انعقدت بمالابو عاصمة غينيا الاستوائية الدورة رقم 39 للمجلس الوزاري التنفيذي للمنظمة الحكومية للتنمية المعروفة اختصاراً بالإيقاد IGAD ولمن لا يعرف غينيا الاستوائية فهي دولة صغيرة في غربي إفريقية، تطل على المحيط الأطلسي، وتجاور الكميرون شمالاً والقابون جنوباُ وتبلغ مساحتها الكلية 28051 كيلومتراً مربعاً ويسكنها حوالى مليون نسمة، وتنقسم البلاد الى جزيرة توجد بها العاصمة مالابو، ويابسة بها مدينتا باتا وامبيني، والمسافة بين الجزيرة واليابسة حوالي 8 ساعات بالباخرة، وقد استعمرتها أسبانيا عام 1878 ومكثت بها 190 عاماً حتى نالت استقلالها في عام 1968م؛ وهي من الدول القلائل التي تتحدث الإسبانية كلغة رسمية، مع الصحراء الغربية وسبتة ومليلة في المغرب العربي. وقد علمت من بعض التشاديين الذين يعملون كتجار في تلك البلاد، أن بها بعض السودانيين؛ ولا توجد للسودان سفارة بتلك البلاد على الرغم من كونها أغنى دولة إفريقية اليوم، إذ يبلغ متوسط دخل الفرد السنوي 36600 دولار أمريكي؛ وتنتج حوالي 300000 برميل من النفط يومياً كما تنتج الأخشاب مستغلة المناخ الإستوائي الذي نجحت في المحافظة عليها، فيرى الزائر أنه داخل غابة تكسوها الخضرة من كل جانب، تظللها السحب طوال الأيام وتنهمر عليها الأمطار كل العام. ولا يعلم أهل مالابو عن السودان الكثير، ولكنني علمت من بعضهم معرفتهم بالرئيس البشير، إذ شاهدوه في التلفزيون عبر القنوات الإسبانية، وقناتهم المحلية، لا سيما بعد توقيع اتفاقيات السلام، ومن تلقاء حملات التشهير التي ثارت ضده إبان تلفيق فِرية الإبادة التي تولى كبرَها أوكامبو، الذي خاب مسعاه في مالابو ضمن مسلسل الإخفاقات المخزي الذي أصبح سمة الرجل، فكان من ضمن مقررات مؤتمر قمة الاتحاد الإفريقي التي انعقدت يوم 30 يونيو الماضي، قرار حظي بإجماع قادة إفريقيا ناشد الدول الإفريقية والمجتمع الدولي عدم الاستجابة لقررات محكمة اوكامبو، التي يرى الأفارقة أنها تمثل حملة جديدة للاسترقاق القانوني في عصر الاستعمار الجديد؛ وفضّلت الدول الإفريقية معالجة قضاياها بحلول إفريقية تنبع من قيّمها وتدار بأبنائها، وقد انضمت كينيا ودول أخرى لهذا الاتجاه التحرري، كما أن الرئيس ثيودور إنقيما رئيس غينيا الاستوائية الذي يترأس الدورة الحالية، أنحى باللائمة على محاولات الاستعمار الجديد، ودعا لتحرير إفريقيا بالكامل، ونبذ كل ما يمت للاستعمار من صلة، مؤكداً أن من أهم رموز السياده تطبيق القانون الوطني، والمحاسبة بموجب ما تنصّ عليه دساتير الدول المستقلة، وليس تصدير العدالة، أو استيراد العقوبات من الآخرين، مما لقى ترحيباً واسعاً. وقد كان نجم هذا الموسم القممي الإفريقي بلا منازع رئيس البرازيل السابق، لولا دي سلفا، الذي خاطب الجلسة الافتتاحية بصفته ضيف الشرف، فطالب إفريقيا بإنهاء كافة أشكال الاستعمار، ومن ضمنها العدالة الانتقائية المتجزئة، واستئثار الغرب والدول الصناعية الكبرى بالثروة وحبسها عندها مع التقانة، وانتاج استدامة الفقر والمسغبة والأزمات في العالم الثالث، في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وقد لقي البيان دوياً صافقاً وترحيباً حاراً من كافة الحضور كما احتفت به الصحافة الإفريقية والدولية أيّما احتفاء. وفيما