أجاز مجلس الحاكم العام توصيات مؤتمر إدارة السودان في اجتماعه بتاريخ 19 يوليو 1947 وأطلع المجلس على مذكرة من السكرتير الإداري سير جيمس روبرتسون قال فيها : إن الجنوب ينبغي أن يدار كجزء لا يتجزأ من السودان وأن تقوم الجمعية المقترحة بالتشريع لكل القطر إلا أن المذكرة طالبت بضمانات لحماية الهوية الاجتماعية والثقافية لجنوب السودان ضد النسل وسوء الإدارة من قبل حكومة مكونة بصفة رئيسية من شماليين ، وبدون هذه الضمانات توقع سير جيمس أن يتحول الجنوب إلى مجتمع من الخدم للأرستقراطية الشمالية وأقترح كضمان للجنوب أن يحتفظ الحاكم العام بسلطة إيقاف تطبيق أي تشريع أو أمر إداري إذا رأيى أن تطبيقه سيحدث ضرراً للجنوب وذلك حتى يتسنى لمجالس المديريات مناقشة التشريع أو الأمر الإداري ، وقد قبل مجلس الحاكم العام هذا الاقتراح ، ولكن عند صدور قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية في سنة 1948 لم يشتمل القانون على أي ضمانات خاصة للجنوب وأعتبر الدكتور محمد عمر بشير في كتابه عن جنوب السودان هو (المصدر في هذا البحث ) : أن إنشاء جمعية تشريعية لكل السودان تضم في عضويتها ثلاثة عشر عضواً جنوبياً يمثل بداية الوحدة السياسية بين الشمال والجنوب وصارت خطراً يهدد مستقبل هذه الوحدة في كل زمان . في عام 1949 اتخذت الجمعية التشريعية قراراً بأن تصبح اللغة العربية لغة البلاد وأجازت الجمعية الخطة التي وضعها الأستاذ الجليل عبد الرحمن علي طه لتوحيد التعليم في المديريات الشمالية والجنوبية ، وتحسين وتوسيع التعليم في المديريات الجنوبية وفتح التبشير للراغبين من المسلمين في نشر الدين الإسلامي في المديريات الجنوبية ، وفي أي مكان في أقاليم السودان دون الحاجة لترخيص ، وقد كان موقف نواب الجنوب في الجمعية التشريعية إيجابياً في إجازة هذه الخطة والموافقة على كل ما من شأنه أن يدعم وحدة البلاد إلا أن المخاوف والشكوك داخل الجمعية التشريعية كانت تجدد كل ما أثير موضوع الحكم الذاتي وتقرير المصير فيرفع نواب الجنوب كرت ا لضمانات . في 23 يوليو 1952 استولى الجيش المصري على السلطة في مصر ، وانتهجت حكومة الثورة المصرية برئاسة اللواء محمد نجيب السوداني المولد والانتماء أسلوبا جديداً لمعالجة مسألة السودان . فدعت القاهرة وفوداً تمثل الأحزاب السياسية الشمالية للتباحث حول مصير السودان وقد ارتكبت حكومة الثورة في القاهرة خطأ فادحاً في تقديرنا بعدم تقديم الدعوة للأخوة أبناء الجنوب للمشاركة مع أحزاب الشمال يمثل وجهة النظر الجنوبية خاصة وان أساس المباحثات هو مشروع قانون الحكم الذاتي الذي أقرته الجمعية التشريعية ورفعته حكومة السودان إلى مصر وبريطانيا ، وقد انتهت المباحثات بتوقيع اتفاقيات على أساس مشروع قانون الحكم الذاتي والتعديلات التي اقترحتها الحكومة المصرية وبهذا اعترفت حكومة الثورة المصرية بحق الشعب السوداني في الحكم الذاتي وتقرير المصير إما بالاستقلال التام وأما بالارتباط مع مصر ، وقد أصيب الإخوة الجنوبيون بخيبة أمل نتيجة لعدم دعوتهم للمشاركة في اتفاقيات القاهرة ولعدم الأخذ برأيهم . وزاد من خيبة أملهم ما هو أهم من هذه الأسباب وهو أن الضمانات التي نصت عليها المادة (100) من مشروع قانون الحكم الذاتي التي وافق عليها ممثلو الجنوب في الجمعية التشريعية وقد حذفت المادة في القاهرة نسبة لغياب ممثلي الجنوب ، وتجسدت ردة الفعل الجنوبية في البيان الذي أصدره تشكيل جديد سمى نفسه لجنة جوبا السياسية وقد اعترض بيان لجنة جوبا بتأهيل الجنوب للدخول بحرية في وحدة تامة مع الشمال وطالب البيان بأن تبقى في الجنوب لتطويره نفس الخدمة المدنية التي طورت الشمال (الخدمة المدنية البريطانية ) فانتهى البيان إلى أن الجنوب لا يمكن أن ينضم إلى الشمال في سودان واحد إلا إذا أصبح الجنوب في مستوى الشمال فقد بدأت الفجوة في عدم الثقة بين الشمال والجنوب وزادت