أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    إسرائيل تستهدف القدرات العسكرية لإيران بدقة شديدة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    الحلقة رقم (3) من سلسلة إتصالاتي مع اللواء الركن متمرد مهدي الأمين كبة    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    رئيس الوزراء يطلع على الوضع الصحي بالبلاد والموقف من وباء الكوليرا    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في سيرة معلم مغمور ... عبد الملك عبد الله حامد مؤسس مدارس دار السلام في ربك
تجربة في التعليم في السودان
نشر في الصحافة يوم 16 - 06 - 2011

عبدالملك عبدالله حامد مدرّس من معلمي المدارس الوسطى العاديين الذين تخرجوا من كلية المعلمين الوسطى I.T.T.C. في بخت الرضا. وهو لا يمتاز عن زملائه بشيئ غير عناده الملحوظ الذي يجعله عندما يؤمن بشيئ ويعتقد صوابه لا يتنازل عنه قيد أنملة مهما كانت الكوابح والتحديات. فهذا كان هو عبدالملك في جميع مراحل حياته المثيرة للتأمل. وقد يكون مخطئاً في بعض ما يصر عليه من عمل أو رأي يطرحه، لكنه وبكل شجاعة كان يتحمل تبعات أخطائه ولا يرمي بها على كاهل أحد ويقول إن فلاناً كان هو سبب الفشل الذي قاد إلى المعاناة. بمعنى أنه لا يتنصل عن أخطاء جنتها يداه أبداً. وأنا كأخ له أكبره بسنين عدداً كثيراً ما كنت أنصحه مردداً له الحكمة القائلة : ( لا تكن ليّناً فتُعصر ولا يابساً فتُكسر ). وعهدي به أنه لم يُكسر حتى عندما يفشل في إنجاز مهمة من مهامه ؛ وبالمقابل إنه لم يُعصر ، ولو خسر كل شيئ. ولعلكم سادتي القراء تقرأون جانباً من شخصية المعلم عبدالملك في الوقائع التالية:-
عندما جاء عبدالملك ملتحقاً بكلية المعلمين الوسطى I.T.T.C. في بخت الرضا مع دفعته العاشرة نشب خلاف بينه وبين عميد المعهد الأستاذ مندور المهدي (الأب) وكان يمكن تسويته بسهولة بإعتذار من جانبه ويواصل عبدالملك دراسته مع زملائه. ولا ضير أن يعتذر تلميذ لأستاذه حتى وإن رأى الحق في جانبه، فليس في ذلك ما يشين. لكن عبدالملك لعناده رفض ذلك الإعتذار الذي نُصح به مهما كانت النتائج التي تمخض عنها عناده إذ كانت هي فصله من المعهد وإرجاعه للعمل التجريبي وستتاح له فرصة الإلتحاق بالكلية لاحقاً. وعندما جاء العميد مندور المهدي في زيارة تفقدية للمدرسة التي أرجع إليها عبدالملك ? مدرسة القطينة الوسطى ? كان اللقاء بينهما طبيعياً كأن شيئاً من جفاء لم يحدث، و وعده بإستيعابه في الكلية في العام القادم ، وقد كان.
أتيحت لعبدالملك الذي كانت مواد تخصصه الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية فرصة عمل في التدريس مع شركة أرامكو الأمريكية في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية بتعاقد خاص وبراتب مجزي. ولمّا كانت إملاءات مخدميه الأمريكان مجحفة في رأيه لم يعمل عبدالملك بالحكمة القائلة: (دارهم ما دمت في دارهم ، وأرضهم ما دمت في أرضهم) ، لأنها في نظره إستسلاماً مهيناً ? وهو العنيد فاستقال بخطاب إستقالة جريئ تحدّث عنه زملاؤه بإعجاب شديد ، يشهد عليه صديقه وزميله الأستاذ محمود قرشلي الذي إغترب معه وبالصبر ظل يعمل في الشركة زمناً طويلاً حتى ? بفضل الله ? منّه نعمة يستحقها بارك الله له فيها ، وقفل عائداً عبدالملك إلى وطنه بعائد مادي لا بأس به كان يمكنه من أن يؤسس له به مشروعاً إقتصادياً صغيراً يتعيش به ويكون سيداً على نفسه أو يضعه في أحد البنوك رصيداً له عند الملمات تجاوباً مع قول : (القرش الأبيض لليوم الأسود) ويلتحق عبدالملك من جديد بوزارة المعارف، فهي في حاجة لأمثاله. وبما أن الوزارة هي الأخرى فيها رؤساء يملون إرادتهم حتى لو كانت خطأً ، وهو عبدالملك من عناده لا يعرف الإنحناء ? فهل فعل من الخيارين أحدهما؟ لا ، لم ينشئ عملاً إقتصادياً يجني ثمرته ، ولم يلتحق من جديد بوزارة المعارف. إذن ماذا فعل الأستاذ العنيد؟!
