مدخل (1) بيروت خيمتنا بيروت نجمتنا لمحمود درويش تفاحة للبحر نرجسة الرخام فراشة حجرية بيروت شكل الروح في المرآة ووصف المرأة الأولى ورائحة الغمام بيروت من تعب ومن ذهب اندلس وشام .. فضة .. زبد .. وصايا الأرض في ريش الحمام وذلك لأن الروائي شاعر وقد اهتم بالايقاع في الرواية وزي قول أستاذ هاشم صديق الرزم لمن يتوه بالبنية الوقفت قلب الزمان يبقى زولاً شكلو تاني وطبعو تاني روحو وريشتو والجمال في الدنيا عيشتو الجمال يا الله قدري وروحي ساكناها الموسيقى ونحن مع رواية لا اقول عنها الا كما قال معين بسيسو سفرُ سفرِ سفر رواية آخر أيام شاب جنوبي للكاتب امير صالح جبريل، والناشر مدارات للطباعة والنشر والتوزيع، وتاريخ الاصدار 2010م، وقد كتب رواية سودانية ولا ادري لماذا كتب رواية سودانية، فأنفاسها وشخوصها وملامحهم وتكوينتهم سودانية، وقد قرأت الرواية ولم اضع الكتاب الا بعد انتهيت من قراءتها. ونورا ترقد مكومة لصق جدار غرفة مجوك، وقد وجدت أن الرواية كتبت بصورة ابداعية، وبصورة تنم عن ان الكاتب صاحب تجربة ابداعية تتضح من خلال العناوين في الصفحات «قبل الموت» و«اليوم الاول قبل الاخير».. ومن خلال القراءة تقف على قاع المدينة .. والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها مجوك، وما يلفت النظر الواقعية السردية والاهتمام بتفاصيل المكان.. غرفة صغيرة ضيقة وسرير قديم بالٍ مفروش بلحاف تناثر قطنه من اسفله، وتغطيه ملاءة ممزقة في وسطها، وقد وضعت بجواره منضدة صغيرة يبدو أنها لم تحرك منذ زمن بعيد، وضع عليها جهاز تسجيل قديم.. فيتضح من ذلك ان الكاتب للرواية يهتم بتفاصيل الاشياء، وان اي شئ داخل الغرفة له دلالاته في تكثيف رؤية الكتابة للرواية، حتى ان صوروة المغني الجامايكي «بوب مارلي» ذات دلالات، وحتى صحف «الإيام» و «الصحافة» المثبتة على الحائط تمثل الطلاء بدلا من البوهيات والبوماستيك. ان في الداون تاون نجد الحياة هكذا في الواقع، وان كان امير صالح جبريل قد صور الواقع بصورة فنية وابداعية، وتمثل الابداع اكثر في رسم صورة بطل الرواية دينق شول مجوك الذي من خلاله ظهرت ملكات امير صالح الابداعية في توضيح الابعاد النفسية والاقتصادية والاجتماعية للبطل، وكأنه يعرف كيمياء الشخصية، وقد تخيلت ان امير قد قام بمعايشة هذه الشخصية وراقبها وكتب عنها بتفاصيل فنان مبدع قد رسمها في مخيلته وسكبها على الورق بعصف ذهني متقد يتحسس قضايا الإنسان.. ومجوك نموذجاً، ولأن ذاكرة مؤلف الرواية أمير تتغذى على ذاكرة ماضية غنية بالحركة والدراما ومنزلهم بالدامر على بعد أربعين متراً من السوق، وإن كانت جالساً في بيتهم فأنت تسمع اصوات الباعة، وقد يسأل البعض وما علاقة ذلك بالرواية، واقول ان امير استنبط كثيراً من اللغة والمواقف في حياته، وأصبحت جزءاً من ذاكرته الابداعية، وقد كانت في بيتهم معلمة تهتم بالمسرح والشعر وتنمية مقدرات الطلاب الابداعية، وهي أخته الكبرى فتحية.. وقد كان أمير لاعب كرة قدم يشار اليه بالبنان، ولعب لفرق درجة اولى النهضة والسهم، وكان والده في