٭ هل كُتب على بلادنا أن تعيش الحروب وتداعياتها دون أن تهنأ بإلتقاط الانفاس؟ هل أصبح دوي القنابل وأزيز الرصاص وثقافة الحرب عاملاً اساسياً في تاريخنا المعاصر؟ هل باتت مفردات السلام والتنمية مثل النجوم البعيدة نلمح وميضها الخافت دون أن ننعم بنورها الباهر؟ لاكثر من نصف قرن ظل وطننا يوصم ب(رجل افريقيا المريض) الذي ادركته الشيخوخة وهو في ريعان الصبا دون أن يتعافى من مرضه او يذق طعم العافية. كان لبلادنا السبق والريادة في إنتاج (أطول حرب عرفتها افريقيا) وهو إنتاج وإنجاز بائس وسالب بحيث بات اسم السودان طوال العقود الماضية لا يذكر في المحافل السياسية الدولية إلا مقروناً بأزمة جنوبه والاقتتال الدائر فيه. تعاقبت الحكومات وتوالت الانظمة علينا عسكرية ومدنية وجرح الجنوب يقيح صديداً ودماً في حياتنا السياسية طوال خمسين عاماً دون أية بوادر بالشفاء أو حتى الالتئام، ظللنا نحترب ونتقاتل طوال تلك العقود والسنوات كأننا في سباق لإنجاز الرقم القياسي حتى لا يفوتنا شرف التفرد والريادة، خمدت الحروب من حولنا واطفئت نيرانها وباتت جزءً من التراث القديم للقارة الافريقية إلا حربنا العتيدة التي تبارينا في حماسة شديدة أن يظل جمرها متقداً في حين انه ما عاد أحد يذكر حرب بيافرا في نيجيريا او حرب كاتنقا في الكنغو أو حرب الصحراء بين المغرب والجزائر وغيرها من الحروب الاهلية في القارة الافريقية ،ولكن الكل يعرف ويعي حرب جنوب السودان كنموذج مثالي للحرب المزمنة والعبثية. أخيراً وأخيراً جداً توهمنا أن ساعة الخلاص قد أزفت، وأن طريق السلام والتنمية بات ممهداً تحت اقدامنا بعد أن دفعنا ثمناً غالياً وباهظاً في سبيله.. ثمن تجرعناه كالسم في حقولنا ونحن نرى الجنوب يمضي لشأنه ويغادر خارطة الوطن الأب التي ألفنا تضاريسها وحفظنا خطوط طولها وعرضها وأقسمنا أن نصونها ونحافظ عليها من جيل لجيل، توهمنا أن إتفاق السلام رغم فداحة الثمن كفيل بأن يطوي سنوات طوال من الدم والدموع والحزن والالم ويمهد لمستقبل عامر بالتعايش الآمن والتكافل الراشد بين أشقاء الأمس وجيران الحاضر، ولكن للاسف إتضح أننا واهمون وحالمون وأن سنوات الشقاء المقبلة هى أكثر قسوة وإيلاماً. توهمنا أن جراحة الاستئصال التي قطعت وبترت الجنوب من جسدنا السياسي والعاطفي هى آخر أحزاننا ولكنا تناسينا مخاطر النزيف الذي يعقب الجراحة وما يجره من آلام ومضاعفات ومتاعب. لقد كتبت من قبل عن الالغام المميتة والقاتلة التي تمت زراعتها في ثنايا وحشايا إتفاق السلام الشامل، وبالتحديد في البروتوكولين المشار لهما ببروتوكول أبيي وبروتوكول جنوب كردفان والنيل الازرق. الغام موقوتة اريد لها ان تنفجر في وجوهنا في ذات لحظة التقاط الانفاس ونحن نتأهب لقطف ثمار السلام المر الذي توصلنا اليه بعنت وشقاء وثمن باهظ، وكأن جراحات دارفور والاحتقانات الاخرى لا تكفي لتسميم ما تبقى من جسد الوطن، ألغام حارقة وقاتلة تعجلت واستبقت حتى المراسم الرسمية للإنفصال المرتقب في 9 يوليو بغرض توظيفها في التنازع على تركة وميراث (السودان القديم) وبغرض إستثمارها في زعزعة ما تبقى من هذا الكيان الذي والى وقت قريب نظن انه قوي في مواجهة الخطوب. إن أحداث جنوب كردفان الاخيرة ومن قبلها أحداث أبيي ومن قبلها الاحتقان السياسي في ولاية النيل الازرق كلها تؤكد ما ذهبنا اليه. فها