فتح عبدالملك مدرسة دار السلام الوسطى بنين عام 1965م في ربك بعد أن صُدّ عن فتحها في مسقط رأسه الجزيرة أبا بحجج بيروقراطية لم تقنعه. ولإنشاء وتأسيس مدرسته لم ينطلق عبدالملك في حملة جمع تبرعات وما شابه ذلك كما يفعل الآخرون ، بل إكتفى بما أحضر من مال أتعاب غربته، وهو لا يكفي ولكن بعزم وإصرار شمّر عن ساعديه مستعيناً بزملائه الأوفياء الذين عينهم للتدريس معه، وبتلامذته النجباء الذين إختارهم فصلاً أولاً في مدرسة دار السلام الوسطى. ومع مسيرة الدروس أخذوا جميعهم المعاول وأدوات البناء يبنون مع العمال والحرفيين الذين رضوا بالأجر القليل من أجل العمل الجليل. فكان عبدالملك وكان زملاؤه المعلمون لا يترفع أحدهم عن حفر للأساس أو ضرب للطوب أو نقل للمونة حتى تم تشييد الفصل الأول الذي إنتظم التلاميذ يدرسون فيه على وجه السرعة وبإتقان كان البناء. لكن ما زال المتبقي من مباني تنتظر التشييد كثيرة والمرصود لها من المال قليل ، لكن عبدالملك وزملاؤه كانوا في تأهب واستعداد ؛ فكان الواحد منهم ينفض يديه من غبار الطباشير ليغمسها في مونة الطين للبناء أو يمسك بيمناهما الشاكوش ليدق مسماراً في باب أو في زنك بعد أن يعلو السقف ، وهكذا دواليك هو وهم عبدالملك وزملاؤه الأفذاذ مروان وشعبان والغالي وشريف والأمين ...
ولتعلموا سادتي قراء الصحافة ? جريدة المثقفين والمهمشين على السواء ? إن عبدالملك قد خرج من تجربته التعليمية في مدرسة دار السلام، بل من مدارس دار السلام لأنها قد صارت لها أنهر في مدرسة البنين ، وأسّس توأماً موازياً لها هي مدرسة دار السلام الوسطى للبنات ... فخرج عبدالملك من هذا العمل التربوي .. أكرر (العمل) لأنه لم يكن أداءاً نظرياً فقط . خرج خبيراً في البناء بالطوب أو الجالوص يستخدم بمهارة ميزان الماء وميزان الخيط و يحكم نسب خلط الأسمنت بالرملة حسب نوع المدماك الذي يبني. وصار أسطى معلم في الحدادة واللحام. وأصبح نجاراً له شاكوش وإزميل ومنشار .. فيا درّه من معلم وأسطى وعامل بناء!.. وعلى ذلك درّب المعلم عبدالملك تلامذته فما خاب منهم أحد في تحصيل علم أو في معترك الحياة العملية. ومن طلبته النجباء هؤلاء أذكر لكم الطالب صديق البخاري الذي واصل تعليمه الجامعي وساهم بفاعلية في الحياة العامة وأخصه بالذكر لأن والده أخي الطيب البخاري كان مريداً لوالدنا السيد عبدالله الهاشمي وكثيراً ما كان يزوره في الجزيرة أبا ويسر بصحبته ولا يتوانى من الإنخراط في خدمته بتواضع تام كما يخدم المريد شيخه في الأدب الصوفي أو الإبن أباه ، يرحمهما الله.
