تؤكد معطيات الواقع ان مفردة التغيير تعتبر من أكثر المفردات تداولا في الأشهر الستة الاخيرة بالوطن العربي وهي المفردة التي ظلت حبيسة الصدور ردحا من الزمان ولم تجد طريقا يقودها لتتجسد على أرض الواقع معنىً ومضمونا ،وكان التغيير حتى وقت قريب مجرد أماني واحلام تندرج تحت طائلة الترف المستحيل والحلم الممنوع ، بيد ان تفجر الثورات العربية اخيرا اسهم في إحداث حراك حقيقي حتى في الدول التي لم تشهد ثورات مطالبة بالتغيير او فنقل لم تجد شعوبها فرصة للتعبير عما يجوش بدواخلها الباحثه عن التغيير والانعتاق من كافة اشكال القيود ،واجبرت هذه المتغيرات العديد من الانظمة العربية على التعاطي مع المستجدات التي طرأت على المشهد السياسي ،ولم تكن الانقاذ استثناء من ركوب موجة التغيير والذي لم يفرض وجوده بقوة داخل اروقة الحزب الحاكم لإتقاء رياحه التي هبت من دول الجوار وحسب ،بل اسهمت تداعيات الانفصال وانعكاساته السالبة المتوقعة اقتصاديا وسياسا في جعل التغيير ومواكبة المتغيرات ضرورة لابد من تعاطيه والتعامل معه كواقع لابد من حدوثه لضمان الاستمرارية في الحكم ،واطروحة الجمهورية الثانية التي اعلن عنها نائب رئيس الجمهورية قبل أشهر فسرها الكثيرون ان ثمة تغيير في الحزب الحاكم وطريقة إدارة الدولة بدأت تلوح في الافق ،وعلى خطى النائب الاول مضى معظم قادة الانقاذ في تأكيداتهم على ان المرحلة القادمة ستأتي مختلفة تماما عن سابقتها ،وماعضض تأكيدات وتصريحات كبار قادة الحزب الحاكم حول التغيير حديث رئيس الجمهورية في اكثر من مناسبة عن ذات الامر الذي وفي نظر البعض ان حدوثه مجرد وقت ،ولكن و بالرغم من إعلان الحزب الحاكم تقليص الوزارات وإعادة هيكلة الجهاز التنفيذي لضبط الإنفاق والترهل وتاكيده على محاربة الجهوية والمحسوبية والفساد بمختلف اشكاله والتخلص من كل سلبيات الماضي وذلك عقب التاسع من يوليو الموعد المضروب للإنفصال ،يتساءل الكثيرون عن الوجه الآخر للتغيير وهو ذلك الذي يذهب ناحية التغيير في الوجوه لجهة أن هناك قيادات بالدولة ظلت تتولى المناصب الوزارية منذ بداية عهد الانقاذ قبل أكثر من عشرين عاما دون ان تطالها التغييرات الوزارية المختلفة التي اتسم بها عهد الانقاذ خاصة بعد مفاصلة الرابع من رمضان الشهيرة ،وتتباين الآراء حول هذا الامر حيث يرى البعض ان هناك صعوبات بالغة إن لم تكن مستحيله في ذهاب قيادات من الوزن الثقيل على رأسها نائب الرئيس علي عثمان محمد طه ،الدكتور نافع علي نافع ،الدكتور عوض الجاز ،عبد الرحيم محمد حسين ،مصطفى عثمان اسماعيل ،بكري حسن صالح ،دكتور عبد الحليم المتعافي ،اسامة عبدالله ،ومن القيادات الصاعدة كمال عبيد وعلي كرتي وكمال عبد اللطيف ،ويشير اصحاب هذا الرأي الى أن كل الاسماء السابق ذكرها لن تخرج عن التشكيل الوزاري المرتقب وذلك لأنها تمثل العمود الفقري للحزب والدولة ولايمكن الاستغناء عن خدماتها في الجهاز التنفيذي ،فيما يرى آخرون ان خروج هذه الاسماء من اجل إتاحة الفرصة للشباب ليس بالمستحيل لجهة ان المرحلة المقبلة تتطلب تغييراً شبه كامل يطال 90% من القيادات الحالية وذلك لتمكين الشباب وفتح المجال امام القادمين من الحركات المسلحة بعد توقيع إتفاق الدوحة واولئك المنتمين لاحزاب وحركات تربطها إتفاقيات مع الحزب الحاكم ،عطفا على القادمين من حزب الامة والاتحادي الأصل اذا ماتوصل الطرفان الى إتفاق نهائي مع الحزب الحاكم، هذا التباين الواضح في الآراء طرحته على الكاتب الصحفي الطاهر ساتي وسألته عن شكل التغيير القادم بالحزب الحاكم والدولة فقال :شكل التغيير الذي أتوقعه ان يكون هناك تقليص في الوزارات والوزراء البالغ عددهم 77 وزيرا ،وايضا توقعاتي تذهب ناحية فصل الدولة عن الحزب ،وان يمنح مديرو ووكلاء الوزارات صلاحيات واسعه دون تدخلات من الحزب وذلك من اجل تسريع إيقاع الدولة وليأتي اداؤهم مهنياً واحترافياً وليس سياسياً ..