لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية من فصل واحد. الفصل الثاني لم يكتب بعد: وهل سيكتب؟!
نشر في الصحافة يوم 14 - 07 - 2011


المشهد الأول
كان الجنرال (أوفقير) قائد الجيش والشخص الأول المقرب إلى جلالة ملك المغرب محمد الخامس والد الملك الحالي. وقد قاده طموحه - ويقال طموح زوجته - إلى ان يطمع في قيادة الدولة كلها ويصبح رئيساً للجمهورية. وكان من عادة الملك ان يسافر إلى الخارج مستشفياً كل عام فوضع الجنرال أوفقير خطة في أن يضرب طائرة الملك وهو عائد في وسط البحر الأبيض المتوسط بصواريخ من الطائرتين اللتين تحرسان كالعادة طائرة الملك عند دخولها المياه الاقليمية المغربية ثم يعلن استيلاءه على السلطة. وعند وداعه للملك وهو يغادر المملكة بكى الجنرال بكاءً حاراً جعل الملك والحضور يشفقون عليه. وفسروا (دموعه وهم لا يعرفون) انها دموع الحزن من أن يصيب جلالته بمكروه. أما هو وزوجته ومن يعرفون اطمأنوا انها دموع الفرح لنجاح الخطة.
المشهد الثاني
في بعض مناطق كردفان يوجد في القرية أو بطن من القبيلة من يعرف بانه (صبي) الحلة أو القبيلة. والصبي يقصد به شاب ممتليء صحة وطولاً وعرضاً وله لسان (سليط) ومنطق حاد. يقوم نيابة عن أهله بدور رأس الحربة. وفي المجالس والمواقف يتحدث بالفاظ حامية ويلوح بعكازه أمام الخصوم في مجالس الصلح بطريقة تلهب الجو وتزيد من التوتر. أما في حالات (الجودية) فانه يرفع من سقف المطالب ومن صوته لدرجة تكاد تفسد الجلسات. أهله يعرفون عنه ذلك ومتفقون معه تماماً في كل ما يقول ويفعل. بل انهم يكونون سعداء في دواخلهم لأنه يقول ويفعل ما يستحون هم من قوله أو فعله علناً فينوب عنهم في ذلك برجولة وصمود وحتى تكون الخطة محبوكة تماماً يقوم أحدهم أو كبيرهم من وقت لآخر بزجره وتوجيه كلمات - كلما كانت قاسية - تأكد للصبي انه أدى دوره وباتقان. ثم يعود مرة أخرى لما نهى عنه بل انه يشتط أكثر فيوجه سهماً أو سهمين نحو أحد الحضور من أهله حتى يبدو انه (صبي) طائش ولا يعبر عن رأيهم في حين انه قد أوصل رسالتهم كاملة إلى الحضور.
المشهد الثالث
اذا كان (صبي) الحلة أو القبيلة ينتمي إلى شيخ الحلة أو زعيم القبيلة بالقربى فان الحضور يهمهم سراً بان الولد (خال).
المشهد الرابع
قليلة هي التنظيمات الايدولوجية التي نسج أهدافها مفكرون ونجحوا في تحقيق تلك الاهداف خلال سنوات حياتهم. وغالباً، تكون التنظيمات التي أفلحوا في اقناع أعداد من الناس بأهدافها يتجاوزها الواقع ولا تسعفهم الحياة البشرية القصيرة بحضور تطبيقها. أفلاطون لم يعش ليرى جمهوريته بل انها لم تتحقق على الاطلاق. كارل ماركس أفلح مريدوه بتحويل افكاره بعد عقود من الزمن بعد وفاته إلى واقع حوروا فيه الكثير من نظريته ومع ذلك لم تصمد حتى الان إلا في أرض الفلاحين - الصين - وكوبا - وانهارت في المجتمعات العمالية التي استهدفتها. المفكرون الاسلاميون في باكستان وفي مصر وفي شمال افريقيا لم يصلوا لمرحلة الدولة. ولم يسعف العمر أغلبهم - ان لم يكن كلهم - برؤية بصيص من أمل في ذلك. ويعيش اليوم اتباعهم على ذلك الأمل. واقرب مثال حسن البنا.