اتساعاً عندما ارتكبت لجنة السودنة المكونة بمقتضى اتفاقية 1953 الخطأ الثالث في حق الجنوبيين فتعاملت مع السودانيين بالمعايير التقليدية ولم تفطن للمعيار السياسي الذي كانت ظروف الجنوب تحتم تطبيقه إذا كانت النتيجة أن كل المناصب الإدارية الرفيعة في الخدمة المدنية في الجيش والبوليس استحوذت عليها الصفوة الشمالية ولذلك قال أبناء الجنوب إن ما حدث لم يكن (سودنة) وإنما ( شملنة ) وأستبدل سيد بسيد ، فبدأت بوادر التذمر ، والسخط تظهر بين الجنوبيين وخاصة بين أفراد الفرقة الاستوائية في توريت ، وفي سبيل احتواء الموقف ومنع الانفجار رأت حكومة السيد إسماعيل الأزهري أن تنقل الفرقة الاستوائية إلى الخرطوم بحجة الاشتراك في احتفالات الجلاء وأن تحل محلها ( الفرقة الاستوائية ) فرقة من الشمال ، إلا أن أفراد الفرقة الاستوائية تمردوا في 18 أغسطس 1955 ووقعت الأحداث الدامية التي رافقتها المذابح المعروفة لأبناء الشمال المتواجدين في الجنوب ، وقد أثار هذا التمرد الاهتمام بأوضاع الجنوب وخلق جواً من التعاطي السياسي بين الشمال والجنوب مما أدى إلى موافقة أحزاب الشمال على قيام اتحاد فيدرالي بين الشمال والجنوب داخل السودان الموحد بحدوده الحالية مقابل تأييد ممثلي الجنوب في البرلمان إعلان الاستقلال . بعد الاستقلال لم تحاول الأحزاب الشمالية أن ترى ما إذا كان الحكم الفيدرالي الذي يطالب به الجنوبيون سيوفر الحلول المطلوبة لتجاوز هذه المشكلة بل ولم يجد هذا الطرح مجالاً للبحث والدراسة والتنصل بعد الاستقلال والفترات التي أعقبته ولا أطمس حقيقة إن قلت حتى يومنا هذا وإنما أظهر حقيقة إن قلت إن القوى السياسية الشمالية انصب اهتمامها في تعيين أصوات نواب الجنوب لاستثمارها في لعبة المزايدات السياسية بينما اهتمت القوى السياسية الجنوبية بالحقائب الوزارية والإدارية ، فبدأت فجوة عدم الثقة تتحول إلى هوة خاصة بعد أن رفضت لجنة الدستور في ديسمبر 1957أن توصي لمنح الجنوب حكماً فيدرالياً واتسعت الهوة بعد الخلاف الذي نشب في الجمعية التأسيسية في 16 يونيو 1958 بين نواب الجنوب ونواب الشمال حول تفسير القرار الذي اتخذه مجلس النواب في 19 ديسمبر 1955 بشأن منح الجنوب حكماً فيدراليا ، ولهذا اعتبر الجنوبيون موقف أحزاب الشمال ومطلب الحكم الفيدرالي غدراً وخيانة لأن موافقتهم على الحفاظ على وحدة السودان وإعلان السودان الواحد من داخل البرلمان كانت مشروطة بمنح المديريات الجنوبية حكماً فيدرالياً ، وقد فسر المحللون موقف الشمال في هذا الشرط على أساس أن القوى السياسية الشمالية اعتبرت الحكم الفيدرالي للجنوب ما هو إلا خطة مرحلية تهدف إلى تعمير الجنوب على نفقة الشمال ليكون معداً في المستقبل للانفصال عن الشمال ، وذزاد انقلاب الفريق إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958 الوضع تعقيداً وقرعت طبول الحرب واعتبرت فلول الفرقة الاستوائية التي تمركزت في الدول الإفريقية المجاورة للسودان أن موقف الشمال من مشكلة ا لجنوب موقف انتهازي ويشكل هزيمة للصفوة السياسية الجنوبية فدعت إلى مواصلة الكفاح المسلح الذي بدأته الفرقة الاستوائية في عام 1955 لتحقيق أهداف أبناء الجنوب وتفجرت العمليات العسكرية المسلحة ولم تتوقف الا في فترات متباعده مابين إتفاقيه أديس أبابا ونيفاشا2005. لم تحاول القوى السياسية بعد الاستقلال أن تنظر إلى مشكلة الجنوب بصورة جادة مبنية على العلم الواقع المعاش وظروف العصر لترى ما إذا كان الحكم الفيدرالي الذي يطالب به أبناء الجنوب والذي هو جزء من مخططات الإدارة البريطانية عندما وافقت على منح الجنوب للشمال وفق ضمانات للجنوب إن كان هذا المطلب يوفر الحلول الجذرية لتجاوز هذه المشكلة ، ولم تجد هذه المشكلة حيزاً يوازي حجمها من الحوار والنقاش السياسي والبحث الموضوعي ، بل لم تحفل بوضع الخطط المدروسة لتعمير الجنوب وتدريب وتأهيل أبناء الجنوب لاستيعابهم