أشول دينق ولام أكول جنوبيون في الفضاء العربي ظلت عروبة السودان موضع شد وجذب خاصة عند أولئك الذين يعرفون العروبة بميل البشرة إلى البياض والانف الدقيق والشعر الناعم واذا كان شمال السودان موضع خلاف فقد كان محسوماً أمر الجنوب بوضعه بلا جدال في المجال الافريقي يؤهله لذلك الموقع الجغرافي والملامح واللسان، ولكن للعروبة قوى ثقافية تجعلها قادرة على اجتذاب الذين لا ينتمون اثنياً إلى العرب وعلَّ العامل الاقوى في ذلك هو اللغة اذ ان العربية لغة ذات فضاءات شاسعة في التعبير رغم صعوبة نطق بعض مخارجها ولذلك ذابت لهجات محلية كثيرة لما امتدت الفتوحات الاسلامية لتشمل بلاداً سكنها البربر والاكراد والزنوج ولما برز في التاريخ الحديث الكيان العربي السياسي الواسع كانت اللغة هي رابطه الاقوى حتى ان رئيس العراق اليوم جلال الطالباني ووزير خارجيته زيباري كرديا اللسان من ناحية لغة الام لكن العربية انست الناس كردية زعيمي العراق (العربي) ولما جاء زيباري إلى الخرطوم ممثلاً لبلاده في الاجتماع الوزاري تمهيداً للقمة التي عقدت في 2009 كان وزير خارجية السودان هو لام اكول المنتمي إلى قبيلة الشلك غير العربية لكنه خاطب الاجتماع الوزاري بلسان عربي مبين بل وترأس المجلس الوزاري (العربي). في تلك الدورة ليقود هذا الوزير السوداني (غير العربي) بالمعايير الضيقة كل العرب ويتولى مسؤولية الشأن العربي على المستوى الوزاري وقد اظهر دكتور لام كفاءة لافتة عند اضطلاعه بذلك الدور امتداداً للكفاءة التي اظهرها وهو يقود الدبلوماسية السودانية. يذكر كل العالم ايضاً الخطاب الشهير الذي ألقاه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن منحت منظمة التحرير الفلسطينية عضوية المنظمة الدولية بصفة مراقب وهو الخطاب الذي قال فيه عبارته الجامعة (جئتكم أحمل بندقية في يد وأحمل في اليد الأخرى غصن زيتون فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي) ولكن الزعيم الفلسطيني لم يصل إلى تلك المنصة بسهولة اذ ان الولاياتالمتحدة بلد المقر مانعت كثيراً في منح أبو عمار تأشيرة الدخول لأن الولاياتالمتحدة المنحازة دوماً لاسرائيل كانت تعتبر عرفات ارهابياً. كان رئيس اللجنة السادسة في الجمعية العمومية (اللجنة القانونية) هو الدبلوماسي السوداني الراحل اشول دينق فتحرك من موقعه ذاك تدعمه المجموعة العربية ليقود حملة مضادة رفع خلالها خيار نقل اجتماع الجمعية العمومية إلى جنيف وهو تهديد خطير وسابقة قد تهز مكانة الولاياتالمتحدة. وقد حققت تلك الضغوط الدبلوماسية هدفها ودخل ياسر عرفاتنيويورك ولما دخل القاعة نهض عبد العزيز بوتفليقة رئيس الجمعية واستقبل رئيس منظمة التحرير استقبالاً خاصاً كسر به البروتوكول وكان ذلك الخطاب التاريخي ولن ينسى التاريخ ان رئيس اللجنة السادسة يومذاك هو الدبلوماسي السوداني الجنوبي اشول دينق الذي قاد الجهود الدبلوماسية العربية حتى تمكن الزعيم ياسر عرفات من عرض قضية العرب المركزية امام أكبر محفل في العالم. بعد أن نام على حلم الوحدة علي عبد اللطيف يصحو على كابوس الانفصال أغمض علي عبد اللطيف عينيه للمرة الأخيرة في مصر التي كان يمتد إليها بصره باعتبارها محور الوحدة الكبرى وحدة وادي النيل التي دعا إليها اللواء الابيض وثورة 24 ولما ضم ثرى مصر رفات البطل السوداني ذا الأصول الجنوبية لم يحس البطل الراحل بالغربة مادام جسده في أرض وادي النيل ولعل بصره امتد في لحظات الرحيل إلى (واو) حيث يرقد رفيق دربه عبيد حاج الأمين الذي مات هناك منفياً وكأن ابطال الثورة أرادوا ان يجعلوا للوحدة رموزاً عند اطراف الوادي الممتد. كانت الوحدة في زمان سالف تعني وحدة مصر والسودان بشماله