في السودان التقط المفكرون الاسلاميون يتقدمهم - بمسافة - دكتور حسن عبد الله الترابي نواة من مصر وباكستان وزرعوها ورعوها وزادوا عليها من تراب الواقع السوداني حتى نمت وسمقت بعيداً عن التبعية الفكرية أو التنظيمية لدى تنظيم خارجي. وضعوا هدفهم اقامة دولة تحكم بالشريعة الاسلامية وفقاً لتفسيرهم لها تشمل كل السودان واذا وقف جزء من السودن أمام ذلك فليذهب ذلك الجزء أو فلينفصل.
كانت البداية هادئة في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965 عقب ثورة اكتوبر 1964. في ذلك الوقت كان من ينادي بالفدريشن لجنوب السودان كمن ينادي بفصله اذ كان الشعار المرفوع (لا حكم فدرالي لدولة واحدة - لا فصل لجزء من وطن واحد) واذا صحت الترجمة فقد كان القول:
NO FEDERATION FOR ONE NATION - NO SEPERATION FOR ONE NATION هذا بالرغم من ان البرلمان الذي اعلن الاستقلال وافق على اعطاء اعتبار كاف لمطلب الجنوب في الفدريشن. ولكن النظام السياسي كله في الشمال وبعض اجزاء من الجنوب خلال الفترة من 1/1/1956م بداية الاستقلال وعلى مدى عشر سنوات حتى 1965 لم يكن الفدريشن ضمن قاموسه السياسي.
ونعود لمؤتمر المائدة المستديرة اذ فاجأت جبهة الميثاق الاسلامي الجميع بأن نادت بأن يعطي الجنوب حق تقرير المصير - أي الفدريشن في ذلك الوقت وليس أبعد منه بالسبريشن - وانفض مؤتمر المائدة المستديرة ولم توافق الاحزاب الشمالية على حق تقرير المصير أو الفدريشن باعتباره فصلاً للجنوب في رأيهم.
المشهد الخامس
ثم غاب التعبير عن المسرح السياسي ولم يشمله الدستور الاسلامي الذي كان برلمان 1969 على وشك اصداره لولا قيام ثورة 25 مايو 1969. وبعد أقل من شهر واحد من قيام الثورة أصدرت اعلان 9 يونيو باعطاء الجنوب (الحكم الذاتي) وقد تحاشى الاعلان كلمة (فدرالي) حتى لا يغري أو يعين على الانفصال وهكذا سار الأمر حتى اتفاقية أديس أبابا عام 1972 وسقوط ثورة مايو في ابريل 1985 وقيام الحكم الديموقراطي خلال أعوام 1986 إلى 30 يونيو 1989.
المشهد السادس
ساعد الرئيس جعفر نميري جبهة الميثاق الاسلامي من حيث لا يقصد بأن اعلن قوانين سبتمبر أو قوانين الشريعة التي لولا الرئيس نميري - كما اعترفت قيادة تلك الجبهة لما تجرأت هي على اصدارها، وباستلامها السلطة بانقلاب ثورة 30 يونيو 1989 تحققت لها أرضية لحكم السودان كله بتلك القوانين والتي لم يطبقها الرئيس نميري في الجنوب. ولكن الجنوب كان قد حمل السلاح في ابريل/مايو 1983 أي (قبل) اعلان القوانين في سبتمبر 1983 وليس بعد القوانين كرد فعل لها وهو خطأ وقع فيه عدد من المؤرخين والسياسيين وبعضهم عن قصد لتبرير أسباب الحرب.. وهذا موضوع آخر انتهى الآن. ثم أرسل الرئيس نميري - عليه الرحمة - وفداً وزارياً إلى المملكة المتحدة ليشرح للبرلمانيين البريطانيين وللسودانيين بالخارج خاصة الجنوبيين ان هذه القوانين لم يقصد بها الجنوبيون ولم ولن تطبق في الجنوب. وأثار العديد من الحضور انها وان لم تطبق الآن على الجنوب فان مصيرها بعد ان تهدأ المعارضة لها في الشمال ان تزحف إلى الجنوب. وهنا تدخل أحد الوزراء وعضو الوفد