك بالويل والثبور، وأوعز إلى القوم بأن لديه قائمة اتهام طويلة، لن يفصح عنها، خوفاً من أن يلجأ المطلوبون إلى قبائلهم، ليتدثروا بها من تغول المحكمة الأجنبية على حرياتهم. وتدور الآن في البرلمان الكيني في هذه الأثناء مساجلات ساخنة، يطالب بعض أوليائها بتشكيل محاكم وطنية داخل كينيا بدلاً من الأجنبية، بينما يطالب آخرون بالتعامل مع المحاكمة الدولية، منعاً لتغول السياسيين على القضاء الوطني، ولا يزال القوم يختصمون. ومثل كينيا، حدث هذا الأمر من التشرذم والاختصام في مدغشقر، التي قام أحد السياسيين فيها بالتآمر مع عسكر بلاده لمحو التجربة الديمقراطية التي بدأت في تلك البلاد قبل زهاء سبعة أعوام خلت، ولكنها لم تفضِ إلى تقدم اقتصادي ولا تطور مدني. ولا تزال ساحل العاج، وغينيا تمران بمراحل عسيرة في مسيرة التحول الديمقراطي المريرة، في مجتمعات أنهكها الاستعمار، فنهب ثرواتها، ولم ينشئ بها بنيات أساسية للحكم الديمقراطي، ولا للتنمية الاقتصادية، ولا يزال أكبر همّ شعوبها، بعد نصف قرن من خروج المستعمر، هو توفير لقمة العيش، و أبسط الكسب الذي أضحى غير مستطاع، ومقاومة تقلبات المناخ، والجفاف المتتالي، و مدافعة ابتلاءات التصحر، والتغير المناحي، والديون التي أغرقت البلاد مع ما يصاحبها من تجذير الفقر و استشراء المرض. لعل ما لفت نظر الإعلام الدولي المقيم بنيروبي وما وراءها، في شأن السودان مؤخراً هذه الأيام، فحوى خطاب الرئيس عمر البشير في واو، عند افتتاحه خط السكك الحديدية الذي يربطها مع بابنوسة، وقبلها خطابه أثناء زيارته إلى يامبيو. إذ أكّد لشعبه هناك، أنه يحترم خيارهم في الاستفتاء كحق مشروع، وفق ما نصّت عليه الاتفاقية، على الرغم من رغبته كقائد قومي، في الترويج والتحريض على الوحدة، لما فيها من القوة، ولما في ذلك من دواعي التناغم مع مسيرة القارة الإفريقية، التي تسعى عملياً إلى التوحّد القاري، و إلغاء الحدود الاستعمارية المصطنعة، و من تلقاء تجربة وممارسة الاتحاد الإفريقي، والجنوح إلى إلغاء تأشيرات الدخول، وتوحيد الرسوم الجمركية والضرائبية، مثلما يحدث ضمن مجموعة دول السوق المشتركة لدول جنوب وشرق إفريقيا (الكوميسا) و مجموعة دول شرق إفريقيا East Africa Community التي تضم كلاً من كينيا و يوغندا وتنزانيا، ثم انضمت لها بوروندي ورواندا، والتي تطمح خلال يوليو القادم إلى إلغاء الرسوم الجمركية على البضائع التي تكون هذه الدول منشأها. حقاً لقد كان للتطمينات التي ركّز عليها الرئيس البشير في خطاباته في الجنوب تأثيرها السياسي والنفسي الذي لا يخفي على الإعلام الدولي والمحلي وعلى المراقبين لأوضاع السودان ومسيرة السلام. فقد أشار لذلك المعنى الرئيس الكيني السابق، الذي أشرف على ولادة اتفاقية نيفاشا، دانيال أراب مُوي، حيث ذكّر نائبيّ رئيس الجمهورية، الفريق أول سلفا كير، والأستاذ/ علي عثمان، اللذين كانا يجلسان متجاورين أمام علم الجمهورية، ذكّرهما أن يوقنا بأنه إذا ما اختار المواطنون في الجنوب الانفصال فلن يكونوا في جوار الأطلسي، بل ستظل الحدود هي الحدود، والجوار هو الجوار، وبالتالي فنشدهما التبصّر فيما يصيرون إليه ، مع تأكيده على احترام ما نصّت عليه الاتفاقية. ولعل الرئيس الكيني، الذي يعتبر من حكماء إفريقيا وقادتها المعمّرين، ومن مناضليها المُجرَبين، الذين تشرفوا بالنضال مع الرئيس الأسبق جومو كنياتا، الذي شارك في ثورة التحرير الوطني، وأخرج بلاده إلى الاستقلال، وكانا من ضمن الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية، وتمتعت كينيا في سني حكمهما باستقرار سياسي واجتماعي، دام أكثر من أربعين عاماً متتالية، إلى أن جاءت الانتكاسة الأخيرة عند التحول للتعددية الحزبية. فلعل إشارته للأطلسي، دون المحيط الهندي أو البحر الأبيض مثلاً، لم تأتِ اعتباطاً، بل كانت كناية صريحة للتحذير مما يُلحظ تصريحاً وتلميحاً، وما يُغمز من طرف خفِي، وما يُعتقد على نطاق واسع، بأنه يعتمل في نفوس سياسيّ وقادة بعض الدول التي تجاور المحيط على ضفتيه الشرقية والغربية في القارة الأخرى، والذين أضحى بعضهم يتربص هذه الأيام بكينيا نفسها، وعدد من رموزها السياسية، بعد أن زينّوا لها ممارسة الديمقراطية التعددية البرلمانية، في ظل ظروف لم يتم معها توفير الاستعداد الأمني اللازم ولا معيناته، فأصبحوا اليوم ينبذون تصرفاتها، ويسعون إلى القبض على قادتها السياسيين، ليحاكموا في لاهاي على أيدي من كانوا يستعمرونهم بالأمس. وأشار إلى ذات المعنى الرئيس الأسبق لبوروندي، بيير بويويا، نائب رئيس لجنة حكماء إفريقيا التي ابتعثها الاتحاد الإفريقي إلى دارفور العام الماضي، لاقتراح معالجات تتضمن رؤى إفريقية خالصة لحل مشاكلها، فأوصى الرؤساء بالعمل على تكثيف ثقافة السلام، وتعريف المواطنين في كافة أنحاء السودان باستحقاقات وواجبات الانتخابات والاستفتاء وتقرير المصير، ودعا إلى ضرورة الالتزام بالشق الآخر الهام الذي نادت به الاتفاقية،ووافق عليه الطرفان: العمل على جعل الوحدة جاذبة. ٭ سفير السودان لدى جيبوتي والمندوب الدائم للإيقاد