سنوات طويلة وتاريخ ممتد في جذور عميقة، شكلت واقعاً لا تخطئه العين للسودان والسودانيين، وحكم خياراتهم للمستقبل بادوات سياسية قبلوها اورفضوها يظل الواقع ان هناك لحظه فارقة تتشكل الآن، قد نغمض اعيننا ولكن ذلك لن يغير من الواقع شيئاً في علاقة الشمال بالجنوب، وكل ينظر للآخر بعين يملاها التاريخ والوجدان والمستقبل، فكيف ينظر الشماليون الى لحظة الانفصال الراهنة التي ربما لم تكن في تصوراتهم قبل عدد من السنيين، وإلى أي مدى يحسون ببعضهم في علاقاتهم الاجتماعية اليوم؟ موقف ومواقف حاولنا رصدها لدى مواطني الشمال، وجدناهم يعيشون هذه اللحظة باحاسيس متداخلة بين الدموع والدعاء، فهذا لم يكن خيارهم. وفي تداعيات الحدث الكبير الذي شغل الناس عن امور حياتهم اليوميه التقينا بعمر محمد ياسين، الذي تحدث بواقعية عن هذا الحدث الذي وصفه بالتاريخي وباح لنا عما يدور في خلده تجاه الجنوبيين وهم يودعون ليتحدث الينا بعد ان نظر في الفضاء العريض لمدة ليست بالقليلة قائلاً : نحن لم نفقد شيئاً هم من ارادوا الابتعاد عنا لأسباب يرون انها كفيلة لتجعلهم يتخلصوم من الاستعمار الشمالي كما يقولون، ولكنا باقون بلا شك وسنعمل على تطوير دولتنا الجديدة بجغرافيتها الجديدة، واضاف ياسين نحن لانريد من الجنوبيين سوى التحلي بروح الاخاء التي جمعتنا، فنحن لم نرفضهم بدليل انهم عندما اندلعت الحرب في الجنوب لجأو الى الشمال الذي احتضنهم ووفر لهم المأوي، وقال انه لا يحمل تجاههم اي شيء ولكنه لا يدري لماذا صنعوا كل هذه الافتعالات لكي يستقروا بعيدا عن الشمال، وتساءل مرة اخرى لماذا هم مصرون على الذهاب؟ وهل لديهم القدرة على المضي قدماً في هذا الطريق؟ واختتم حديثه انهم من ارادوا ذلك ولم نكن شركاء في هذا القرار وعليهم تحمل النتائج كاملة فاذا كانت ايجابية يسعدنا ما سيصلون اليه من استقرار وان كان العكس عليهم الا يحملونا المسؤولية فنحن لم نذهب الى صناديق الاقتراع. فيما قال احمد النبهاني: انا اتوقع بأن يعودوا الينا في وقت قريب ولن يتمكنوا من البقاء هناك، وعندما سألناه عن سبب هذا التوقع اجاب بأن الجنوبيين مرتبطين بالشمال اكثر من الجنوب، خاصة تلك الشريحة التي ولدت في الشمال وتشربت من ثقافاته المختلفة، فمن الصعب على هؤلاء التأقلم مع بيئة جديدة وسيفضلون العودة الى الشمال كيفما كانت وضعيتهم، فهناك اعداد هائلة منهم عكفت الايام الماضية على استخراج الاوراق الثبوتية والبطاقات الشخصية حتى يتمكنوا من البقاء دون مشكلات، وواصل النبهاني حديثه: نحن الشماليين لا نكن لهم اي عداء، ولكن لا يعني ذلك اننا سنتعاطف معهم ان خسروا رهانهم مع انفسهم، وفي الآخر هذا خيارهم وكما يقول المثل السوداني (التسوي بأيدك يغلب اجاويدك)، واضاف (انا كفرد لا احس بالندم لأني لم اشارك واعتقد انه احساس اي مواطن شمالي)، لا يجوز لنا ان نعاتب انفسنا ولا نريد القول بأنهم رفضونا ولكنا نحترم رغبتهم بالتأكيد، ومضى في الحديث ليقول لا أظن ان الشماليين يحملون في انفسهم اشياء بغيضة تجاه الجنوبيين بقدر ما يتمنون لهم التوفيق في مسيرتهم وتظل الدعوات مستمرة ليتمكنوا من بناء دولتهم الوليدة، وهكذا