والقيادي في الجبهة القومية الاسلامية وقال اذا وقف الجنوب حجر عثرة أمام تطبيق الشريعة في السودان فلينفصل الجنوب. كانت الصدمة كبيرة على رئيس الوفد الراحل سر الختم الخليفة رحمة الله وكاد أن يعيد عضو الوفد إلى السودان. نفس الكلام ذكره زعيم الجبهة القومية الاسلامية بعد ان أصبحت تسمى الحركة الاسلامية ورددته وسائل الاعلام. فالأمر إذن - ومنذ الفدريشن في ثوب حق تقرير المصير في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965 وحتى وصول الجبهة إلى الحكم عام 1989 سياسة مقررة للحركة الاسلامية كما أصبحت تسمى: على الأقل كهدف استراتيجي لدى القيادات - وان كان بعض التابعين بحسن نية من أعضائها أو غيرهم من السائرين في تيار (تطبيق الشريعة) غير واعين لذلك ولا يزالون يجهلون ان فصل الجنوب من أهدافهم الاستراتيجية اذا لم يخضع ويقبل حكم الشريعة.
المشهد السابع
عندما وقع الانقلاب في 30 يونيو 1989 كان جزء كبير من الجنوب في قبضة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان ولم يكن لحكومة الخرطوم وجود آمن إلا في المدن الكبرى بالجنوب. بل ان البعض كان يخشى ان يزحف الجيش الشعبي نحو كوستي بعد ان دخل مدينة الكرمك مما يهدد الوجود في الحكم. فكانت فرصة للاستنفار في اتجاهين حماية الحكم بالتعبئة الدينية واعلان الجهاد والشهادة - واتجاه آخر لبناء جيش مواز للجيش القومي تحت اسم الدفاع الشعبي استأثر على الجيش القومي بكل الميزات من سلاح وعتاد ولبس وغذاء مع افتقار للتدريب الأمر الذي أربك خطط القوة النظامية وألحق بها هزائم انهكتها وتسببت في تسريح أو موت قيادات مدربة ومقتدرة الأمر الذي أفسح المجال حتى الآن للدفاع الشعبي ليكون القوة الأولى ذات التسليح والعتاد لحماية الحكم. وقد فقدت البلاد بسبب نقص التدريب والتخطيط العسكري السليم شباباً مهما قيل في وصفه شهيداً أو فطيساً دفن في أرض الجنوب فاستراح وأراح الحاكمين لأنه وبتلك الشحنة الدينية والحماس الطاغي اذا عاد منتصراً سيكون خطراً على الحكم واذا عاد منهزماً سيكون أخطر كما نصح بذلك رافسنجاني عند زيارته للسودان.
وسواء استدرجت الحركة الشعبية الحركة الاسلامية أو العكس إلى تبني شعار (تقرير المصير) لجنوب السودان فقد وقع الدكتور علي الحاج نائب الامين العام للحركة الاسلامية مع الدكتور لام أكول في انشقاقه الاول عن الحركة الشعبية وثيقة حق تقرير المصير لجنوب السودان في فرانكفورت عام 1993. ولعل الوثيقة قد فاجأت د. جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان وقائد الجيش الشعبي لتحرير السودان وكانت بعد قليل ثمناً دسماً لعودة دكتور لام أكول إلى صدارة قيادة الحركة الشعبية.
- في ذلك الوقت كانت الحركة الشعبية في حلف سياسي مع كل احزاب الشمال عدا اتحاد قوى التحالف بقيادة الرئيس السابق نميري. ولا شك انه قد هالها ان حزباً في السلطة بل الحزب الوحيد الذي في السلطة يعطي مثل هذا الحق لعدوه ولا يعترفون هم به. فكان ميثاق أسمرة لعام 1995 الذي وقعته الاحزاب الشمالية معترفة بحق تقرير المصير لجنوب السودان في سذاجة سياسية لن يغفرها التاريخ.