وجنوبه ثم اصبحت مصر اقليماً منفصلاً وها هو السودان ينقسم لدولتين ليصبح وادي النيل ثلاث دول ويبدو ان ذلك الهدف لم يؤسس على ركائز قوية وإلا لما تحول إلى نقيضه فقد اكتفى رواده بالجانب العاطفي فيه حتى انحصر في هتاف (عاشت وحدة وادي النيل) ولما لم يتحقق الاتحاد مع مصر انكفأ السودان على وحدة قوامها (منقو قل لا عاش من يفصلنا). لقد كان وسوف يظل العامل الأهم في تحقيق الوحدة هو الوعي بأسبابها والوعي بمهدداتها ولكن كانت الوحدة في الأذهان هي تماسك التراب والاحتفاظ بالمساحة رغم ان الوحدة يحققها الشعب لا الارض. وقد كان هذا الانصراف إلى التراب هو أول مفارقة لخط الوحدة ولما رفع سياسيون شعار الوحدة في التنوع لم يقرنوا القول بالفعل وكأن هذا المبدأ هو الفاظ لا يعي معلنوها عمقها ولا يحملون لها تصوراً لتتماشى مع هذا المبدأ الذي يصعب تحقيقه بلا برامج واعية وعميقة فأصبح التنوع مدخلاً للصراع والتشتت وهو في أصله يحمل بذرة الصراع اذا لم يعالج بفهم متقدم. ظل علي عبد اللطيف يحمل مبدأ الوحدة إلى ان مات وأمسك عبد الفضيل الماظ بمدفعه يدافع عن الوحدة حتى مات.. رحل البطلان وهما يحملان حلم الوحدة ويصحو البطلان اليوم على كابوس الانفصال. قد تستلهم الشعوب المعنية منهما دروسا وعبرا تعبر بها محاولة الوحدة من جديد ولن ينسى التاريخ بطل اللواء الأبيض (وليذكر التاريخ ابطالاً لنا عبد اللطيف وصحبه غرسوا النواة الطاهرة). من مؤتمر جوبا إلى (السي بي إيه) محطات في معالجة قضية الجنوب لم يشذ حتى غلاة الوحدويين على خصوصية وضع الجنوب الذي يستلزم معالجة خاصة حيث لا يخفى على أي مهتم بالشأن السوداني ان الاقليم الجنوبي (مختلف) في دولة ركبت تركيباً في تاريخ قريب ولم يكتمل فيها الانسجام والاندماج حتى بات البعض يتحفظون على مصطلح (الشعب السوداني) باعتبار أن هذا القطر الشاسع يضم عدة شعوب. فكر المستعمر في ابتداع طريق جديد لمعالجة المسألة السودانية فاختار ان يطرح التطور الدستوري بعد ان كان مكتفياً بالحكم المباشر عبر الادارة الاهلية فكانت فكرة المجلس الاستشاري (لشمال السودان) وعبرت الفكرة والاسم بوضوح عن اختيار معالجة مختلفة لجنوب السودان وخافت بعض القوى الوطنية من الفكرة وحاربتها باعتبارها مقدمة لفصل الجنوب. قامت الادارة الاستعمارية فيما بعد بعقد مؤتمر جوبا الذي انحاز فيه الجنوبيون للوحدة عبر أعيان وسلاطين يمكن ان يشكلوا عنصراً لا بأس به لمجتمع مازالت فيه طرق التمثيل بدائية. ولكن الخطوة قدمت لقوى الشمال خاصة تلك التي تحفظت على المجلس الاستشاري فرصة يمكن ان يرد عليها بتحية أحسن منها. سارت الادارة في طريق التطور الدستوري فكانت الجمعية التشريعية ثم خطا السودان خطوته الاكبر نحو التحرر لما جرت أول انتخابات أفضت إلى برلمان ضم شماليين وجنوبيين اسهموا في اصدار اعلان استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955 في تلك الجلسة الذي ابدى النواب الجنوبيون تحفظاً على التصويت لاعلان الاستقلال اذ ربطوا موافقتهم على مقترح الاستقلال بمنح الاقليم الجنوبي الحكم الفيدرالي في السودان المستقل وبعد مداولات اجاز البرلمان قبل ان يجيز مقترح الاستقلال مقترحاً باعطاء الاعتبار الكافي لمطالب الجنوبيين في الفيدرالية. يرى كثيرون ان ذلك الجدل حول ذاك المقترح كان البذرة التي نبت منها الانفصال الذي يتحقق اليوم اذ اظهر فتور الشماليين تجاه المطلب الجنوبي عدم الثقة بين الطرفين وان الشمال احس بأن الفيدرالية مقدمة للانفصال بل وأصبح هتاف (نو فيدريشن) هتافاً شمالياً وكأن (الفيدريش) حق شمالي يمنحه الشمال للجنوب وجاءت الطامة حين لم تضمن الفيدرالية في مشروع الدستور الدائم عام 57 فأحس