يتعلق بالسودان، فقد قاد وفد القمة نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان، إذ كان الرئيس البشير في تلك الأثناء في زيارة تاريخية إلى الصين. فعلى هامش المؤتمر التقى النائب بالعديد من قادة ورؤساء حكومات الدول، ومنهم بالطبع الرئيس إنقيما الذي عبّر عن سعادته بالتعاون الثنائي مع السودان، والاستفادة من خبراته المتراكمة، ودعم التحرك على مستوى المنظمات الدولية، والتنسيق في إنفاذ البرامج التكاملية على مستوى الاتحاد الإفريقي، وفي السياق فإن السودان يحتاج الى إنشاء نوع من التمثيل هناك، لا سيما أنه لا توجد سفارة لا في الكميرون ولا في القابون المجاورتين، مما يحرمه الاستفادة من محافظ الاستثمار المتوفرة لدى غينيا الاستوائية؛ فهي تتمتع بفوائض نفطية جمّة، وتحتاج الى تأمين الغذاء واالكساء والصحة والدواء؛ كما أنها يمكن أن تمثل سوقاً للعديد من المنتجات والخدمات. فموقع غينيا الاستوائية الجغرافي وثراها الخرافي، أغرى البعض في الدول الغربية باستهداف استقرارها وسيادتها، فقد انطلقت حملات تشويهية شعواء، غير مبررة ، ضد الرئيس انقيما تطالب برفض جائزة دولية خصصها لليونسكو في مجال العلوم والبحوث والدراسات الانسانية، فانبرت هذه الأبواق التي تناصر الغرب من حيث المبدأ، متشدقة بأن الرجل ديكتاتورمبين، وعدو أشِر لحقوق الإنسان، وبالتالي فعلى اليونسكو أن ترفض جائزته. ومن تلقاء ذاك الرفض المبهم، فأرى أن يقوم الرئيس انقيما بتخصيص الجائزة للباحثين والمفكرين والأدباء الأفارقة، الذين هم في أشد الحاجة لمثل هذه المكرمات، وباعتبار أن هذه الثروة أفريقية فالأفارقة أحق الناس بها؛ فإفريقيا هي أقل القارات صرفاً على البحوث. وأقترح أن يوعز السيد وزير الثقافة السوداني لرصيفه الغيني الاستوائي بهذه المبادرة، التي لا أرجو عليها جزاءً ولا شكوراً، لإخراجهم من الضيق الحَرج ، ولجلب المنفعة للأفارقة ليقولوا: «هذه بضاعتنا ردت الينا».. انعقدت، كما أسلفت، الدورة 30 للمجلس الوزاري للإيقاد بمالابو، وقد لاحظت أن معظم وزراء الخارجية من الدول الست المشاركة، وهي السودان وإثيوبيا ويوغندا وكينيا والصومال وجيبوتي، لم يسبق لهم أن زاروا هذه البلاد، وقد عجبوا بما شاهدوه من حسن التنظيم، ومهارة الإعداد، ورونق التشييد، إذ تبدو البلاد كأنها سويسرا إفريقية من حيث الطقس، أودُبيّ إفريقية من تلقاء المعمار والتفنن التقني. تناولت أجندة المجلس الوزاري ثلاثة بنود حول السودان والصومال وإريتريا؛ إذ حظي موضوع ولادة دولة جنوب السودان القدح المُعَلى، إذ توافَق الوزراء بالإجماع في بيانهم الختامي بالإشادة اللامحدودة بحكمة السودانيين في التوصل الى حل مستدام لمشكلة جنوب السودان، ووقف الحرب التي استمرت زهاء الأربعين عاماً إلا قليلاً، ثم لم يمنعهم ذلك من التعهد بالاستمرار في التعاون كجيران ذوي قربى، بل مضى بهم الأمر لأن يعلنوا أن الدولة الأم في الخرطوم ستتولى تأهيل وليدتها الشرعية في جوبا في كل ما تطلبه، فقد شاهدوا وزير الدولة بالخارجية صلاح ونسي يتبادل الحديث مع وزير التعاون الإقليمي بدولة جنوب السودان دينق ألور كمواطنيَن في دولة واحدة، مما أثار الدهشة ولإعجاب معاً لمن شهد هذا الموقف الأسطوري النادر؛ إذ كان البعض يتوقع أن يقوم