في المناصب الإدارية تصحيحاً لأخطاء السودنة وبنفس القدر فإن القوة السياسية الجنوبية كانت تلجأ إلى لغة التمرد والسلاح أكثر من لغة الحوار والمنطق واتخاذ موقف موحد حول مشكلة الجنوب . إن الذاتية السودانية متمثلة في شعار( السودان للسودانيين ) إنما هي عنصر جذب أساسي للسودانيين وعنصر توحد لتركيبة السودان بدلاً من التوجه السياسي اتجاه الشمال ، هذا الشعار لم يكن عنصراً انعزالياً أو عدائياً ضد وحدة وادي النيل أو ضد أية وحدة عربية بل عنصر توحد داخل السودان الواحد باعتباره قوة تستطيع أن توازن ما بين نزوع الاتحاديين نحو الشمال بالتحديد نحو مصر وما بين نزوع أبناء الجنوب وبالتحديد النزوع الجنوبي الأفريقي .. فشعار الاتحاديين في الوحدة أو الاتحاد مع مصر يعني التفكك وتشتت التركيبة السودانية والإخلال بالتوازن الذاتي للسودانيين ، وكذلك النزوع الجنوبي فيما يسمى بالأفريقية هو أيضاً يعني تفكك التركيبة السودانية والإخلال بالتوازن الذاتي للسودانيين ، ولذا فإن شعار السودان للسودانيين كان هو الشعار المنطقي والموضوعي والنزعة الوطنية الأصيلة لتحقيق الذاتية السودانية الواحدة والتي تمتد جذورها من حلفا إلى نملي الى الشرق البيجاوي والغرب والجنوب الأفريقي ، وهو شعار ينبع من هذا المزيج عرب ، زنوج ، نوبة .. خليط من الألسن واللهجات والسحنات .. تجمعه حدود مشتركة مع تسع دول عربية وأفريقية ، أرض المليون ميل مربع فالاستقطاب الإقليمي والسياسي الحاد الذي ظهر في الساحة السياسية وبأشكال مختلفة منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا قد أدى إلى حسابات معقدة ومفاهيم مغلوطة أحدثت شرخاً دامياً في جنوب السودان الذي ألقى بظلاله القاتمة على مستقبل السودان ووحدته ونهضته . لقد ظللنا نكتفى بالسرد التاريخي وخاصة فيما يتعلق بما يسمى بمشكلة الجنوب وكثيراً ما خلص من هذا السرد إلى الاستعمار والإدارة البريطانية وإلى ما عمقته هذه الإدارة البريطانية في نفوسنا من اختلافات عرقية ودينية وجغرافية بين الشمال والجنوب وإلى ما فرضته هذه المقولة الاستعمارية من مطالبة بإعطاء الجنوب ضمانات وحقوق اختلفنا في تفسيرها وفهمها وأعتبرها البعض في اجتماعات الكواليس محلولة بإشراك بعض قيادات الأحزاب الجنوبية وبعض الشخصيات المتعلمة والمثقفة من أبناء الجنوب وهؤلاء وغيرهم كانت إغراءات الحكم والحقائب الوزارية والإدارية أقوى من أن يقاوموها ولذا كثيراً ما يحدث الشرخ داخل هذه الأحزاب الجنوبية التي غالباًً ما يكون تكوينها مبنياً على التركيبة القبلية ويسعى كل حزب على انفراد لتحقيق مطامع قيادته في الوصول إلى السلطة والوزارة حتى ولو كان هذا على حساب المجموعة . وقد قال قرنق عن هذه الأحزاب الجنوبية :- إن هذه الأحزاب وقيادتها لا تمثل القواعد ولا تعبر عن تطلعاتها بل هي أحزاب خرطومية تتناحر باسم الضعفاء والمقهورين في جنوب السودان وإلا أن الغريب حقاً أن قرنق التقى بقيادات هذه الأحزاب التي لا تمثل القواعد ولا تعبر عن تطلعاتها في يوغندا بقيادة البابا جيمس سرور رئيس حزب الشعب التقدمي وهذا يعني أن هذه الأحزاب الجنوبيةالخرطومية وحركة قرنق كلاهما لا يمثلان القواعد ولا يعبران عن تطلعاتها حسب منطق قرنق ، والأغرب من ذلك أن رئيس المجموعة الإفريقية فيلب عباس غبوش لم يدعَ لهذا الاجتماع وفي هذا إشارة واضحة إلى أن لقاء يوغندا كان بمثابة لقاء صلح بين هذه الأحزاب الخرطومية وبين حركة قرنق . إن هذا الذي نعتبره في اجتماعات الكواليس حلول لمشكلة السودان إنما هو اعتبار شاذ ومغلوط. انعكست المزايدات والإغراءات التي لازمته إلى تعميق مشكلة الجنوب ، فكثير من القوى السياسية والأوساط المثقفة لم تفرق بين مفهوم القومية والقبليات الإقليمية في مجتمع متخلف وغير قادر على توفير مستلزمات الحياة الضرورية وغير متدامج حتى في إطار القومية المزعومة الواحدة . باحث وناشط سياسي