٭ وزير الخارجية الأسبق الدكتور حسين سليمان أبو صالح، يعتبر من القيادات التاريخية للحركة الإسلامية السودانية، وقد تولى مناصب متعددة في قيادة الدولة السودانية، منذ استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة بانقلاب عسكري في يونيو من عام 1989م، واختفى الرجل قبل توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام، ليعود في الأيام القليلة الماضية بدعوة جديدة مغايرة تماماً لدعوته القديمة وأدواره التعبوية المؤيدة للإنقاذ، يدعو فيها للحوار الوطني الجاد، وقد أثارت هذه الدعوة ردود أفعال متباينة، حول هذه الدعوة وغيرها من الاجندة الوطنية التي تشغل الساحة السياسية.. جلست إليه «الصحافة» في هذا الحوار الذي لم يستمر لأكثر من ساعة. ٭ دكتور حسين أبو صالح برز أخيراً في الساحة السياسية بخطاب سياسي جديد يدعو للحوار وإشراك الآخرين، ما هي دواعي هذا الظهور والخطاب المفاجئين؟ أولاً موضوع الحوار بين أبناء السودان في الظرف الراهن ضرورة في حد ذاته، باعتباره شيئاً مهماً جداً لا بد منه، سيما على خلفية التحول الكبير الذي حدث بعد تطبيق اتفاقية نيفاشا، واعتقد أنه وعلى الرغم من قصر الفترة المتبقية لإعلان انفصال الجنوب، فمازالت هنالك مشكلات كثيرة جدا، تقتضي التشاور والحوار بين أبناء الوطن، كذلك قضية دارفور مازالت قائمة ولم يتم الحل النهائي لها، ولعل ما حدث في شنقل طوباي أخيراً، يبين درجة الزعزعة وانعدام الامن والاستهداف للمواطنين من قبل حركات اصبحت تقوم بأعمال اجرامية، فهي تقوم بقتل المواطنين وحرق منازلهم، إذاً مازالت قضية دارفور لم تنتهِ بالكامل، وايضا بالنسبة لموضوع انفصال الجنوب هنالك قضايا عالقة كثيرة لا بد من حلها، حتى يتسنى تكوين دولة جديدة في جنوب السودان، فلا يمكن باعتقادي الشخصي أن تظل كل هذه القضايا عالقة ويتم إعلان دولة الجنوب، فليس من الحكمة ولا من العقل أن تمضي الأمور بهذه الطريقة. وبين هذه القضايا العالقة أهم نقطة، وهي نقطة الحدود التي بموجبها يتحدد ما هو الجنوب أصلاً. هل هو المساحة الموجودة جنوب خط بحر العرب «السوباط»، أو ما يقال عنه حدود المديريات الجنوبية الثلاث ايام الاستقلال في يناير 1956م، أم أن هناك تفكيراً آخر في تعريف الجنوب بصورة أخرى. ٭ يعني أنك تطالب بإرجاء الإعلان الرسمي لدولة الجنوب ريثما يتم حسم كل هذه القضايا؟ لا.. لا.. أنا أقول أنه ما لم تحدد الحدود ليس من العقل إعلان الانفصال بصورة رسمية أو نهائية، وهي ليست وحدها فهنالك خمس قضايا عالقة بين الشمال والجنوب، على رأسها أبيي التي لم تحسم قضيتها حتى الآن، وأشك في أنها ستحسم خلال الثمانية عشر يوماً المتبقية، وهنالك قضية حفرة النحاس وكافي كنجي لم يشر إليها إطلاقا ضمن مناطق النزاع الحدودي، على الرغم من أن هنالك نزاعاً كبيراً حولهما بين الشمال والجنوب، وأيضاً قضية كاكا التجارية في جنوب كردفان، وقضية جبل المقينص في جنوب كردفان أيضاً، وقضية الجبلين، يعني