- وهكذا وجدت الحركة الاسلامية من حيث لا يشعر الجميع انها قد ضمنت اجماع الاحزاب الشمالية على انفصال الجنوب اذا لم يقبل تطبيق الشريعة الاسلامية. ثم انكشف للجميع (اذ يندر ان يظل هناك سر طويلاً في السودان) ان الحركة الاسلامية قامت بما يمكن أن يفسر بانها (اشترت) حق تقرير المصير من الدكتور لام أكول. بل ان الهمس قد حدد الرقم والعملة التي دفع بها ثمن تقرير المصير. لم يكن كبيراً وما كان يستحق كل هذه التضحيات والابتلاءات والدمار والخراب اذ لا يساوي قيمة بضعة مركبات أو شاحنات. وبدون سلاح كمان.
المشهد الثامن
كانت ميشاكوس ونيفاشا برداً وسلاماً. أبعدت كل القوى بخلاف الحركتين: الاسلامية والشعبية عن طاولة المفاوضات. ووضع أسس التفاوض فيها ورعاها بالاقناع والترغيب والترهيب الاعداء الذين طالما جفت الحناجر بالهتاف ضدهم وامتلأت الصدور بالبغضاء نحوهم فكانوا هم الانقاذ للانقاذ. ومع ان السلام كلمة حق أريد بها حق إلا انها كانت الفرصة لكي يوضع البناء المتين لانفصال الجنوب على اساس يغري بل يقنع أغبى الناس بالاستعداد لاستقلال الجنوب بعد ست سنوات، نعم. قالت الاتفاقية:
- أنتم منذ اليوم تحكمون الجنوب منفردين بدون وزراء شماليين معكم.
- وتشاركون في حكم الشمال بنائب أول ووزراء ونواب ومستشارين وهلم جرا.
- والمشاركة ليست فقط في المركز بل في الولايات بنفس المناصب التشريعية والتنفيذية.
- ولكم نسبة في السلك الدبلوماسي والخدمة المدنية، وبنك مركزي به نائب محافظ مقره جوبا.
- واحتفظوا بجيشكم كاملاً ويمكنكم العمل على تسليحه.
- ولا تنسوا العلم - احتفظوا به فسوف يجئ يوم رفعه.
- واحتفظوا كذلك بمكاتب التمثيل الخاصة بكم في عواصم العالم.
- واستقبلوا القناصل ومكاتب التمثيل من الدول الاجنبية.
- أما البترول الذي تم اكتشافه في أرض الجنوب ستحصلون على 50% منه وليس على النسبة العالمية المعروفة وهي 10% في أي اقليم يكتشف فيه البترول أو أي ثروة تحت الارض - وتكون هذه النسبة أي الخمسين في المائة طوال فترة الانتقال المحددة بست سنوات.
- اما بعد تلك الفترة فسيحصل استفتاء: فاذا قررتم البقاء في السودان الموحد سيظل شمال السودان يحصل على 50% من بترولكم أما اذا قررتم الانفصال فسوف تحصلون على بترولكم كاملاً غير منقوص.
- وأخيراً سوف نعمل في الشمال على ان نهيئ لكم (وحدة جاذبة) وعندئذ تتخلون عن كل ذلك وتعودون إلى الوطن الحنون. يا سلام.
المشهد التاسع
كيف عملت الحركة الاسلامية على جعل الوحدة جاذبة خلال فترة الست سنوات بجانب ما قدمته في المشهد الثامن:
- بداية وبعد ان اقنعت الحركة الشعبية بأن تتولى هي وزارة المالية رفضت ان تتولى الحركة الشعبية وزارة النفط وظل التجاذب اسابيع ثمينة من عمر الفترة الانتقالية وتردد الشعار (لا بديل لعوض الجاز إلا عوض الجاز) وبعد ان أدى التجاذب والخلاف أغراضه في زيادة عدم الثقة اتضح انه هناك ليس بديل واحد بل بديلان لعوض الجاز - وبعد ان كادت الفترة الانتقالية ان تلفظ انفاسها تنازلت الحركة الاسلامية عن وزارة النفط لوزير من الحركة الشعبية هو دكتور لوال دينق. بعد ايه.
