ان ما يميز كتاب «قراءة المسرحية، للمؤلفة رونالد هيمن عن سواه هو تناوله للمسرح بشكل دقيق واكتشافه العناصر المحفزة للقارئ خلال قراءته للنص المسرحي، والوصول الى المتعة التي لا تقل عن متعة المشاهدة خلال القراءة، ويعتمد الكتاب على خبرة للكاتب في مجال التأليف والتمثيل والاخراج المسرحي، اذ الف عددا من الكتب منها «اساليب للتمثيل» و «البنية» و«تولستوي » جون و«غالينفود» واذا كان رونالد هيمن قد تعكز في عنوانه الرئيسي على مفردة قراءة وبنى عليها مفهومه النقدي للعمل الدرامي، الا انه اسهم في الدخول من ابوابه الواسعة مستثمرا الفرصة للخوض في تفاصيل كثيرة توضح اهمية الفن المسرحي في ايجاد العلاقة التي تمد للقارئ ب «الوعي والمتعة والمعرفة». إن العمل الدرامي الذي هو تحويل الكلمات إلى حياة على المسرح، بكل تناقضاتها واتساقاتها، من خلال ايجاد المبررات، لذلك لا يعتمد على الممثل والنص فحسب، وانما يتعدى ذلك للوصول الى المؤثرات الصوتية والضوئية والديكور والسينوغرافيا، ان هذه العناصر مجتمعة تمثل خلاصة العمل المسرحي لتقديم حياة مفترضة او حياة حقيقية تعيشها مع النص والمفردات الأخرى التي يتشكل منها العرض المسرحي. ولعل جورج برنارد شو كان قد انتبه الى اهمية الموضوع، فراح يفكر بالقارئ قبل المتفرج، بسبب أن ملايين الناس قد لا تتاح لهم فرصة مشاهدة مسرحياته على خشبة المسرح، فلذلك يقول برناردشو: من أهم الاشياء التي فعلتها في انكلترا انني احدثت اصلاحا في طباعة المسرحيات، ويقصد بذلك قيامه بكتابة المقدمات والتوضيحات التي كانت تسبق النص المسرحي المطبوع... اذا يحاول كاتب «قراءة المسرحية» التأكيد على أهمية المسرحية كنص مقروء بعيدا عن تأثيرات العرض المسرحي الذي يزدحم بالتفاصيل... ضوء، صوت تمثيل، سينوغرافيا. ففي الفصل الاول القارئ والوسيلة، وكذلك في الفصل الثاني، المؤثرات الصوتية، يوضح الكاتب أهمية استحضار عناصر المسرحية غير المقروءة، للمساعدة في تكملة الصورة المفترضة في البال نتيجة القراءة، اي ان القراءة لوحدها دون الرجوع الى العين الباطنة كما يقول هيمن تعتبر قراءة احادية، اي لا يكون بامكانها نقل الصورة لمسرحية بكاملها، وتبقى الكلمات لوحدها دون أن نتمكن من اداء فعلها القرائي، إن استرجاع او تخيل الصوت والضوء والعلاقات وحركة الممثل اثناء القراءة، هو الذي يتمم عملية الافادة من النص المقروء، وبالتالي يجعل العمل المسرحي حاضرا في الذهن. اما الفصل الثالث: «الزخم والترقب» فيؤكد فيه المؤلف اهمية ان يستحوذ الكاتب المسرحي على الاهتمام المشترك لمشاهديه مرسخا في اذهانهم الترقب نفسه الذي يغرسه في جميع أرجاء المسرح، ويؤكد أن شكسبير مازال له قصب السبق في ذلك من خلال مسرحياته التي يستشهد بها. وتبدأ مسرحية «هاملت» بحارس عصبي المزاج يستبدل غيره أمام قلعة يتردد عليها شبح، وبعد اربعين سطرا يظهر الشبح فعلاً، وتبدأ مسرحية «ماكبث» برعد وبرق وساحرات، وتستهل مسرحية كورليونس بمشهد مواطنين في حالة هياج وشغب، وهم يحملون الهراوات والعصي. وفي الفصل الرابع المعنون «ليس