اكتفى احمد النبهاني ليصمت بعدها عن الكلام. ولكن كان لمحمد مبارك رأي مغايير تماما لما سرده محدثانا اللذين سبقاه فهو يرى ان انفصال الجنوبيين افقد المجتمع السوداني جزءا من تركيبته، فالجنوبيون لم يأتوا دخلاء علينا ولكن تربطنا بهم علاقه دم وتصاهر فمن الصعب ان يخرجوا منا بهذه السهولة، فهم شريحة ليست بالقليلة حتى نقول انهم لن يأثروا، فغيابهم يعني ترك فراغ اجتماعي فنحن تعودنا على وجود وجوههم بيننا، فهل من الممكن ان نتنازل عنهم بهذه السهولة، وعلى الرغم من ان الانفصال كان اختيارهم الاول ولكننا يجب ان نجد لهم العذر، فقد كانوا تحت ضغط سياسي عال وهذه نتيجة طبيعية خرج بها الانفصاليون في السودان لأنهم بذلوا من الجهود ما يكفي لجعل السودان انموذجاً للترابط، ورفض مبارك الحديث عن رفض الجنوبيين متسائلاً لماذا نرفضهم وهم كانوا جزءا منا مشيراً الا انه هناك الاف المتسللين من دول الجوار من دون شكل قانوني ونتعامل معهم بصورة جميلة وصاروا جزءا منا، واستغرب للاشخاص الذين يقولون يجب على الجنوبيين ان يذهبوا ولا يبقوا في الشمال لأنهم اختاروا الانفصال، فهناك اشخاص مع الوحدة بدليل انهم باقون في الشمال. وقالت ميسون عادل انها تحترم خيارهم فلا يمكننا اجبارهم على البقاء معنا وقد اقدموا على هذه الخطوة بعد مرارات وحروب، فلمَ لا نتركهم يديرون ذاتهم ويقارنون أي حال افضل، بقاؤهم كجزء من الشمال ام مضيهم بعيدا عنه، واضافت لولا تلك الاتفاقية اللعينة لما وصلنا الى هذا الطريق الذي افقد الشمال والجنوب صلتهما ببعض ودفعا ثمن الانفصال غاليا من دون شك، لن نستطيع التخلي عن بعضنا فنحن جزئين نشكل مجتمعا متكاملا من ناحية الثقافات والارتباطات الوجدانية، وهناك ما لا يستطيع الانفصال السياسي ان يؤثر فيه مثل علاقات الدم وهناك عدد من الاسر الممتدة بين الشمال والجنوب من يستطيع فصلها، واختتمت حديثها وهي تردد ان الانفصال سياسي لا غير. وتحدثنا الى مجموعة من الطالبات كن يجلسن متقاربات وتتوسطهن صديقتهن من جنوب السودان وكأنما اردن وداعها، وسردن لي انهن ذهبن قبل شهر من الآن في رحلة علمية وكانت معهن ولا يروق لها مفارقة الشمال وكانت (نيرو) تتحدث بحساسية عن بقائها هنا، لانها تشعر بان الشماليين لن يقبلوها بعد ذلك بينهم، وباتت تتعامل بحساسية تجاه الكلام الذي يوجه اليها وان كان مزاحاً، وعادة ما تقابل الحديث عن الانفصال بتخوف مما سيحدث لمستقبلها في الشمال فهي مازالت لديها رتباطات هنا، وعليها ان تكمل دراستها في الشمال ولكن ما لفت انتباهي في هذا الحديث انها عبرت لصديقاتها عن عدم رغبتها في استئجار منزل يبعد عن الجامعة التي تدرس فيها حتى لا تضطر لاستقلال المركبات العامة وتتجه اليها الانظار متسائلة ما الذي ابقاك هنا؟ الم تختاروا الانفصال فماذا تريدون من الشمال اذاً؟ ولكن بعد ان التقي بها وسمعت منها قالت لي انها لديها رغبة في البقاء بالشمال مهما كلفها الامر، ومازحتها (ان عودي وستجدين منزلنا في انتظارك، انفجرت ضاحكة لن استشيرك في الامر فكل بيت ادخله في الشمال بيتي) ، واصلت حديثها ونحن نحتسي الشاي فهي على حسب ما علمت مغرمة بتناوله لتقول لي انها ستذهب الى الجنوب مدة شهر لا غير لتعود الى الشمال مرة اخرى لمواصلة حياتها كما كانت ومن المحتمل ان تطلب من زوجها ان يستقر معها في الشمال، نسيت ان اقول انها متزوجة ولديها طفل يحمل ملامح جنوبية ولكن انفاسه شمالية، كانت تأتي به وهو، وما عرفته من خلال حديثها معي ان ابنها في الجنوب نسبة لظروف الدراسه فهل ستعود( نيرو) الى الشمال مرة اخرى؟ ام سيجرفها تيار الانفصال الى موطنها الاصلي؟ ومضت في الحديث لتقول هذا لا يعني انني ارفض الانتماء الى الدولة الجديدة ولكن لاتروق لي الحواجز التي وضعت بين شعب واحد بفعل فاعل، وبعد ان اتجهت بنظرها في كل النواحي قالت انها عائدة الى الشمال لا محاله، فالبلدان ملكها ولن يتمكن احد من ابعادها عن الشمال او الجنوب معبرة عن رأيها بان الامر لن يطول وسنعود كما كنا دولة واحدة واظنها كانت تقصد ان الوحدة قادمة مرة اخرى، وكان جميع من يجلسون حولنا ينظرون الينا وكأنهم يريدون مواساتنا على الحالة التي كنا نعيش فيها عندما كانت تحدثنا عن المشاعر المتناقضة التي كانت تملأ دواخلها. ويذهب الخبير الاجتماعي والناشط في بناء العلاقات بين الشمال والجنوب دكتور عبد الرحيم بلال بالحديث قائلاً : اننا كمجتمع فقدنا عددا كبيرا من السكان والمساحة، وفي الاعوام الاخيرة ازداد التواصل بين الشماليين والجنوبيين، واصبحت الروابط لاجتماعية اقوى من ذي قبل، وقال ان ذهاب شريحة بهذا الحجم خسارة كبيرة للمجتمع السوداني فهي جزء من ثقافاته، فالسودان كان يضرب به المثل في التنوع الثقافي اما الآن ففقدنا جزءا من هذا التنوع، وبعد ان اصبح الانفصال واقعا برهنا اننا لم نستطع توفير وطن يحتضن كل الناس وفشلنا في احداث وحدة جاذبة، قبل ان يقول ان الجنوبيين بعد الانفصال لن يعاملوا من المجتمع الشمالي كاجانب وحتى ان حدث ذلك سيكونون هم الاقرب الى نفوس السودانيين مقارنة بالجاليات الاخرى، فهم موجودون في كل مناحي حياتنا في المدارس والجامعات والاحياء والاسواق، ولا اتوقع ان تكون هناك نظرة فيها شيء من عدم القبول من ناحية الشماليين، و بعد الانفصال سيكون الارتباط الوجداني قويا جداً وكذلك الانساني. ويشرح الخبير النفسي محمد ادريس رئيس قسم علم النفس بجامعة افريقيا، ان التأثيرات النفسية تجاه الكيان الجنوبي بعد الانفصال قد تتدرج، فالانشقاق عن الدولة ليس بالامر السهل وكذلك الروابط الاجتماعية بين الشمال والجنوب ليست بالسهلة، لذلك ردود الافعال النفسية متوقعة، وظهر ذلك جلياً في اتجاهات السودانيين نحو الجنوبيين في الاستفتاء، وبعد الانفصال سيوفق الجنوبيون اوضاعهم في الشمال وسيكون الامر عاديا ويعاملوا كافراد من دول الجوار، ومن خلال المؤشرات الموجودة لن يكون هناك اتجاه عدائي نحو الكيان الجنوبي على الاطلاق، وكان واضحاً في الفترة التي نزح فيها الجنوبيون الى الشمال اثناء الحرب، ولا يوجد عداء للجنوبيين كجنوبيين، والسودانيون لديهم درجة عالية من الوعي ومتفهمون للوضع تماما، فالجنوبيون الذين قرروا البقاء في الشمال هم الاكثر ميولا للوحدة ولكن الاقدار جاءت بعكس ما يتمنون، وهم سيكونون اقرب الينا من الشعوب الاخري.