المدرجات يصيح ويشجع، وهو رجل فنان في مواقفه ومداعباته، واعتقد جازما أن صالح جبريل الاب اسهم في تشكيل ذاكرة امير المبدع. ورغم انه درس ادارة اعمال بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، الا انه اقام في بيتهم بالدامر صالوناً ادبياً بتشجيع من والده واخوته، وقد خرج هذا الصالون كثيرين يهتمون بكتابة القصة والرواية والشعر، ومنهم بكري سليمان دخيل الله وحسام البر ومحمد يوسف ابا ومصعب الصاوي وميسرة عثمان ابن اخت أمير وهو قاص وشاعر، وكثيرون، وحكى كثيرا علمتنا اياه فاطمة خضر حسين والدة امير ووالدتنا، ونرجع لمجوك في غرفته وهو يغمض عينيه «زمن ثاني» في الرواية. واعتبرها خطاً من خطوط الرواية الدرامية، وهو يسترجع في شكل فلاش باك وهو صغير، ويشاهد خنجراً مغروساً في أحشاء رجل، وأمه تصيح، ورجال البوليس يدخلون ويخرجون، ويحكي مجوك كيف أنه سمع أمه تطلب من ذلك الرجل السكران أن يخرج، وكيف تدخل رجل آخر وقلع السكين من السكران، فهذه الصور لا تفارق مخيلة مجوك. وقد استخدم المؤلف كل الصور والخطوط التي ترسم شخصية مجوك، وعالج الرواية باستخدام المنلوج لايضاح البعد النفسي للبطل، واستخدم في بناء الرواية الحوار كالحوار بين نورة ومجوك هالو ماي قيلو... اهلا نورة ... والتي صورت بجسدها الأبنوسي وكل ملامحها نستشفها من خلال الكتابة، وتبدو متفلتة لكنها أحبت مجوك بكل صدق، بل كانت تصرف عليه وتخاف أن تفقده يوما ما، وصرحت بحبها له، ولم تكن كحسنة بت محمود التي لم تجب صراحة عن حبها لمصطفى سعيد، وقد يكون ذلك ناتجا لوضوح تفاصيل المجتمع لدى كل من الطيب صالح وامير صالح جبريل، وعند امير يخيل الى ان الوقوع في الحب الاول ليس بين مجوك ونورة انما هو حب الكتابة، واكرر حب الكتابي جاء لدى أمير كبذرة بذرها فيه احد قدامى المحاربين، وهو يحكي عن الطليان وصحراء ليبيا والمواقف الانسانية في الحروب، في الحرب العالمية الثانية، وهو عمنا صالح جبريل.. الذي اذكى فهم الرواية لدى ابنائه، ومنهم البحار الروائي علي صالح شقيق أمير. وقد استطاع أمير في هذه الرواية تصوير صور درامية ومواقف، ويتم الانتقال من خط روائي الى آخر في صور سلسة وغير مزعجة، فالتقطيع من مكان الى آخر يتم بصورة جمالية، لأن بناء النص الروائي مكثف، والمداخل والمخارج من زمن الى آخر بمفردة جزلة، وتقطيع سينمائي في سياق النص الذي تم بناؤه على معادل موضوعي في تحركات مجوك، وهو ينصرف والحيرة تشغله والجوع شغله، ونجده يبني علاقاته حسب ما يعتقد انه يعوضه نفسياً، ويركن «للعرقي» والمخدرات حتى يجد انه يتعادل مع العالم المحيط به.. وإن لم تكن الرواية قد قالت صراحة ان للحرب آثاراً سلبية على أناس لم يكونوا هم مطلقو رصاصتها، لكنها ساهمت كثيرا في الهجرة نحو امانٍ وتطلعات تصطدم بالواقع الاجتماعي في عدم تحقيق متطلبات المعيشة بالصورة التي يرسمها البعض. ولكن الرواية هي صور اجتماعية تضج بالحيوية في محيط مساحة حركة الشخوص وتقاربها وتباعدها ومغامراتها، وتتراءى المشاهد وأنت تقرأ وكأنك تشاهد فيلماً، ونحن ننتقل