صغيرتي عائشة تسألني سؤالاً دائما ما أشتم من خلاله حيرة هذا الجيل الذي كتب عليه أن يعيش خارج أسوار الوطن الكبير، فتلقفته مناهج دراسية في غالبها الأعم امتداد لهموم غربته، وزاد طينهم بلة ما استكملته قنوات الأطفال التي يعج بها الأثير، وليس بالطبع بينها ما يملأ ثغرات مما نبحث عنه لأطفالنا المغيبين قسرا. فالعطلات التي ربما تتيسر لبعض أولئك وعلى تباعد فتراتها، ليست بكافية لجعلهم يلحقون بركب رفقائهم من السودان، والتي غالبا ما تكون لعرض مهارات تتعلق بالألعاب وثقافات تعلموها في المهجر أرادوا عكسها لمعارفهم أو من يلتقون بهم، دون أن يعبأ أحد بتزويدهم بشيء عن ثقافة البلاد وتاريخها وإرثها، فنجد كثيراً منهم أكثر انطوائية بين رفاقه، وشديد الالتصاق بعائلته التي يجد في البعد عنها انتقاصا من شخصية عاشها طيلة غربته هناك، حيث لا تخلو حياته من التنبيهات المتواصلة من الوالدين، شخصية ساهم في تكوينها الخوف من مخالطة الغير في بلاد المهجر، فشبح المتعاطين للمخدرات بين الطلاب، علاوة على ما أشيع عن استغلال الأطفال في بلاد كثيرة، وما عرف بالاعتداء على الأطفال والتحرش بهم، فكل ذلك ساهم في تكوين شخصية مبتذلة للعديد منهم في بلاد المهجر. وقد ساهمت الأسر المهاجرة بقدر كبير في تكوين تلك الشخصية المنغلقة عن الكثير من الايجابيات، فالطفل أكثر حذراً من الاحتكاك، وكاميرات مراقبة الأسر لا تكاد تبرح مكانها، ولم تترك له حتى فرصة لابتكار أسلوب لحياته ربما كان مكملا لأهداف ذويه، وغابت الجرعات التي كان بإمكانها عمل موازنات تعينهم عند العودة. وعلنا نلاحظ ذات الشخصية حتى في المرحلة الجامعية التي يتبعها نوع من التدليل المضلل الذي أدى في اغلب الأحيان إلى انحرافات لا تحمد عقباها. والقضية برمتها يمكن تداركها بعدة طرق، بدايتها من الأسرة الصغيرة التي عليها التوجيه بما لا يتعارض مع تكوين شخصية قوية لهؤلاء الصغار، ومساعدتهم في الحصول على برامج تعليمية وتثقيفية تربطهم بواقع الحياة في السودان، وإقناعهم دوما بأن الغربة ليست نهاية المطاف، وأنهم لا محالة عائدون للعيش في السودان وبأسلوب جديد ومختلف عن الحياة في المهجر، وعلى تلك الأسر الاجتهاد في تكوين مجتمعات سودانية مصغرة في المهجر مثل الأندية الثقافية، تضم بين ثناياها كتبا عن تاريخ السودان وجغرافيته وارثه الثقافي، بالإضافة إلى حلقات يقدمها عارفون بهموم البلاد، فالجاليات الرسمية لا تظهر هناك إلا في الاحتفالات الرسمية، مع ملاحظة التأخير فيها، فالاحتفال بالاستقلال عادة ما يتم في فبراير أو يزيد.. ولا أجد بداً من اقتراح قناة تابعة لتلفزيون السودان للأطفال، ببرامج محلية ومختلطة وبذات الجودة المقدمة من قنوات مثل طيور الجنة ومثيلاتها، تساعد الأسر المهاجرة لإقناع أطفالهم بمشاهدتها. وقد حدثني كثيرون بأنهم لا يشاهدون الفضائية السودانية، وارى في ذلك تقصيرا لا نحسه الآن، وبالرغم من أن ما يقدم في القناة قد لا يلبي كل ما نحتاج، إلا أن جرعات قليلة قد تذيب شيئا من الجمود والابتعاد عن هموم الوطن، وعلينا عدم التضييق على أطفالنا أو تخويفهم من الحياة عند العودة.