هى التصريحات تتوالى عن بقاء الجيش الشعبي في جنوب كردفان والنيل الأزرق.. وها هى (شراكة الحكم الذكية) تنهار بين ليلة وضحاها في جنوب كردفان لتستعر نيران حرب المدن في الولاية.. وهاهو ذات الحديث البغيض عن التمايز الإثني والعرقي والمذهبي في الولاية بين أبناء الجبال وأبناء الشمال ويبدو الغرض واضحاً وجلياً في انتاج (جنوب جديد) يستبدل الجرح القديم بجرح جديد.. جنوب جديد يعتمد (طلوع الجبل) كمنهج موازٍ ومشابه لمنهج (دخول الغابة). لقد سبق لقيادات الحركة الشعبية في الولاية أن انذرتنا وهى تهتف (النجمة أو الهجمة) وها هى اليوم تحقق وعيدها وهى تنصرف من صناديق الانتخابات الى صناديق الذخيرة. إن اكبر الاخطاء فداحة في تطبيق اتفاق السلام الشامل في مناطق أبيي وجنوب كردفان والنيل الازرق إننا اعتمدنا المعيار القبلي والعرقي كوجهين للصراع تماماً كما اعتمدنا المعيار الديني في السنوات الاخيرة لحرب الجنوب، ففي ابيي اصبحت قبيلة المسيرية هى الوكيل القبلي المعتمد للشمال في مواجهة دينكا نقوك الوكيل القبلي الآخر المعتمد من قبل الجنوب. وفي جنوب كردفان اصبحت أعراق الجبال هى الحليف لحكومة الجنوب بينما بقية الاعراق في صلف وتوالي مع حكومة الشمال. اعتماد هذه المعادلة الخاسرة رغم عدم صحتها على ارض الواقع، هى أس البلاء والشقاء في هذه المناطق وهى بمثابة الوقود الذي يغزي الازمة بمزيد من النيران، وعلى كل الاطراف ان تكف عن توظيف و(تسييس) النعرات القبلية والعرقية في هذا الصراع. إن حرب الجنوب التي إستطال أمدها لنصف قرن، ورغم كونها تحتضر وتلفظ أنفاسها إلا أنها قادرة على إنجاب مزيد من الحروب التي تعصف بمستقبل بلادنا وبآمالنا في السلام والتنمية والعيش الكريم وكأننا ما شبعنا من الحروب. المواطن العادي البسيط من أبناء شعبنا يكتوي بنيران حروب الدولة السياسية الى جنب حربه المزمنة مع تكاليف الحياة والمجابهة اليومية لاسباب العيش، وهو يدرك تماماً أن كل فواتير هذه الحروب ستنهال على رأسه وبالاً وستصعب من اسباب عيشه. إن الحقيقة البديهية التي لا تحتاج الى درس عصر في علم الاقتصاد تفيد بأن أسباب العيش هذه تغدو أشد عسراً وأكثر قسوة كلما أزّ الرصاص ودوت المدافع، وأن اقتصاد الحرب لن تدور عجلاته إلا بالضغط على الناس خاصه الغلابة منهم واعتصار إحتياجاتهم وتطلعاتهم. لقد راهن الشعب بأكمله ايجابياً على اتفاق السلام وهو يتطلع لتحقيق آماله المزمنة بالعيش الكريم، ولكن ها هى الحرب القديمة تتمخض لتلد حروباً جديدة تزيد من شقاء المواطن وتعصف بآماله وتطلعاته. لقد كُتب على هذا الشعب الصابر المحتسب أن يصارع و«يكاتل» في جبهتين.. حروب الدولة وحربه اليومية من أجل الحياة والبقاء، ومن المؤسف انه يخوض كلا الحربين بانفاس متقطعة وعزيمة واهنة وجسد مستنزف ومثخن بالجراح، فحروب الحكومة تصب الزيت والوقود على حربه الخاصة مع اسباب الحياة لتزيد من ضرامها واتقادها. المواطن العادي في اصقاع السودان المختلفة بات يعيش حالة من الذعر والفزع وهو يرى بان يعيش هذا المشهد القاتم الذي يلف الحياة السياسية في بلادنا ليس من باب الاهتمام بالسياسة كما كان يحدث في الماضي فهو قد زهد فيها وما عادت تعنيه، ولكن من باب مجالدة الحياة وما يمكن ان تجره السياسة على معاشه من ويلات واحزان وكوارث.. ظل يرقب في فزع اطلالة يوم