عندما تحزم حقائبك وتودع الأهل وتغادر الوطن بحلوه ومره، حتما أنك تتجه لهدف من أجله تجب التضحية بمفارقة الأهل والأرض، وغالباً ما يكون تحسين الوضع الاقتصادي أبرز أهداف أو أسباب الهجرة والاغتراب، ومن خلال ذلك أفلح قطاع عريض من المغتربين في مساعدة الوطن والأهل، بعد ان «حسن وضعه»، والمغترب السوداني قد عرفته كل أركان الدنيا منذ سنوات طويلة بأنه شخص «فعَّال»، غير أن السنوات الأخيرة شهدت متغيرات كبيرة، فلم يعد المغترب يحمل ألق الماضي الجميل، ربما ظروف دول الاغتراب قد تغيرت أيضاً، وتبعاً لذلك اشتراطات العمل، وتمدد احتياجات المغترب نفسه. ويبقى الأمر الذي يعنينا في هذا المقام، وهو ظاهرة تسكع أعداد كبيرة من المغتربين في الشوارع بلا عمل، وإذا تحدثنا عن المملكة العربية السعودية، فنجد مثلا في مدينة جدة ما يعرف بالكباري أو كيلو 7 و8 الخ المسميات تكتظ بالسودانيين على مدار الساعة، وأغلبهم بلا عمل، وتكتمل «العطالة» بوجود بائعات «الشاي والكسرة» واغلبهن من دول تجاور السودان، وفي أحيان كثيرة يحملن جنسية السودان سواء أكانت بالميلاد أو التجنس أو «من تحت الطاولة» المهم هن يتوشحن بالثوب السوداني، وحولهن رهط من «العطالة»، وذات المشهد «القبيح» يتكرر في شارع غبيرا العام وسط العاصمة الرياض، وهو شارع اشتهر بالمطاعم السودانية ومحلات الثياب النسائية، و «الجلاليب» السودانية، وجميع السلع الشعبية، وإذا قدر لك أن تزور هذا الشارع الشهير ليلا أو نهارا، ستجد جموعاً غفيرة من السودانيين، قلة منهم تتسوق والأخرى «تتسكع» بلا عمل وهم بذلك يحدثون مشاهد «قبيحة أيضاً». نريد أن نقول إن أكرم للإنسان أن يكون داخل بلده، إذا كان البديل التسكع في الشوارع بلا عمل، وخاصة ان اغلب المتسكعين قد انتهت إقاماتهم النظامية، وبعضهم لا يعرف مكان إقامة كفيله، أو ليست له علاقة وصل مع المؤسسة او الشركة التي تكفل إقامته في السعودية.. نعم أكرم للإنسان أن يبقى داخل وطنه اذا كان هذا هو البديل، وضياع سنوات من العمر لن تعوض، فمثل هؤلاء الذين أدمنوا التسكع قد طالت سنوات اغترابهم دون جدوى، في حين تنتظرهم أسر داخل الوطن، ولا نذيع سراً اذا قلنا ان قلة منهم قد انجرفت في دروب «الرذيلة والمخدرات»، وقد اطلعنا في وقت سابق على بعض ملفات الشرطة السعودية، ونشرنا جانباً من ذلك على صفحات هذه الصحيفة. ولمعالجة مثل هذه القضايا ينبغي أن يكون للجهات المعنية الدور الفاعل والحاسم، عبر بث ثقافة الاغتراب «المجدي»، والسعي الحثيث إلى إعادة مثل هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم أمام واقع لم يتحسبوا له مطلقاً عندما حزموا حقائبهم وغادروا الوطن، وهم يحملون آمالاً وتطلعات عريضة باتت الآن عصية التحقق.