ولكم أن تسألوني هل إنفرد عبدالملك بذلك العمل التربوي الكبير وحده أم كان له أعوان في العمل الميداني ومستشارون لهم إلمام وتخصصات فكرية وتربوية فأجيبكم بنعم. فقد كان له أعوان يشدون من أزره ويتحركون معه من مواطني مدينة ربك منهم على سبيل المثال الشيخ يوسف جلال الدين ، وإبن أخيه حامد أحمد جلال الدين ، وأحمد عبدالله الطاهر وبابكر حسين وبابكر يوسف وشيخ الدين أحمد جمال الدين ومصطفى وعوض الكريم من لجنة المدرسة ، ويوسف هجو ألخ. وفي الجانب الفكري والدعم المعنوي أرجو أن أذكر من مجلس الأمناء كلاً من د. أحمد السيد حمد وعبدالرحمن سيد أحمد ود. موسى عبدالله كما أضف لهؤلاء شخصي الضعيف، وكان منهم أيضاً الأستاذ عبدالمنعم عبداللطيف الذي كان يولي مدرسة دار السلام عنايته الفائقة من موقعه ذي الصلة مساعداً لوكيل المعارف مديراً لإدارة التعليم الشعبي ولم يكن يداري إعجابه بالعميد عبدالملك لجرأته، لأنه الأستاذ عبدالمنعم كان قمة في الجرأة وحسم القضايا في حينها مهما تشعّبت الآراء.
ومن الزملاء في المهنة في ربك الذين وقفوا إلى جانب عبدالملك وأعانوه بتغطية بعض الحصص في مدرسة دار السلام الزميلان محجوب المبارك وبكري محمد صالح ، ومن مكتب التعليم في ود مدني وجد الدعم والمساعدات القيمة من كل من مسئول التعليم الأول الأستاذ محي الدين دياب ومن مساعديه الأستاذين أحمد محمد علي ومحمد جاد كريم وغيرهما من الزملاء الكرام جزاهم الله خير الجزاء.
وإنحيازاً منه عبد الملك إلى جانب تلامذته لم يكن يصُد عن مدرسته تلميذاً يعجز والده عن دفع المصروفات المقررة من قبل الوزارة، وفي شرعته كان لا يرى كبر السن عائقاً عن الإلتحاق بالمدرسة إذا توفرت الرغبة وحسن الخلق . وفي منزل عبد الملك كان هناك براح لإيواء الطلبة الغرباء الذين لا أهل لهم في ربك ، من غير مقابل طبعاً. والمدهش حقاً أن الراتب الذي كان يتقاضاه العميد عبد الملك فعلاً أقل من راتب كثير من المعلمين الذين يعملون معه وإن ظهر في كشوفات الرواتب التي ترفع للجهات المسئولة بخلاف ذلك ، فهو يُنقص راتبه ليسد به عجوزات الميزانية التي تسبب فيها رفع المصروفات عن كاهل التلاميذ الفقراء كلياً أو جزئياً حسب الحالات الفردية المؤكدة، وهو يفعل ذلك بعناد رغم الإضرار به.
وجاء السلم التعليمي المشهور في ولاية وزير المعارف محي الدين صابر عهد حكومة مايو الإنقلابية ، وعمل عبد الملك بإخلاص مع لجنة بناء الفصول الإضافية بحذق بخلفيات تجاربه في البناء والتشييد في مدارس دار السلام ممّا وفّر لهذه اللجنة الكثير من المال والجهد والزمن سرعة في الإنجاز وتجويداً في الأداء الشيئ الذي حدا بالإداري الجنوبي في ربك المسئول عن السيد بناسيو لورو أن يشيد بعبد الملك ويقيّم أداؤه تقييماً منصفاً، في الوقت الذي وزعت فيه وزارة المعارف أنواط الجدارة والتقدير وخطابات الشكر لمن هم أقل عطاءاً وأداءاً من المعلم المغمور عبد الملك فهي لم تقل عنه شيئاً ، ولم تذكره بكلمة. فلم يلتفت لذلك الجحود عبد الملك لأن أعماله كلها كانت من أجل الوطن وإنسانه وليست لمكاسب ذاتية تخصه.