المواطنون في الشمال والجنوب بأدور بطولية في دراما «الأخوة الأعداء» في وقت نرى فيه أن بعض الدول التي مرت بأقل مما مر به السودان، لا يتحاور دبلوماسيوها ولا سياسيوها، ولا يطيق مواطنوها النظر بعضهم الى بعض. ولكن الأمر في السودان غَيْر، كما يقول أهلونا الخليجيون، إذ يُثبت مجدداً لإفريقيا والعالم أن شعب السودان هو نسيجُ وحده، ويؤكّد مقولة أن شعب السودان هو: «معلم الشعوب» . فما يدور الآن من تشاكس ومناكفات في بعض الدول العربية التي تُنابذ حكامها وتلعنهم فيلعنونها، تجاوزها السودان منذ 47 عاماً عندما انتفض الشعب السوداني في أكتوبر 1964م ضد حكومة 17 نوفمبر، وكان وقتها رئيس الدولة الفريق إبراهيم عبود، فما كان منه إلا تنازل عن الحكم طواعية، وتشكلت حكومة الأستاذ سرالختم الخليفة للإنتقال الى الديمقراطية الثانية حتى عام 1969م وقيام ثورة مايو. إن التطورات السياسية في البناء الهيكلي للدولة السودانية التي أفضت الى استقلال دولة جنوب السودان تمثل اتصالاُ لهذا الماضي المتفرّد التليد، الذي لا يوجد له مثيل في تاريخ بناء الدول حولنا؛ وما ذلك إلا لأن السودان هو السودان، ولا يمكن أن يكون غير السودان؛ فنرجو أن يكون هذا بمثابة شحذ لهمم الأمة لاستغلال الفرصة المتاحة لخلق حاضر راسخ مجيد يعتز به أبناؤنا وأبناؤهم فيما يستقبل من الزمان؛ فلشعب السودان موعد مع التاريخ لن يخلفه، فرعاة الإبل الذين تنبأ بهم الرسول (ص) في تفسير قوله تعالى في الواقعة (وثلة من الآخرين) هم أهل السودان؛ فنرى أن يتولى الرئيس عمر البشير قيادة هذه المرحلة التاريخية الفاصلة مستصحباً هذه الرؤيا، عبر تحقيق التكامل في إقليم الإيقاد؛ فقد عبّر الفريق سلفا كير رئيس جنوب السودان عن رغبته الانضمام لها، ولا نرى ما يمنعه من ذلك؛ ولكن السودان من مؤسسي المنظمة منذ عام 1986، وهو أكبر دولها وأكثرها تجربة ودراية، وباعتبار أن المنظمة لديها رؤيا ورسالة واضحتان بشأن التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني الاستراتيجي لدول شبه الإقليم، فنرى أن يبذل الرئيس البشير مساعيه خلال فترة ولايته الحالية ليتحول إقليم الإيقاد الى منطقة مفتوحة للتنمية الشاملة، والتكامل الاقتصادي، والشراكات الذكية، بحيث يشمل ذلك حريات التنقل، والتملك، والاستثمار، ورفع كافة القيود على تحركات التجارة والأموال والمهارات. ولعل السودان باعتباره الاقتصاد الأكبر في المنطقة سوف يكون الأكثر استفادة ومشاركة؛ كما يتمتع بمؤهلات ستجعله الرائد في التطور السياسي الممنهج عبر تبادل خبراته مع الآخرين في مجالات التعليم العالي والتأمين الصحي وتحقيق الأمن الغذائي لكل دول الإيقاد. ولعلنا في هذه المرحلة نحتاج كخطوة عملية لاستكمال الربط بالسكك الحديدية لكافة دول منطقة الإيقاد، بعد تحقيق الربط الكهربائي والبري مع إثيوبيا وإريتريا. ونود أن نرى سوداتيل وغيرها من شركات الاتصالات أن تلي هذا الجانب ما يستحقه، وأن تنتشر في سوق الإيقاد خدمة لمواطنيها؛ كما نود أن نختم بكلمة هامسة في أذن اُذُن وزير الإعلام ليمد إرسال محطات FM لتطال شعوب الإيقاد، فإن شدو مطربينا بالغناء السوداني الأصيل يطرب آذان ويفرح قلوب من حولنا في الإقليم. * سفير السودان لدى جيبوتي والمندوب الدائم لدى الإيقاد