بالكلمات فحسب» نجده يقول: «من السهل أحيانا على القارئ وهو في كرسيه المريح أن يفك مغاليق اللغة التي خلف الحوار». ان اللحظات التي تسبق وتعقب الحوارات تكون واضحة خلال العرض المسرحي، من خلال حركة الممثل وكمية الضوء المسلط على المكان، وكذلك الموسيقى، اما في القراءة فهذه مهمة القارئ في مدى ادراكه لذلك في خلق معرفة ما وراء الحوار الذي يعبر عنه بالايماءة او الصمت. أما الفصل الخامس: الزي والهوية، فإن الزي يمنح الشخصية هوية مزدوجة اذا اريد به - اي الزي - التنكر - كما في مسرحية شكسبير دقة بدقة او مسرحية غاليليو لبرشت، فإن الكاردينال يبقى الوجه فيه دون تغيير لكن الهوية تتغير مسرحيا، وهنا تكمن اهمية القارئ في معرفة الشخصية الحقيقية وتمييزها عن الشخصية الاخرى من خلال التدقيق في الحوار.. وفي الفصل السادس الخاص ب «الهوية والشخصية» يؤكد هيمن علاقتين في المسرحية، ويقصد بذلك علاقة تنامي الشخوص، وهو اولا: العلاقات العرضية التي يقول عنها أنها التي توجد في وقت واحد في اية لحظة من العمل المسرحي، وثانيا العلاقات الطولية التي تتضمن مرور الزمن، وان الخط الذي يربط ماكبث الذي نشاهده في بداية المسرحية مقاتلا شجاعا ناجحا، وماكبث الوغد البائس في الفصل الاخير، انما هو خط علاقة طولية.. أما موضوع التهكم والغموض، فيتناوله المؤلف في الفصل السابع من خلال مسرحية هايدا جابلر لابست، متشهدا حوارا بين (هيدا وبراك) للتدليل على الغموض والتهكم. ويقول هيمن في هذا الصدد (أما تفسير القارئ لمسلسل الاحداث فهو مستند الى المسرحية بأكملها، وهم يعرفون ان هيدا ستقتل نفسها حين يكون براك في موقع سوقي مؤاتٍ».. ويختتم الفصل بهذا التساؤل: هل في ذلك الغموض وتلك التساؤلات خير للقارئ؟! ويجيب بأن القارئ الراغب في منح فنه وجهده لابد ان يجد في ذلك تجربة ساحرة، بل انه في وضع افضل من وضع المخرج في المسرح من حيث انه لا يحتاج الى ان يجد حلا عمليا واحدا لكل مشكلة.. اضافة الى الفصول الأخرى التي تتناول المسرح الذهني والصمت والمعنى والتجربة التي يقول عنها (من أعظم الميزات التي يتميز بها القارئ عن جمهور المشاهدين انه اقرب منهم الى العمل الاصلي للكاتب. وفي نهاية الكتاب يوجز الكاتب رونالد هيمن ما اراد قوله في كتابه هذا (قراءة المسرحية)، بعشر نصائح ويختتم كتابه بهذا: (المسرحية قد لا تعني دائما ما أراد الكاتب لها أن تعني.. فالمعنى هو محصلة القوة الناتجة عن الكلمات وفترات الصمت، وكل العناصر الاخرى ومن جميع العلاقات التي تنمو بينها». ان كتاب «قراءة المسرحية» ينطوي على مغزى عميق وتجربة لا بد من المرور بها، لا سيما المشتغلين بشؤون المسرح. ويمثل هذا الكتاب مصدرا لا غنى عنه من مصادر الثقافة المسرحية الرصينة والوعي بأسرار فن المسرح، وقد جمع المؤلف بين الثقافة المسرحية والتجربة العملية، مما جعل مفردات الكتاب ذات فائدة بما يعمق المعرفة التخصصية، إلى جانب أنه لم يكتب للمتخصصين فحسب. وفي الختام لا بد من الاشادة بدور المترجم الدكتور مدحي الدوري، على ترجمة هذا الكتاب بأسلوب عربي رصين.