إيريك لي صحيفة الكرستيان ساينس مونيتور، بكين كانت حركة التنوير الأوربية هي مصدر التغيير بالنسبة للبشرية على مدى 300 عام تقريباً. ومن ثم دخلت الصين إذ أصبحت خلال 32 عاماً ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، فأنموذج الصين يوضح أن الحداثة ذات الطراز الغربي لم تعد تمثل الطريق الوحيد القابل للبقاء في اتجاه الحداثة. احتفلت جامعة تسينغهوا التي تعدُّ المؤسسة الصينية الأولى للتعليم العالي بعيدها المئوي في أبريل الماضي. وجامعة تسينغهوا التي أُسست عام 1911م في ظروف من الخزي القومي البالغ كانت تمول بدايةً بالمنحة الدراسية الخاصة بتعويض انتفاضة الملاكمين الشائنة والتي كانت في الأساس عبارة عن تعويضات حرب دفعتها الصين للولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين باتت تسينغهوا تمثل صورة مصغرة للخبرة الصينية في الحداثة لمدة قرنٍ كامل، وظل مصيرها مرتبطاً ارتباطاً غير منفصم بمصير الأمة الصينية فهي تحتل موقعاً مركزياً في الوعي الصيني الجمعي. لقد بدأ كثيرٌ من الزعماء والمفكرين الصينيين بل حتى الثوريين في البحث عن الخلاص الوطني من هذه الأراضي المصفوفة بالأشجار الواقعة قرب أنقاض قصر الصيف القديم الذي أحرقته بالكامل القوات الإنجليزية/ الفرنسية بقيادة لورد إلجين. لقد افتتح الرئيس هو جنتاو الذي كان هو نفسه خريجاً هذه الاحتفالات بهذه المناسبة التي تحمل مغزىً سياسياً وتاريخياً. وبالطبع قد ولت الأيام التي كانت فيها الصين فريسة ضعيفة للقوى الغربية الكبرى، فالصين ينظر إليها اليوم بحسبانها منافساً لقيادة العالم في المستقبل. إن مئوية جامعة تسينغهوا تعطي فرصة للتأمل في الوقت الذي تهز فيه نهضة الصين لبّ النظام الدولي كما نعرفه. وينظر الكثيرون لنهضة الصين بمناظير سياسية واقتصادية وعسكرية ولكن النهضة الصينية في جوهرها تمثل تحدياً أخلاقياً وفكرياً للعالم الحديث، فقد كانت حركة التنوير الأوربية مصدراً فكرياً وأخلاقياً للتغيير إن لم يكن للشرعية بالنسبة للبشرية وذلك على مدى 300 عام. ومع ذلك فإن موجة تيار التغريب أحدثت أيضاً جنباً إلى جنب مع هالة التحول الاقتصادي والتكنولوجي الفوضى والروح الانهزامية بل وحتى الكارثة للحضارات غير الغربية. لقد كان نتاج حركة التنوير والحداثة مركَّزاً بطبيعته على المذهب الفردي والحقوق والعلوم تجربة ثقافية غربية فذة. إن الحداثة كان لديها بالتأكيد أصلها الفكري البارز، فالمذهب الإفلاطوني بدأ به بحثُ الغرب عن الحقيقة المجردة منذ عهود الإغريق القدماء. لقد وضع أول انقسام للمسيحية مع انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية لأكثر من 1500 عام الغرب على طريق السلطات السياسية والدينية المنفصلة، فتوحيد السلطة بواسطة الطبقة الأرستقراطية الذي قننه الميثاق الأعظم للحريات (ما يسمى بالماجنا كارتا) قد جعل من توازن القوى سمة فريدة داخل البنية والفلسفة السياسيتين الغربيتين. أما الانقسام الثاني للمسيحية أي الإصلاح البروستانتي فقد ساهم دون قصد في جعل الفرد وحدة سيادية وأساسية في المجتمع. وكل هذه التطورات التاريخية والثقافية بلغت ذروتها خلال حركة التنوير وخلقت الحداثة الجامحة ذات الطابع النظري الشامل، فالحداثة سهلت تطور العلم والثورة الصناعية وقادت إلى التقدم الأعظم للقوة المادية في تاريخ الإنسان أي التحديث. قيم الحداثة الغربية إن الفرد باعتباره مخلوقاً عاقلاً وموهوباً بالحقوق التي منحها إياه الله نجده يتبوأ مركز النظام القيمي للحداثة، فهؤلاء الأفراد المرتبطون بالتقاليد الثقافية لأوطانهم هم الذين صنعوا الدولة القومية. لقد أصبح توازن القوى والديمقراطية الانتخابية هما السمات السياسية المحددة لهذه الدول القومية إذ شكلت حيازة الأصول الخاصة أساسها الاجتماعي والاقتصادي، أي ما نسميه الآن بالرأسمالية. إن كل الحضارات غير الغربية تقريباً بما فيها الصين حاولت استيراد قيم الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لإعادة خلق ثقافاتها الخاصة بها لكيما تحقق التحديث وذلك بعد أن جُوبهت بالتمدد السريع والشرس لهذه الدول القومية المسلحة بالتصنيع حديثاً. لقد كان يُنظر إلى الحداثة على ما يربو على قرن من الزمان أو أكثر باعتبارها الطريق الوحيد المفضي إلى التحديث، بل حتى التجارب غير الليبرالية كالشيوعية السوفيتية كانت في الأساس مشتقاتٍ من الحداثة وإن كانت تمثل تجارب معيبة في جوهرها. ومع