كانت الشمس تميل للمغيب عندما وصل الرجال البالغ عددهم احد عشر لمدينة الفاو في طريقهم لمدينة الحواتة لاداء واجب العزاء في وفاة عمهم ابو القاسم فضل السيد، أتى هؤلاء الرجال من منطقة المكابراب بولاية نهر النيل، إلا انهم عندما وصلوا مدينة الفاو وجدوا الموقف خالياً، فقد غادرت آخر حافلة الموقف قبل ساعتين، لقد كانت هذه هي المرة الاولى التي يزورون فيها الفاو وليس لهم معارف فيها، ومدينة الفاو مدينة ادارية تنعدم فيها النزل والفنادق واخذوا يتشاورون في امر مبيتهم وقد تملكتهم الحيرة، فالمدينة تكاد تخلو من الاحياء السكنية ومعظم سكانها من الموظفين الذين يقطنون البيوت الحكومية، واثناء انشغالهم توقفت عربة بوكس، نزل منها شاب وسيم قسيم، طلق المحيا بشوس الوجه بادلهم التحية وسألهم عن وجهتهم، اوضحوا له مقصدهم فافادهم بان الوقت قد تأخر وعليهم الذهاب معه للمبيت بمنزله، ومن ثم مغادرتهم لمدينة الحواتة في صباح اليوم التالي، ذهب القوم مع الرجل الذي لا تربطهم به أية صلة معرفة، اكرم وفادتهم واحضر لهم طعام العشاء والشاي والقهوة ومن ثم خلدوا للنوم. في الصباح الباكر وبعد ادائهم لصلاة الصبح جاءهم بالشاي والقهوة و(الزلابية)، ومن ثم احضر لهم عربة اقلتهم إلى وجهتهم، وعند وصولهم لمدينة الحواتة وعندما ارادوا اعطاء صاحب العربة اجرته، افادهم بان الاجرة مدفوعة من الشخص الذي احضر العربة، وقد كان هذا الشخص كباشي بلة محمد، عندما قابلت العم المرحوم فضل السيد معاك حكى لي هذا الموقف وسألني عن كباشي واحواله واخباره ولم استغرب هذا الموقف من كباشي فقد كان جديراً به ويشبهه وذاكرة الحواتة والفاو ومدني تحتفظ له بكثير من هذه الاشياء، فقد كان شخصاً ذا مروءة ومواقف وحكايات، كأن أمة تجسدت في شخص واحد، كريماً عطوفاً شفوقاً بالفقراء والمساكين يحن عليهم ويعاملهم بالرفق والعطف، لا يعرف البخل والجبن، يعين على نوائب الدهر، يعيل أسراً ستفقده كثيراً، كان كالغيث اينما هطل نفع، تلقيت رسالة من الأخ عبد الكريم الهاشمي افادني بانتقال كباشي للرفيق الأعلى، فقد كان الخبر مفجعاً وصادماً كانت أتأهب للذهاب للمحكمة حيث ان لدى جلسة سماع في محكمة الخرطوم الجزئية، عندئذ ابدلت ملابسي واتصلت بمكتبي وطلبت منهم الذهاب للمحكمة وتأجيل الجلسة، توجهت نحو مدينة ود مدني حيث يقام العزاء بمنزل الأسرة بحي المطار، ذهبت وبرفقتي عبد القادر الحاج فضل السيد والألم يعتصرنا ، الحزن يلف العربة والمكان، أخذنا نسترجع مواقف الرجل كل منا له مواقف معينة معه، كل منا حزين على هذا الفراق الفاجعة وكل منا له حزنه الخاص به، حكى لي عبد القادر بانه تلقى وفاة جدته وعند ذهابه لتلقي العزاء مروراً بالفاو تحاشى عن قصد المرور بمكتب المرحوم كباشي، لئلا يزعجه ولعلمه التام بانه سيترك مافي يده وسينشغل به، ولئلا يعطل الرجل عن اعماله قصد التوجه لموقف الحواتة مباشرة، قال لي اثناء وقوفه تفاجأ بالرجل ينزل من عربته ويسأله عن حاله ويطلب منه الذهاب معه للمنزل وعندما علم بالوفاة استأذنه برهة ثم عاد ومعه عربة، ورافقه في العربة لأداء واجب العزاء وقد كان الوقت خريفاً وهنالك مشقة كبيرة في عبور المسافة، بين الفاو والحواتة، خاصة وان الطريق غير معبد وقد استغرقت الرحلة حوالي العشر ساعات ولم يكن المرحوم كباشي مهيأ لها وقد سافر بملابسه التي على جسده، هذا هو كباشي، عندما وصلنا صيوان العزاء وجدناه يمور باعداد كبيرة أتوا من كل فج لتقديم واجب العزاء وكل منهم يحمل في داخله عرفاناً أو جميلاً طوق به المرحوم عنقه. أخذنا نعزي بعضنا والدموع تنسال من المآقي ويحق لها ان تفعل فلمن تبكي ان لم تبكِ على كباشي، جلست إلى صديق عمره الأمين حسين ادم وطوفنا محطات عديدة في رحلة المرحوم، وحكى له الأمين انهم عندما كانوا صغاراً عثرا على مسدس والده فانطلقت منه طلقة استقرت في عنق المرحوم ومازالت في جسده إلى ان فارق الحياة، وقال لي: ان بعضهم حاول الاصطياد في الماء العكر، وذهب إلى والدة كباشي المرحومة السيدة الفاضلة صلحة بنت الافندي (التي تحمل بنته اسمها) وقال لها ان الامين قتل كباشي فجاءته الاجابة: كباشي ولدي والامين ولدي، وذهب العم بلة محمد والد كباشي وقام بمنع الشرطة من ادخال الامين للحراسة، سردت للأمين موقف المرحوم معي عندما حللنا بالفاو في ظروف استثنائية وبصحبتي محمد الهاشمي والاستاذ حسن آدم فاشر المحامي وقد وقف معنا المرحوم وقفة لا يمكن نسيانها، لقد كان خلوقاً طيب المعشر نقي السرائر حلو الشمائل يتحلى بمكارم الأخلاق، كان شهماً كريماً عطوفاً، محبوباً لكل من عرفه ومن لم يعرفه، كان رجل مواقف بحق وحقيقة. اللهم انه عبدك ابن امتك ناصيته بيدك عدل فيه قضاؤك، مؤمناً بك، حل بك ضيفاً وأنت الكريم نتشفع فيه إليك ما عرفنا عنه من مكارم الاخلاق بان تكرم نزله وتمد له في بصره حتى يرى مقعده من الجنة، وان تنزل شآبيب الرحمة والغفران على قبره وان تجعله روضة من رياض الجنة وان تجعل البركة في ابنه محمد وبنته صلحة، وزوجته واخوانه معتصم والسفاح وستنا، وابناء اخته خالد ومحمد واخوانه واصدقائه واحبائه الامين حسين آدم ومحمد وحسن عبد المعروف وكرار ومحمد الهاشمي وآل كلكوت وآل الافندي وآل الكابراب.