توجد خمس نقاط في الحدود لم يتم حسمها إلى الآن.. وانا لا اقول ان هنالك سوء نية في هذا التلكؤ، ولكن مرت ست سنوات دون أن يحدث أي تقدم يذكر في ملف ترسيم الحدود، وهذا تباطؤ زائد عن اللزوم في ألا تحل هذه القضايا المهمة التي من ضمنها أيضاً قضايا أخرى لا تحتمل التأجيل، مثل قضايا القبائل الرعوية في الشمال والجنوب، وهي تهم الملايين من الرعاة الذين يتحركون جنوباً وشمالاً في فترات معينة منهم تعايشة ورزيقات ومسيرية وكنانة وقبائل أخرى. ولم يتم حسم قضية الرعاة في الشمال والجنوب حتى الآن، وأيضاً هنالك قضية تقسيم البترول وايجار الأنابيب والمصافي وغيره في شمال السودان لم تحسم، وقضية العملة وقضية المياه وقضية التشققات الدولية، وقضايا الجنوبيين في الشمال في الخدمة المدنية وفي الجيش والقوات النظامية المختلفة وقضية الجنيه، كما يوجد عدد من القضايا تحتاج جميعها الى الاستعانة والاستفادة من الخبرات ومقدرات الاختصاصيين في هذه المجالات، فقضية الحدود تحتاج الى قانونيين وخبراء حدود مع الادارة الاهلية التي يجب أن تشارك في ايجاد حلول، والقضايا الاقتصادية تحتاج الى اقتصاديين لكي يشاركوا في وضع حلول قضايا الديون، وهنالك حوالى «15» قضية معلقة لم تحسم، فكيف يتم إعلان الانفصال بعد «18» يوماً، ولم يوجد حل لهذه القضايا. ٭ وهنالك أيضاً الأزمة المتفاقمة في جنوب كردفان؟ ما يحدث الآن في جنوب كردفان وجنوب النيل الازرق، هو عبارة عن تكسير للاتفاقية، واعتقد أن ما حدث نتيجة عدم التطبيق الحرفي للاتفاقية التي تنص على ضرورة عدم وجود قوات للحركة الشعبية شمال خط بحر العرب «السوباط»، وهي الحدود المفترضة بعد ثلاث سنوات من تاريخ توقيع نيفاشا، فإما ان يكونوا ضمن القوات المدمجة وهي معروفة وهي في الخرطوم ثلاثة آلاف، ألف وخمسمائة من الجيش السوداني وألف وخمسمائة من الجيش الشعبي، وستة آلاف في جبال النوبة والنيل الازرق، واي عسكري غير موجود في القوات المدمجة في السنة الثالثة ينبغي أن يكون جنوب خط بحر العرب، هكذا تقول الاتفاقية، ولكن الآن كيف تكون هنالك آلاف مؤلفة من الجنود غير موجودين في القوات المدمجة وفي معسكرات، ولا ينسحبون جنوب خط بحر العرب «السوباط». ٭ ربما لأنهم جنود شماليون؟ لا يوجد شيء يسمى شماليون، هذه اتفاقية سياسية ليس لها أي دخل بشمالي أو جنوبي، وما نعرفه أنهم جنود في الحركة الشعبية، والاتفاقية تعني أي جندي في الحركة الشعبية، ليس مهما إن كان «دينكاوي - نويراوي - نوباوي» من الشمال او الجنوب، فهؤلاء جنود في الحركة الشعبية المفروض في السنة الثالثة يرجعوا الى جنوب خط بحر السوباط... وبعد ذلك يمكن أن تحل قضيتهم بالتشاور فيها، مثلاً يتم تسريح الشماليين في الجنوب، فإما أن تقبل حكومة السودان بضمهم في الجيش السوداني او الشرطة او في قوات نظامية، أو أن يتم تسريحهم وإعادة دمجهم عبر ال «دي. دي. آر». ٭ عفواً ولكن الحركة الشعبية تبرر الاحتفاظ بجيشها في الشمال، بأنه مازالت هنالك قضايا عالقة، مثل المشورة الشعبية وما يترتب عليها، وهي لا تضمن الإيفاء بها من قبل الحكومة بعد تسريح جيشها؟ إذن يبقى هذا تكسيراً للاتفاقية، ووجودهم حتى الآن خطأ، ويمكن أن يسفر عن حرب او اشتباكات تؤدي إلى إنهاء الاتفاقية، ولذلك اعتقد وبوضوح أن الحديث عن اهمية الحوار والمشاركة فيه من قبل مجموعات مختلفة يوجد فيه كثير من أنواع الحوار، يعني الحوار في القضايا العالقة يحتاج إلى مجموعة معينة تشارك مع الحكومة من خبراء ومختصين وغيرهم في حل القضية، وهذا لن يحدث في «18» يوماً، فإذا لم تحل هذه القضايا في ست سنوات فكيف تحل في ثمانية عشر يوماً؟ ٭ برأيك من يتحمل مسؤولية كل هذا التعقيد والتشابك الذي أفضى بنا إلى هذه المتاهة التي نحن بداخلها الآن؟ - يوجد تراخٍ من الجانبين طبعا، وهذا التراخي يحدث بسببه.. ولكن ما هو السبب؟ نحن لا نفترض سوء النية في الطرفين، لكن يوجد تراخٍ بحيث أن المشكلات العالقة للقضايا موجودة حتى الآن.. قضايا جنوب كردفان حتى الآن موجودة، وتوجد حرب هناك، وتوجد ارهاصات حرب أخرى بالنيل الأزرق.. وكما أسلفت لدى حديثي عن القضايا العالقة في أبيي وعن الحدود، فإن جميع هذه المشكلات بما فيها قضايا جنوب كردفان ودارفور والنيل الازرق تحتاج الى المشاركة بما فيها قضايا السودان ككل. وقد تحدثت سابقا في التلفزيون عن موضوع الحوار، مستغربا أن مستشارية الأمن القومي مثلا دعت من قبل خمسة أشهر، جميع القوى السياسية والاجتماعية للمشاركة في حوار حول كافة قضايا الوطن، والذين اعدوا أوراق هذا الحوار ليسوا افرادا بل جامعات.. «21» جامعة و «23» مركز بحوث وسبعة من المختصين الخبراء.. المهم أعدت «50» ورقة وكل القوى السياسية قبلت بالمشاركة في الحوار ما عدا المؤتمر الشعبي. ولم يشارك الحزب الشيوعي السوداني، ولكن اذا بدأ الحوار سينضم الى الحوار، وهذا يدل على أنه لا يوجد غير حزب واحد، فكيف يتوقف وهو حوار لقضايا السودان كافة، وبعدها ستخرج هذه الأحزاب بميثاق وطني غير مسبوق. ٭ ولكن المؤتمر الوطني، هو من أوقف حوار المستشارية، فقد خرج في اليوم التالي وأعلن أن الحوار لن يكون عبر المستشارية وإنما معه مباشرة؟ لا..لا .. كل القوى السياسية بما فيها المؤتمر الوطني تقبل الحوار والأوراق معدة والحوار متوقف، وهذا يمكن أن يخرج منه الميثاق الوطني الذي لم يتم التوصل إليه منذ إعلان استقلال السودان، وهو ميثاق ينبغي أن يتم، حتى يتواثق فيه السودانيون على الاهداف السياسية والاستراتيجية العليا للبلاد، لكي لا يخرج عليها اي احد وتكون ملزمة لكل الناس. وهذا الميثاق سيسهل عملية وضع الدستور الدائم، والدستور الدائم عندما ينبني على ميثاق وطني يتفق عليه الجميع يكون ملزماً، ولدينا مجموعة من الدساتير من «56 و 64 و 73 و 85 و 98م» الى الدستور الانتقالي بعد نيفاشا.. فلدينا ثروة من الدساتير السودانية، فعندما نتوصل لمثل هذا الميثاق نستطيع أن نصل إلى دستور دائم يتواضع عليه الجميع في وقت وجيز. ٭ ولكن الحوار الدائر الآن ليس للتوصل إلى حد أدنى من الثوابت الوطنية، وإنما حوار محاصصات من أجل تقاسم كراسي السلطة؟ عندما يكون الحوار من ناحية المشاركة في الحكومة، فهذا حوار بسيط حول برنامج لفترة سنوات.. سنتان او ثلاث أياً كان عددها.. وهو حوار لفترة قصيرة وليس حوار برنامج يكون حينها هشاً حول كيف نشارك في الحكومة بفرد او اكثر او اقل او كل الناس في حكومة قومية او انتقالية. وهذا ليس المهم، لكن المهم أن يتحاور الناس حول المشكلات الكبيرة والضخمة جداً، بأن تكون هنالك لجنة قومية يشارك فيها الجميع لإبداء الرأي، وليس بالضرورة الأخذ بهذا الرأي. ويجب أن يوجد الحوار في ذاته لأنها مشكلات ليس لها حل الا بالحوار ، واعتقد ان الوضع الآن محزن، فقد تبقت ثمانية عشر يوماً والمشكلات قائمة والحوار يمضي بسلحفائية، والوضع يقتضي أحد أمرين، إما أن تمدد الفترة الانتقالية لفصل الجنوب لستة أشهر ليعلن رسميا، ويمكن أن تمدد الفترة الانتقالية إلى أن تحل هذه القضايا في شهر أو في ستة شهور.. وأعتقد أن التاسع من يوليو ليس تاريخا مقدساً، وبرأيي أن الإعلان الرسمي مع كل هذه المشكلات ليس من الحكمة اطلاقا، وإذا رفض التمديد تتجمد الاتفاقية إلى أن تحل المشكلات العالقة. ٭ تجميد الاتفاقية يعني نسف العملية السلمية برمتها والعودة للحرب وخسارة أي أمل في وحدة مرتقبة، وقد يؤدي هذا إلى حدوث تمرد؟ التمرد موجود وهذا يعتبر تكسيراً للاتفاقية، وتبقى الاتفاقية قد انتهت، وفي هذه الحالة كل ما ترتب على الاتفاقية يجب أن يتوقف الى ان تحسم المسائل بشكل آخر، لأننا في السودان لدينا «حاجتين كبيرتين» مهمتان هما وحدة السودان والسلام، وإذا قلنا من أجل السلام نتخلى على الوحدة وينقسم البلد لكي يعيش شمالا وجنوبا، فلا يمكن يحدث انقسام وتكون الحرب مستمرة، وأيضا بذلكلم نحقق شيئاً.. وقد نخسر الوحدة والسلام. ٭ ولكن بهذه الطريقة سوف تعود الحرب مجدداً؟ لقد عادت الحرب بما يحدث في جنوب كردفان الآن، وما هي الحرب إذا لم تكن مثل هذا التمرد الذي حدث هناك. ٭ جيد.. حديثك في التلفزيون حول ما يترتب على انفراد المؤتمر الوطني باتخاذ القرار، أثار ردود أفعال عديدة، واستياءً في أوساط الإسلاميين؟ ما قلته إن المؤتمر الوطني لوحده لا يستطيع أن يحل كل هذه القضايا المتراكمة بمفرده، فلا بد من أن يقوم بإشراك الآخرين في التفكير، وإلا لماذا سمي حواراً، فأنا آخذ منك وأنت تأخذ مني كما يقول الصادق المهدي «نصف رأيك عند أخيك». ٭ بصفتك عضواً مؤسساً في الحركة الإسلامية، ألا ترى أنكم تتحملون الوزر التاريخي لانفصال الجنوب؟ لا.. الوزر ليس على الحركة الإسلامية ولا المؤتمر الوطني، فهو موضوع يتحمل وزره الجميع، ونحن أسسنا حزباً يسمى «مؤتمر وادي النيل» ولكن جمدناه، وهو الحزب الوحيد الذي كان يقف ضد منح الجنوب حق تقرير المصير، والأمريكان قاموا باقتراح تقرير المصير لجنوب السودان في ندوة بواشنطون بحضور كل قوى المعارضة في عام 1993م.