- تولت الحركة الشعبية وزارة الخارجية ولكن تم تعيين وزيرها السابق مستشاراً لرئيس الجمهورية وظل يقوم بأعمال من صميم اختصاصات وزارة الخارجية للدرجة التي جعلت الوزير (يحرد) حتى نسى البعض ان دينق ألور وزير للخارجية.
- وكان من المتوقع تبادل الوزارات الامنية فمن يتولى حقيبة وزارة الداخلية يجعل الامن من اختصاص الآخر. ولكن ومن اجل تعميق (الثقة) تولى المؤتمر الوطني الحقيبتين وسمح لمندوب من الحركة ان يكون - بالاسم - نائباً لرئيس جهاز الامن بجانب نائب فعلي من المؤتمر الوطني تولى فيما بعد رئاسة الجهاز.
- قانون جهاز الأمن واختصاصات الجهاز والتي عرفتها وفصلتها اتفاقية نيفاشا اصبحت محل جدل أراح الانفصال الناس عنه.
- ترسيم الحدود والذي اذا خلصت نوايا الوحدة الجاذبة كان من الممكن والمفروض ان يبدأ مباشرة عام 2005 ولكنه تأخر لكي يكون أكثر جاذبية إلى عام 2010 ولم يستكمل إلى ان تم الاستفتاء والحدود مرسومة ان لم تكن في دار الوثائق بالخرطوم ففي أكثر من عاصمة في العالم.
- ولا يخفى الجدل والمماحكات التي تخللت الفترة من ان الاستفتاء لابد ان يؤجل حتى تعرف الحدود - والخلافات التي وصلت المجلس الوطني مما دفع نواب الحركة لمقاطعة الجلسات أو (الاضراب) والتصريحات التي أطلقها رئيس المجلس بالاستمرار وفق الاغلبية الميكانيكية التي حددتها اتفاقية نيفاشا.
- وجاءت المماحكات التي يعلم المؤتمر الوطني انها لا تؤدي إلا إلى المزيد من التنفير من الوحدة حول لجنة الاستفتاء وتكوينها وتمويلها ثم بعد ان يلتهب الجو والمشاعر يتم الاتفاق بعد ان يؤدي دوره في الوحدة (الجاذبة).
- وهناك الكثير الذي تمتلئ به صفحات الجرايد وطيات الأثير من الجانبين يتبعه صمت حتى انتهاء الاستفتاء من راعي الاتفاقية وموقعها والذي من المفروض ان يكون هو والسيد مشار نائب رئيس حكومة الجنوب عضوي لجنة دائمة تتابع التنفيذ وتزلل العقبات وتوقف التصريحات السالبة من الجانبين ولكن لم يكن هناك حضور منتظم كامل إلا عند الوصول إلى الحافة كأنما قضية الوحدة والانفصال ليست الاسبقية الوطنية الأولى ولا تحل مشاكلها إلا عندما تصل كل مرة إلى الحافة.
- وبمناسبة الوصول إلى الحافة علق أحد منظري الانقاذ وهو الاستاذ عثمان ميرغني رداً على احدى قنوات التلفزيون العربية بأن سياسة الوصول إلى الحافة ثم التوصل إلى الحلول طريقة مجربة في التعامل مع الحركة الشعبية اذ ان الطرفين في النهاية يتحاشيان انهيار الحوار ويتفقان. لكن يبدو انه في المرحلة الاخيرة ان الحافة قد انهارت لصالح الحركة الشعبية.
المشهد العاشر
- توقعات بأن تنحاز لحركة الشعبية لخيار الانفصال. معقولة؟ يعني يمشوا وين. لا تسمعوا لما يمنيكم به الامريكان. ولا حتى القذافي. الخلافات القبلية. الخدمة المدنية. البنى التحتية. الاصابع الاسرائيلية. الحركة لم تتحول حتى الآن إلى حزب. سيطرة الجيش الشعبي على السياسة. وجود الجنوبيين في الشمال كأجانب. اعفاؤهم من الوظائف. ايقاف مرتبات الموظفين بل والنواب والدستوريين حال النتيجة السالبة للاستفتاء. والكثير الكثير من التراشق من باقان اموم أمين عام الحركة والرد عليه من البروفيسور ابراهيم غندور والدكتور محمد مندور المهدي.