الجنوبيون بالخديعة والمرارة فكانت بداية التمرد العسكري. وصل الجيش للسلطة في نوفمبر 58 وحركة التمرد وليدة فجمع الجيش بين السلطة السياسية ودوره في قمع التمرد اذ انه لم يكن في حاجة لقرار سياسي بعد ان اصبح قائد الجيش هو رئيس الدولة فشهد عهد نوفمبر تصعيداً عسكرياً لافتاً أثار احتجاجات المتعاطفين مع الجنوبيين من القوى الاجنبية بل ان بعض المراقبين يرى ان المعالجة غير الحكيمة لمسألة الجنوب من قبل حكام نوفمبر هي السبب الرئيس في اندلاع ثورة اكتوبر. كان لابد وظلال القمع العسكري ماثلة في فترة اكتوبر الانتقالية ان تنحو الحكومة نحو خيار السلم فدعت إلى مؤتمر المائدة المستديرة الذي يعتبر حلقة هامة في معالجة هذه المشكلة فقد اعادت قدراً من الثقة خاصة بعد مشاركة ساسة جنوبيين كانوا يتخذون عواصم خارجية مقاراً لأحزابهم.. ولكن المرونة الشمالية لم تقابل من الجنوبيين بردود فعل مستحقة فلم يحقق المؤتمر غاياته المرجوة رغم ما اشاعه من اجواء ايجابية وما حقق من تقدم في الطرح و خرج المؤتمر بتوصية بالحكم الاقليمي. لم تجد المشكلة حلا في الديمقراطية الثالثة وانحصرت المسألة في كر وفر تقليديين بين جيش حكومي نظامي وحركة تمرد تتبع اسلوب حرب العصابات استمر الحال كذلك حتى وقع انقلاب مايو ولم يمر اسبوعان على الانقلاب حتى اذاع الرئيس نميري بيان 9 يونيو الذي اعلن فيه ان الثورة تطرح الحكم الذاتي الاقليمي لحل مشكلة الجنوب وجد مشروع القرار ترحيبا ثم دعما اقليميا ودوليا بعد فشل انقلاب الشيوعيين في يوليو 1971م، فكان الحكم الذاتي هو اساس اتفاقية السلام التي وقعت مع حركة التمرد في اديس ابابا في مارس 1972م. كانت مرحلة جديدة ومفصلية فقد نال الجنوبيون حقا طالما سعوا اليه ولكن الممارسة كشفت ان الحل ليس في الاطار الاداري وحده وهو شكل تملؤه الجدية والكفاءة ولكن وبعد زوال ذريعة تسلط الشماليين لم يظهر القادة الجنوبيون ما يثبت جديتهم في ادارة شأن شعب الجنوب وتعويضه ما فاته من اسباب الاستقرار والرفاه.. وظهرت القبلية بصورة قبيحة حيث تزايدت سطوة الدينكا الشئ الذي قاد الى تقسيم الاقليم الى ثلاثة اقاليم ورغم ان القرار استند الى شكاوى جنوبية الا ان طبقة الجنوبيين المثقفة التي استمرأت تحميل الشمال اي وزر في الجنوب حملت نميري (خطيئة) التقسيم واعتبرته مبررا للتمرد الذي حدث فيما بعد عام 1983م. محطتان في مسيرة معالجة قضية الجنوب لم تجدا النقاش الكافي والدراسة الموضوعية.. المائدة المستديرة، والحكم الذاتي الاقليمي.. وذلك لأن الجنوبيين الطرف الاصيل في القضية غير مهيئين لنقاش موضوع قد يصل النقاش فيه الى تحميلهم قدرا كبيرا من المسؤولية كما تقول مقدمات المسألة. في مؤتمر المائدة المستديرة جاءت القيادات الجنوبية لتنال من الشمال تعويضات ضخمة عن خطأ عدم الوفاء بعهد الفيدرالية وعن القمع الذي مارسه الحكم العسكري ولذلك لم ينظر إلى الاطروحات الموضوعية التي قدمتها احزاب الشمال ولما قرر السياسي البارز وليم دينق البقاء في السودان والانخراط في العملية السياسية أصبح كالمنبوذ في اعين أقري جادين وجوزيف اودهو والاب ساترنينو وغوردون مورتات وغيرهم. أما الحكم الذاتي الاقليمي فانه تجربة حكم خالصة للجنوبيين لهم انجازها ان انجزوا وعليهم اخفاقها ومع ذلك يتعامى المثقف الجنوبي عن سوء الادارة في تلك الفترة وعن الخلافات القبلية العاصفة مركزين على تقسيم الجنوب الذي لن يكون وحده السبب في فشل التجربة ولو سلمنا بخطأ القرار. هاتان المحطتان تمثلان نقلة في التعامل مع المسألة الجنوبية اذ تأرجح البندول الشمالي في هذا المجال بين التحقير والتدليل وقد كان التدليل لا يقل خطراً عن التحقير عند تناول مسألة الجنوب.