وانتُخب عبد الملك رئيساً للمجلس الشعبي لمدينة ربك ، وفي غضون ولايته اكتشفت تجاوزات في بيوعات أراضي ربك لم يكن له يد فيها ، لكنه وبفعل كيد الكائدين أُعتقل مع ضابط الأراضي وطاقمه و أُودع السجن الذي ظل فيه وهو سجين يجاهر بالقول ويتحدّى السلطة إن وجدته مداناً بأدلة حقيقية أن تنفذ فيه حد السرقة بأغلظ أوصافه وهو القطع. فيا له من مسئول أمين واثق بأمانته. وظل سجيناً لا يرهبه سجن أو سجّان إلى أن برأه القضاء العادل وأشاد به قاضي الموضوع رئيس المحكمة. الحكم الذي أثلج صدور الأغلبية الساحقة من مواطني مدينة ربك الذين يعرفونه شجاعاً أميناً عادلاً حق المعرفة.
وعند الغزو الجائر الذي ارتكبته حكومة مايو نميري للجزيرة أبا حوصر منزل عبد الملك بإعتباره رمزاً من رومز الأنصار في ربك وقريباً من أقرباء الإمام الهادي المهدي. وأمطر المنزل بنيران بنادق نظام مايو التي إخترق رصاصها الأبواب والشبابيك ، وسلّم الله أطفاله ووالدته ذات التأريخ البطولي الناصع لمواقفها الشجاعة في ملحمة إستشهاد زوجها الأول ثائر سنجة ? أعني الوالدة دار السلام جار النبي التي أرقدها عبد الملك وأطفاله جبراً تحت الأسرّة تحاشياً من وابل الرصاص ? أسألوا عن المجاهدة دار السلام جار النبي السفير عمر بريدو فهو قد إطّلع على ثورة السيد محمد ود السيد حامد في إرشيفات جامعة درم عندما كان سفيراً للسودان في بريطانيا وهي قريبته وتاريخ نضالها يهمه.
ومن عناده ولا أقول من شجاعته فقط عندما أقتيد عبد الملك من منزله بعد الضرب إلى ساحة يصطف فيها العساكر مدججين بالسلاح ومن خلفهم يقف الشامتون على الأنصار ؛ إنبرى أحدهم مشيراً إلى عبد الملك وليسمع الضابط قائد السرية قائلاً : هذا ابن عم الهادي . فردّ عليه عبد الملك بما يسمع ذلك الضابط ومن حوله قائلاً : نعم أنا الآن ابن عم الإمام الهادي المهدي حتى لو لم أكن ابن عمه من قبل ليلقم ذلك الشامت الجبان حجراً بشجاعته المعهودة عند المواقف الحرجة.
ولاحقاً في فترة مجانية التعليم الأوسط الحكومي جاء عبد الملك وسلّم مدارسه مدارس دار السلام لوزارة التربية كاملة المباني والأثاثات والكتب وحتى معدات حجرة العلوم التي أهدتها اليونسكو لمدرسة دار السلام لتفوقها ، كما سلّم معدات وأثاثات حجرة الفنون والأعمال اليدوية التي كان قد جمعها بعناية لأن المنشط التربوي الذي تخصص فيه في بخت الرضا كان هو الفنون والأعمال اليدوية . وقد عرضت عليكم ما كانت تعمل يداه في أعمال كبيرة دعك من تشكيل ورسم وتلوين وتجليد للكتب، فهذا لا يقل عن ذاك في ترقية المهارة وصقل الوجدان. سلّم عبد الملك مدارسه لوزارة التربية كاملة لا يتبعها عجز أو ديون مالية بل كانت ذات رصيد على كل حال وإن قل. ولم يطلب تعويضاً على ما بنى بيديه وأسّس من حر ماله وهو الفقير إلاّ من كرامة نفسه وأريحيته التي تجعله يعطي من العدم ( فليتق الله سائله ) .
لكن الزميل الكريم المرحوم مختار أحمد يوسف لمّا جاء مفتشاً للتعليم في النيل الأبيض ولمعرفته الوثيقة بظروف عبد الملك المعاشية حمل عليه أن يقبل تعويضاً رمزياً قدره ثمانون ألفاً من الجنيهات وقتها ، سلّمت له في أقساط ، وهي في الحقيقة لا تساوي قيمة الأثاثات التي خلّفها في مدرسة البنين بنهريها ، فضلاً عن المباني والأرض التي كانت ملكاً له والتجهيزات الأخرى ، وما قيل عن مدرسة البنين ينطبق على مدرسة البنات أيضاً لكن تعويضه فيها تناقص إلى النصف وكفى.