الى اليوم قبل الأخير وظهور زنقد ومدفور ليبدأوا مغامرة جديدة تتمثل في السطو على دكان صائغ، ويحكي مجوك لنورة مغامراته في البحث عن الطعام، وتقول له نورة في صورة شاعرية قدرك أن تسرق الاحلام وتأكل الوهم..! ونجد إطار الرواية مفعماً بالتحولات والحركات والانتقالات، الى ان نصل الى «اليوم الأخير»، ويستيقظ مجوك على ضجة شريكيه زنقد ومدفور، الى ان يقتل مجوك ولا يعطى نصيبه من السرقة، ثم ماذا بعد الموت غير اكتشاف الجثة من نورة عشيقته التي حدثته كثيراً أنها ستفقده، وقد كان حدسها صحيحا، وتحركت الشرطة، وقد صور الكاتب أمير تحريات الشرطة بدقة ومهنية، وكأنه كان ضابطا او وكيل نيابة... الى ان نأتي الى ملف التحري البلاستيكي الذي صوره في صور سينمائية رائعة الى ان نصل الى احزان نورة التي ترحل في النهاية لتلحق بمجوك.. ونستمتع بقراءة الرواية، وأدهشتني لغة الكاتب واختزاله وايجازه للجمل وللتقطيع الرائع بين المشاهد والتصوير البديع للحالات النفسية لشخوص الرواية، وقد جاء ذلك لأن لأمير تجارب ابداعية سابقة، وقد كتب كثيراً من القصص منها «النافذة» و «قصة الرجل الذي تحول الى سمكة» و «الرجل الذي احترق».. وقد كتب مسرحية فازت بجائزة محمد تيمور للابداع المسرحي بمصر في عام 1995م، وقد كانت بعنوان «يوم مليء بالاحداث» صور ورصد فيها حركة المتسولين بجوار الجامع الكبير بميدان أبو جنزير .. وكل ذلك جاء رافدا لتجربته في كتابة رواية «آخر أيام شاب جنوبي» في صورة وصفية سردية لأوضاع وحالات لأناس يعيشون في بلادي يحلمون بالملح والطعام والمتعة، وما هو الثابت والمتغير في حياتهم.. وفي صيرورة الحياة والتراكم النفسي، وقد جاء البناء للرواية في تطور متصاعد، وقد حفظ الكاتب الخطوط الدرامية في تقاطعات فنية.. وألخط ان هنالك نفساً وجودياً، وان بطل الرواية لم يهتم في حياته بالدين ان كان في المسجد او الكنيسة.. وكان همه أن يعيش اللحظة، وكأنه بوهيمي ترك الدراسة في السنة الثالثة ابتدائي، لكنه كان معجباً ببوب مارلي وكأنه من الراستا الذين يجعلون بوب مارلي قدوتهم في الحياة، ويتضح معنى الوجودية عندما ننغمس في السؤال الغيبي (هل سنلتقي مرة اخرى؟) ويبقى غيب السؤال تضاداً قوياً وضعفاً.. ولا أريد أن أكون رجاء النقاش لامير صالح، ولكن اقول انه تأثر في كتاباته برواية «الأم» لماكسيم جوركي ورواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري و «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف.. و «أولاد حارتنا وزقاق المدق والسكرية» لنجيب محفوظ ورواية «الجذور» ل اليكس هيلي.. واقول لأمير واصل الكتابة لتصبح مع أصحاب الروايات في بلادي، واقول له ختاما ان الرواية كانت اغنية وما أروع شاعرنا النور عثمان أبكر عندما يقول في ينبوع الأغنية: بداياتي نهاياتي بداية لآخر وكل سالك دروب عمرنا أفاض قطرتين من رحيق عمره لنا فواصل الزمان والمكان لم تبدد الرصيد المُحتمى... بنوح هذي الريح في موارد الأسى بعالمي وجداننا الطروب.. عاش وهلة العذاب في الحضور في الشرود في الغياب في ينبوع أغنية