اندياح الحداثة حول العالم، نجد العالم النامي الواسع المنقسم الضعيف والمعوز والعنيف والغني بالموارد الطبيعية والبشرية لم يكن شيئاً سوى متلقٍّ لوصفات التحديث العلاجية الموجَّهة غربياً. لقد كانت الهيمنة الآيديولوجية للحداثة لعدة سنين وفي بلدان كثيرة هيمنة لا تجارى كما كانت النتائج المرغوبة للتحديث من خلال الحداثة أمراً لا جدال فيه. ومن بعدُ أتت الصين. كفاح الصين للتحديث في ذات العام الذي أُسست فيه جامعة تسينغهوا دشنت ثورة شينهاي أول محاولة للصين لاستيراد الحداثة واستزراعها في تربتها العريقة، وظل جيلان من أجيال الصين يكدحان ويستنزفان دمهم ليروا فقط بلادهم تسقط بصورة أعمق في هاوية الضعف القومي والحروب الأهلية والخارجية ومعاناة شعبها التي لا تطاق. ومن بعد اختارت الدولة الصينية طريقاً مختلفاً في عام 1949م، فقد استولى الحزب الشيوعي الصيني على السلطة عن طريق العنف وظل يعزز السلطة السياسية القومية ويمركزها بأسلوبٍ منسجمٍ مع التقليد الإمبراطوري للصين. فالدولة الصينية التي وُوجهت تحت حكمها المطلق بحالات الحظر من كل العالم تقريباً دفعت ثمناً غالياً في المجاعة والصراع الأهلي ومع ذلك فقد حققت أخيراً استقلالاً قومياً لا ينازع لدولة سيادية حقيقية داخل النظام العالمي الغربي الراسخ. وبعد مرور ثلاثين عاماً على تأسيس الجمهورية الشعبية بدأت الصين مرحلة تنميتها الحالية في عام 1979م وأصبحت في خلال 32 عاماً فقط ثاني أكبر اقتصادٍ في العالم حيث يُدار في أرضها العريقة أسرع جهاز كمبيوتر في العالم وقطارٌ أكثر سرعة. لا شك أن التحديث الصيني قد تلقى تأثيراً غربياً ضخماً، ومع ذلك لم يكن جوهرها الحداثة ولا يمكن أن يكون جوهرها الحداثة، فالفرد في صين اليوم يظل جزءاً من وحدة المجتمع الكلية والمستقلة والأساسية. إن السلطة السياسية ليست مجزأة ولا موازنة بيد أنها مركَّزة تحت سلطة سياسية واحدة، كما أن اقتصاد السوق المكيف مع الغرب يعمل على تقديم توزيع فاعل للموارد ومعدلات نمو عالية حيث أنقذ مئات الملايين من الناس من هوة الفقر، ورغم ذلك فهو ليس رأسمالية صارخة. إن المواطنين الصينيين العاديين يتمتعون بنطاق واسع من الحريات الشخصية مثلهم مثل الأناس الموجودين في أي مكان آخر في العالم الغربي، ولكن أولئك الذين لديهم طموحات سياسية متضاربة مع الأهداف الجماعية للدولة والمجتمع فيُقيدون تقييداً صارماً بل ويتم قمعهم. الحديث في مواجهة الحداثة اللغة هي الحياة، فالمفردات تؤطر عالمنا وتسبغ عليه معنىً: فمفردة «حديث» تترجم إلى اللغة الصينية سيانداي Xiandai والتي تعني ببساطة «الجيل الحالي»، فهذه الكلمة لا تحمل المعنى الواسع الذي تحمله كلمة «حديث» كما أن كلمة سياندايهو Xiandaihua التحديث تحمل المعنى المادي فقط. لقد كان التحديث Xiandaihua هو الهدف الغالب للدولة الصينية، فأحد الآباء المؤسسين للجمهورية الشعبية رئيس الوزراء شو ان لاي قد أعلن إلى الشعب الصيني في نهاية الثورة الثقافية المأساوية أن التحديثات الأربعة كانت تمثل الطموحات القومية للصين، وهي: تحديثات الزراعة والصناعة والدفاع القومي والعلوم والتكنولوجيا، وهذه التحديثات تبلغ بأية حال مبلغ الحداثة. إن أي شيء جديد وأي أنموذج من شأنه أن يجسد المبادئ الأساسية المنظمة للشئون الإنسانية يمكن أن يكون مبهماً في مراحله التكوينية بيد أن هذا الجديد يبدو فارغاً إن لم يكن له أساس في الواقع. فمعظم المجتمعات الناجحة تبني جديدها على الماضي: فالمنظِّرون يخلقون التفسيرات للنجاحات التي تحققها هذه المجتمعات. فهم قصة الصين إن استيعاب قصة الصين على نحوٍ صائب ليست عملاً سهلاً بالنسبة لأولئك الموجودين في الصين وخارجها ممن يريدون إضفاء معنىً على التحول الثوري للصين في الثلاثة عقود السابقة. ورغم أن نهضة الصين لم تكن نتيجة متوقعة سلفاً لكن نجاحها أمر لا جدال فيه حتى الآن، فأنموذج الصين أكبر من أن يُتجاهل، وعندما نفهم نحن كيف يختلف التحديث الصيني اختلافاً أساساً من التحديث الموجود في الغرب فإن ذلك الفهم سيقدم الدليل المطلوب على أن الحداثة لم تعد الطريق الدائم الوحيد إلى التحديث إن لم يكن إلى الحداثة. إذن ما هي قصة الصين؟ لا أحد يملك الإجابة في هذه اللحظة، ولكن ربما كان الوقت الملائم لعملية فهم القصة هي لحظة التجمع بالنسبة لأولئك الذين احتشدوا للاحتفال باليوبيل المئوي لجامعة تسينغهوا ولأولئك الذين يشاهدون نهضة الصين من بعيد بجاذبية فكرية.