و لمّا تقلّد زميل لعبد الملك وزارة التربية في المحافظة التي كانت تضم النيل الأزرق والنيل الأبيض وعاصمتها ود مدني ألا وهو الأستاذ يعقوب عيسى جفون ، ولمعرفته بكفاءة عبد الملك وصدقه في العمل إستعان به مشرفاً تربوياً لمنطقة ربك شرق النيل الأبيض شمالاً حتى شرقي الدويم وجنوباً حتى الجبلين. فأدّى عمله بالإخلاص المعهود فيه إلى أن إستقال ثانية من العمل العام ليزاول أعمالاً صغيرة خاصة به إلى أن تلاشت ولم تتناقص معها مبادؤه ( ولكل شيئ إذا ما تمّ نقصان ).
ومن بعد سنوات حنّ عبد الملك لمهنته السابقة مهنة ذوي العزم ? التعليم ? وتحصّل على أرض خالية قرب منزله في ربك لينشئ عليها معهداً للكمبيوتر ? العلم الجديد ? وبعد دفع الرسوم وما يصاحبها من دفوعات إستخرج لأرضه شهادة بحث موثقة وسوّرها بالسلك الشائك ، لكن سلطات الولاية في ربك إستكثرتها عليه وأخذت تساومه بأخذها وتعويضه قطعة نائية بدلاً عنها. ولعناده المعهود عندما يقع عليه غبن عبد الملك عبد الله الهاشمي لم يستجب للمساومة فاستعملت رئاسة الولاية ما لها من سلطات قاهرة ونزعت أرض عبد الملك عنوة بحجة أنها حرم لمدرسة مجاورة لكنها جاءت وباعتها لأحد البنوك في المدينة بعد أن إقتلعت سور السلك الشائك الذي سوّرها به عبد الملك واحتفظت به في مخازنها أو أين لا أدري!. و لا يستغرب تصرّف كهذا في عهود الشموليات فقد ظلم عبد الملك وأفراد أسرة والده الكبيرة في حوش والدهم في الجزيرة أبا عندما نزعت سلطات الأراضي حيّزاً كبيراً من وسط دارهم وأعطتها تعويضاً لجار لهم لم يرع إلّاً و لا ذمّة بدلاً من جزء أخذه الشارع من منزله شارع التخطيط الذي لم يلامس دارهم، أعطته له ظلماً وجوراً بدلاً من أن تعوّضه في الفلوات كغيره وهي كثيرة في الجزيرة أبا التي نهبت أراضيها في عهد مايو وكما هو الحال الآن. ولم يستسلم عبد الملك الذي نزعت أرضه وظل حتى الآن ممسكاً بشهادة بحثه هذه إلى أن يقل له حاكم آخر متجبّر يسخر منه : ( بلّها وأشرب مويتها ) . والله هو الغالب.
ويسألونك أين هو الأستاذ عبد الملك الآن؟ .. عبد الملك الذي تجاوز السبعين من سني عمره المديد إن شاء الله ، وعندما إلتحقت بناته بالجامعات في عاصمة البلاد ، وعندما ضاقت به سبل المعيشة في ربك المدينة التي أحبّها وأعطاها أخصب سنوات عمره وساهم جوّاداً سبّاقاً في عمرانها منذ عهود مشاركته في تخطيطها وجلب المياه الصالحة للشرب إلى أحيائها ، وفي بناء المدارس وترشيدها وفي الجري وراء التصديق بالمستشفى ، وبالمشاركة في لجان الصلح التي تصلح ذوات البين بين القبائل وفخوذها كلما نشب بينهم خلاف والبشر خطّاؤون وهذه سنة الحياة و لا بد أن يكون في كل أمّة عقلاء يصلحون. وأحسب أن الأستاذ عبد الملك منهم و لا أزكيه على الله . ويحفظه الله. وبعد أن باع منزله في ربك على مضض بثمن زهيد إشترى له منزلاً في أطراف المدينة في الدروشاب ضمّ فيه أسرته . واقتصر دخله على المعاش الحكومي، ومن كان منكم من هو معاشي يستطيع أن يحكي عن معاناة المعاشيين في السودان الذين أفنوا زهرة شبابهم في خدمة بلادهم التي كانت أكبر قطر أفريقي قبل أن يصبها الوهن والفساد والضعف من حكّام غير شرعيين فتسبّبوا لقصور نظرهم في بتر ساقي الوطن فصار كسيحاً. «إنّا لله وإنّا إليه راجعون».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.