٭ من الصعب جداً كتابة التاريخ وأبطاله على قيد الحياة.. قال الدكتور حسن الترابي في دعوة غداء بمنزل الوجيه مأمون مجذوب علي حسيب، وكنَّا ثلةً من الشباب!! قلت كُنَّا.. قال: في السودان من الصعب عليك كتابة مذكراتك وتدوين تحركاتك، لأن الواحد ما بيضمن بكره البيحصل شنو!! فتقع المذكرات في يد خصومك وتدان بها.. ولم تمر بضع سنوات حتى جاءت المفاصلة ودخل الترابي المعتقل أكثر من مرة.. لكن بدون تفتيش وبعثرة مكتبته العامرة.. لكن الرجل قرأ المستقبل في تلك اللحظات المفعمة بالنشوة لانتصار الثورة.. ثورة الإنقاذ الوطني.. التي حلَّت الذكرى الثانية بعد العشرين لانطلاقتها.. وهي المرة الأولى التي يحل فيها تاريخ الثلاثين من يونيو والرئيس البشير خارج السودان.. والسبب هو التأخير غير المقصود لمدة يوم كامل بسبب «الخطأ الفني.. أو الخطأ الفادح»، والوصفان جاءا على لسان وزير الخارجية الأستاذ علي كرتي على مدى يومين اثنين.. وأيَّاً كان السبب فادحاً.. أم فنياً.. فإن مردوده جاء خيراً عميماً، فقد اكتسبت الزيارة أهمية كبيرة، ووصفها المراقبون الصينيون بأنها أهم وأعظم زيارة قام بها رئيس أجنبي للصين.. وقالوا إن رؤساء كثيرين يزورون الصين ولا نسمع بهم حتى يغادرون، لكن زيارة البشير هذه مختلفة تماماً من حيث الشكل والمضمون، وأنها أكَّدت على أن العلاقات الصينية السودانية هي علاقات استراتيجية لا تتأثر بالمتغيرات الداخلية أو الخارجية، وقد وصف الرئيس البشير كلمة الرئيس الصيني هاو جنتاو التي ردَّ بها على كلمة الرئيس البشير في المباحثات الرسمية، بأنها جاءت متطابقة مع كل ما جاء على لسان البشير مع إن الكلمة معدَّة سلفاً.. وقال البشير أمام حشود المصلين بمجمع النور الإسلامي بكافوري عقب صلاة الجمعة أمس الأول، إن هذه الزيارة من أنجح الزيارات الخارجية التي قمت بها.. وقال إن الخطأ الفني في تغيير خط سير الرحلة والطائرة على بعد ثلاث دقائق من المجال الجوي لتركمانستان، هو الذي حدا بقائد الطائرة بالعودة لمطار طهران.. «واختيار الله لك خيرٌ من اختيارك لنفسك» كما قال ابن عطا الله السكندري في الحِكَمْ.. وأعلن السيد الرئيس أن المتمرد عبد العزيز الحلو سيظل مجرماً هارباً حتى تطوله يد العدالة.. وطالب القوات المسلحة بأن توالي عملياتها حتى تطهير جنوب كردفان من ذيول التمرد.. فاهتزت جنبات المسجد بالتكبير والتهليل.. وكأن الزمان قد استدار دورته وعاد بنا إلى أيام الإنقاذ الأولى والثورة في عنفوانها.. ونحن كذلك.. ألا ليت الشباب يعود يوماً..... بدأت الإنقاذ بزخم ثوري هائل.. وكان شعارها يوم مولدها «الوطن الغالي»، فقد كانت كلمة السر في تلك الليلة.. وسرّ الليل عند العسكريين يتكون دائماً من كلمتين يحفظهما الحكمدارات والديدبانية والضابط النبوتجي والضابط العظيم.. لكن كلمة السر في ليلة التنفيذ تغيَّرت إلى «الوطن الغالي» ولا يرددها إلا المنفذون، وبالتالي حُرم غير المشتركين من التحرك، فما هي إلا سويعات حتى دانت البلاد من أقصاها إلى أقصاها لرجال الثورة.. وتساوى رجال الجيش في التأييد الذي اشترك ومن لم يشترك. ٭ وكان العقيد عبد العظيم نور الدين الحسن.. الدكتور عبد العظيم الآن قد انضم لركب الثوار صبيحة الجمعة، وتحرك للإذاعة وكان يردد الترويج للبيان المهم وكان يقول «سوداننا يا أُمَّنا يا والداً أحَّبنا» وتأخرت إذاعة البيان.. بسبب تلف الشريط الرِيل (Reel) الذي كان البيان مُسجلاً عليه.. والتلفزيون لا يبدأ البث إلا في السادسة مساءً.. فأُعيد تسجيل البيان على شريط كاسيت بإذاعة الوحدة الوطنية من داخل القيادة العامة.. وكان العميد عمر حسن يرتدي زى قوات الصاقعة المموَّه، وأخيراً أذيع البيان.. وجاء التأييد من كل مكان، وكانت مصر أول المؤيدين للوضع الجديد في السودان، فقد انطلت عليهم الفكرة!! خاصةً أن البيان لا يبدأ ب «البسملة» التي لا تفارق خطاب الإسلاميين!.. وكانت معظم التنظيمات السياسية داخل الجيش تحاول جاهدةً استقطاب العميد عمر حسن لما يتصف به من شجاعة وإقدام، وما يتمتع به من حب وتقدير داخل الجيش.. وكان نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العميد الزبير محمد صالح معتقلاً بمنطقة جبل الأولياء العسكرية لاتهامه بمحاولة انقلابية تعيد المشير جعفر نميري للسلطة، وهو ما عُرف داخل الجيش ب «انقلاب الدناقلة»، فإلي جانب الزبير كان هناك صلاح الضوي.. ومقلد وغيرهم من كبار الضباط.. وبعد نجاح الإنقاذ في الاستيلاء على مقاليد الحكم، كتب الدكتور محمود قلندر سلسلة مقالاته بصحيفة «القوات المسلحة» تحت عنوان «هل هؤلاء الرجال جبهة؟». ولعل الأستاذ الكبير المرحوم الطيب صالح قد نظر في عنوان قلندر، فكتب سلسلة مقالاته بمجلة «المجلة» تحت عنوان «من أين أتى هؤلاء؟».. وعندما زار البلاد قبيل وفاته ورأى الانجازات أجاب على نفسه «الآن عرفت من أين أتى هؤلاء»، وكان ذلك بعد زيارته سد مروي رحمه الله رحمة واسعة.. وجزى الله د. خالد فتح الرحمن خيراً لما بذله من جهد أثمر عودة أديبنا الراحل للديار بعد طول غياب.. ورأى بأم عينيه ماذا وكيف أنجزت الإنقاذ ما عجزت عنه كل العهود التي تبادلت حكم البلاد منذ فجر الاستقلال الذي لم يكتمل أركاناً إلَّا بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005م. ٭ كان الانضباط سمة مميزة للشارع العام، وكان قادة الثورة يسهرون الليل بطوله ولا ينامون، وكان الشهيد إبراهيم شمس الدين يطوف على كل المواقع والنقاط.. وفي أثناء مروره الليلي صادفه رجل، فأوقف الشهيد إبراهيم سيارته وعرض على الرجل أن يوصله إلى بيته. فركب وسأله «ممكن نتعرف عليك ؟» فردَّ الشهيد «معاك إبراهيم شمس الدين»، فشهق الرجل من الدهشة وهو يقول: «إبراهيم شخص الدين شمسياً».. نواصل إن شاء الله. وهذا هو المفروض.