وعن ذهاب قيادات الصف الاول بالحزب الحاكم بعيدا عن اروقة الجهاز التنفيذي للدولة عقب التاسع من يوليو يتوقع الطاهر ساتي ان يطال التغيير عدداً من القيادات التي تخطت سن الستين عاما وان تتم إحالتهم الى العمل باجهزة الحزب المختلفة ،ولكن الطاهر يرى أن معادلة توقعات التغيير في المرحلة المقبلة تبدو صعبة وتكتنفها الضبابية لجهة ان الواقع السياسي كثيرا مايهزم الأماني ،ويضيف:الدولة والحزب يودان الذهاب ناحية تقليص الوزارات والوزراء لإعادة الهيكلة وضبط الإنفاق ،بيد ان هناك حقائق ومتغيرات ربما تجهض مساعي الحزب الحاكم في تنفيذ سياسة التغيير التي ينشدها ،فاتفاق الدوحة الذي يمضي نحو نهايته المطلوبة ستترتب عليه استحقاقات وزارية وايضا حزبا الامة والاتحادي باتا على بعد خطوات من الإتفاق مع الحزب الحاكم ،وهناك احزاب البرنامج الوطني ،وكل هذه الجهات كما اشرت سابقا ستكون لها انصبه في الحكم وهو الامر الذي ربما يهزم سياسة التغيير التي ينشدها الحزب او ربما وضعته في موقف لايحسد عليه امام تحقيق الاماني والشعارات في مواجهة الواقع والمتغيرات ، ويستبعد القيادي بالحزب الحاكم ربيع عبد العاطي الاستغناء عن قيادات الصف الاول ،ويضيف: الجميع يتوقع ان يقدم المؤتمر الوطني على التغيير الذي حسب اعتقاد الكثيرين هو ابعاد قيادات الصف الاول عن الجهاز التنفيذي وهذا اعتقاد غير صحيح ،وذلك لان التغيير الحقيقي هو ان لكل رجل موقعه في المؤسسات حسب خبراته بغض النظر عن عمره شابا كان اوشيخا ، ومصطلح الإطاحة الذي يتوقعه البعض غير موجود في قاموس المؤتمر الوطني الذي يوظف كوادره كما اشرت حسب مؤهلاتهم وخبراتهم مع استصحاب عامل السن ،فهناك من يستفاد منه في الشورى وهناك من تستفاد من خبراته وهكذا ،ويرى عبدالعاطي ان التوافق مع الاحزاب الاخرى لايعني ان هناك وظائف تسع الجميع ،ويشير الى ان التوافق السياسي يكون في الفكرة والتواضع على نظام سياسي يتيح الرأي والرأي الآخر ويفسح المجال الى تبادل سلمي للسلطة. ويضيف:يجب عدم الخلط بين التوافق وربطه بالمناصب . من ناحيته اعتبر المحلل السياسي الدكتور خالد حسين ان مجرد إقدام الحزب الحاكم على التغيير في الاشخاص او برنامج الدولة امر يستحق الاشادة والتقدير ،معتبرا ان الوطني انتبه اخيرا الى ضرورة التغيير الذي أعتبره المحلل السياسي من سنن الحياة واحدى متطلبات الدولة الحديثة ،وضرب مثلاً بحكومات عدد من الدول الكبرى كامريكا وبريطانيا وروسيا التي اشار الى ان حكامها ووزراءها من القيادات الشابة ،وقال ان اتاحة الفرصة امام الوجوه الشابه يعني استمرارية تطور الحياة وعدم توقفها في محطة واحدة ،واعتبر ان تمسك الشيوخ بمفاصل السلطة والاحزاب من اكبر امراض السياسة السودانية ،ضاربا المثل بوجود البشير ونقد والترابي والمهدي والميرغني على سدة رئاسة احزابهم منذ عقود ،مرجعا هذا الامر الى طبيعة المجتمع السوداني القبلية ،معتبرا هذا الواقع بانه ضد سنة الحياة التي تفرض التغيير ،وطالب الاحزاب مجتمعه ان تحذو حذو المؤتمر الوطني وتدفع بقيادات شابة الى الواجهة ،بيد أن الدكتور خالد حسين اتفق مع ربيع عبد العاطي حول صعوبة ابعاد قيادات الصف الاول بالانقاذ عن الجهاز التنفيذي مجتمعة ،وارجع الصعوبة الى عدم وجود كوادر شابة كافية لديها خطط وبرامج واضحة للجلوس مكان الشيوخ ،وتوقع ان يحدث احلال وابدال تدريجي للوصول الى التغيير الكامل ،وطالب بان يأتي التغيير في الافكار وليس الاشخاص فقط ،وقال ان هذا الامر يتوقف على تفعيل دولة المؤسسات وليس الافراد كما يحدث في الدول المتقدمة . واخيرا هل يأتي سيناريو التغيير المتوقع عقب التاسع من يوليو بجديد ويفضي الى خروج قيادات الصف الاول بالحزب والدولة عن الجهاز التنفيذي ام يتكرر قول الناطق الرسمي للحزب الإتحادي حاتم السر الذي أفصح عنه عقب التشكيل الوزاري الذي اعقب انتخابات أبريل قبل الماضي حيث قال وقتها في بيان : (التشكيل الوزاري لم يأتِ بجديد ولم يحمل فكرة التغيير وجاء خالياً من أي مضمون سياسي ولم نقرأ منه فكرة سياسية واحدة). وقال إن ما أعلنه البشير هو مجرد تغيير محدود في الوجوه وتبادل في المواقع،أهدر فرصة ذهبية للتغيير، وأضاع على البلاد فرصة أن تكون الوزارة قومية تشارك فيها كل القوى السياسية فى مرحلة تتطلب ذلك بشدة. خلاصة الامر يبدو أن قيادة المؤتمر الوطني ارادت بالتشكيل الوزاري الاخير أن ترسل عدداً من الرسائل لمجموعة من الجهات: الأولى/ لعضويتها في الداخل: ( المناصب ليست حكراً لمجموعة محددة وان الطريق مفتوح أمام الشباب والكوادر الوسيطة للصعود والترقي). الثانية/ لسكان دارفور من العرب والزرقة: ( الوزارات السيادية المهمة مثل «المالية والعدل» ليست حكراً على أبناء الشمال النيلي فقط).