التاسع من يوليو القادم بعد ان انذرته الحكومة صراحة بالويل والثبور وعظائم الامور الذي ينتظره على الجانب الاقتصادي جراء الانفصال وتبعاته على مورد البترول «وها هي بشائر» الضيق الاقتصادي والعنت المعيشي تلوح في حياته وتشعل النار في اسباب عيشه واحتياجاته اليومية المتواضعة.. جوال السكر يسعى سعره حثيثا نحو ال 002 جنيه ورمضان على الابواب.. طن الاسمنت يقفز بين ليلة وضحاها قفزة هائلة تتجاوز ال 003 جنيه مما يعني ركود سوق العمالة.. رغيف العيش يتضاءل حجمه وعدده ويرتفع سعره.. زيوت الطعام والخضروات تلتهب باسعارها.. الاسواق تعيش حالة ركود تام بعد ان خلت المتاجر تماما من الزبائن اللهم الا فرق الجبايات.. المعاناة المستمرة وربما الموت الكريم هو آخر ما تبقى للمرضى الموجوعين بعد ان تعذرت جرعة الدواء.. المدارس على الابواب والناس معظمهم لا يملكون لقمة العيش فكيف يتأتى لهم الوفاء بفواتير المدارس واحتياجاتها من رسوم دراسية وزي مدرسي وكتب ومواصلات التلاميذ والطلاب.. طلاب الجامعات تتقطع أكباد آبائهم وامهاتهم من اجل توفير مصاريف دراساتهم الجامعية لينتهي بهم الامر آخر المطاف الى صفوف العطالة والبطالة التي لا تستثني حتى صفوة الخريجين من الاطباء والمهندسين والمهنيين الذين لم يجدوا سبيلا الا امتهان قيادة الركشات والعمل «كماسرة» في الحافلات وغيرها كثير من الاعمال الهامشية التي لا تتناسب ومؤهلاتهم العلمية. الصحف تحمل كل يوم خطوطا ومانشيتاتٍ غريبة لم يعهدها اهل السودان طوال تاريخهم.. ام تبيع اطفالها.. ام اخرى تتجرع السم بغرض الانتحار بعد ان فشلت في اعاشة اطفالها لتتركهم في رقبة الحكومة علها تتكفل باعاشتهم.. الصحف ايضا تمتليء باعلانات المحاكم الشرعية التي تطلب فيها الزوجة الطلاق بسبب غيبة الزوج واعساره بعد ان هجر الزوجة والاطفال وآثر ان يتركهم هائمين في طاحونة الحياة القاسية. تلك هي بعض من حروب المواطن اليومية وهو يخوض معركة الحياة والبقاء ولكنها رغم فداحتها وقسوتها ما عادت تكفي لاشقاء الناس فتراكمت فوقها حروب الحكومة السياسية.. دارفور.. جنوب كردفان.. التداعيات الاقتصادية للانفصال المرتقب.. بالاضافة لى بؤر الاحتقان في النيل الازرق وفي شرق البلاد الى جانب المسرح الدولي وما يجود به من فخاخ والغام.. هكذا اذاً يساق الوطن وتساق البلاد ويساق الشعب الى تلك الاقدار الظالمة والمزرية ولا احد من اهل السياسة يملك ادنى مقومات القدرة على ايقاف هذا السيناريو او التصدي له. الكل منشغل بالصراعات الهامشية وكأننا ما عدنا نملك عيونا تبصر او عقولا تتحسب للكوارث القادمة. المواطن تقتله كل يوم حروب الحياة وحروب الدولة وما من مغيث يمد له يدا او يرمي نحوه بطوق نجاة. لقد مللنا من اجترار الكتابة واستنساخ كلمات مكرورة ومحفوظة مفادها ان ازمة الوطن بلغت درجة من التعقيد يستحيل معها الحل عبر رؤية سياسية آحادية تترفع عن الآخرين وتسخر من اجتهاداتهم وتزعم انها وحدها تملك القول الفصل والدواء الناجع لتلك الازمة. هذا المنهج الاقصائي الذي يحتكر الازمات ويحتكر سبل الحل لا بد له من مراجعة وابدال، فكلنا سودانيون مهمومون بمصير وطننا الذي هو وطن اجدادنا ومنبت رزقنا ولا بد ان نتحلى بفضيلة اشراك الآخرين وتلمس الحلول والبحث عنها في اجواء وفاق سياسي حقيقي لا يترك رأياً وطنياً دون أن يسمعه.