- الجنوبيون عموماً يؤمنون بأن تكون العلاقة بينهم وبين الشماليين مبنية على (الندية) وإلا اعتبروا غير ذلك دليلا على عدم الاحترام المتبادل وعلى التهميش. لذلك كانت التصريحات والتصريحات المضادة تعميقاً للخلاف ليس بسبب محتواها فحسب وانما بسبب ان من يطلق التصريح أو يتولى الرد من جانب المؤتمر الوطني رغم تأهيله هو أقل في (البروتوكول) من السيد الامين العام للحركة. يعني حقارة. أين مهندس الاتفاقية علي عثمان بل أين الرئيس نفسه وهل هناك أكبر من وحدة السودان هماً يشغله.
المشهد الحادي عشر
- تم الاعلان عن لجنة قومية لدعم الوحدة يرأسها السيد رئيس الجمهورية وشملت من شملت من الكبار والمسؤولين. لم يسمع أحد عن نشاطها ولا أين تجتمع - اذا كانت قد اجتمعت - كما انها لم تقم بزيارة واحدة لمكان المشكلة وهو الجنوب.
- القيادات السياسية من المؤتمر الوطني ومن المعارضة (احزب الاجماع الوطني - أو ملتقى جوبا) لم تباشر أي نشاط داعم للوحدة في الجنوب. بل اكتفت بتصريحات وتحذيرات لصحف الخرطوم.
- ندوة وحيدة كانت ستقام في جوبا دعيت لها قيادات من المؤتمر الوطني ومن الحكومة اعتذر عنها بعض المشاركين ولم يعتذر آخرون رغم وعدهم بالحضور - وغاب نفر آخر. وفشلت.
- القيادة السياسية الوحيدة التي نشرت الصحف خبر قيامها بندوة في بحر الغزال لدعم الوحدة هي الاستاذ محمد ابراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي.
- توقفت حركة قيادات المؤتمر الوطني والمعارضة داخل حدود الشمال وظلت تتراشق وترمي باللوم يميناً ويساراً في الوقت الذي نشطت فيه الادارة والدولة الامريكية في ارسال المبعوثين وايصال الرسائل للحكومة بان يتم الاستفتاء بشفافية وبدون عنف. وتتكررت الرسائل والرسل للدرجة التي جعلت البعض يعتقد انه كانت هناك نوايا عنف وعدم شفافية. ثم استقر الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر وسكن في الجنوب مراقباً لمسار التصويت ومنتظراً (الانفصال) بلهفة شاركه فيها كل زملائه من الادارة والدولة الامريكية الذين وفدوا هناك بتصرفات وتصريحات هي في ذاتها تدخل ضد الشفافية. ولكن من يجرؤ.
- منظمات المجتمع المدني السودانية لاحظت خروقات وتجاوزات لم يستمع إليها أحد في لجنة الاستفتاء ولا وسط زملائها من المراقبين الاجانب - وسكتت الحكومة كأنما الأمر جاء على هواها.
المشهد قبل الأخير
- عودة للمشهد الأول. والاستفتاء يدخل أسبوعه الاول وتشير الدلائل إلى فوز كاسح للانفصال بكت بعض قيادات المؤتمر الوطني. بكاء الجنرال اوفقير وهو يشاهد نجاح هدفه الاستراتيجي الذي ظل يعمل له عقوداً من الزمان.
- وفجأة أفاق الجميع على لعنة التاريخ والاجيال القادمة قبل الحالية وعلى الدماء التي سالت والاشلاء التي تقطعت وقام من اجلها مصنع للاطراف البشرية وعلى الارواح التي استشهدت فأطلقنا الاسماء على الشوارع ثم المراكز ثم الميادين والساحات.
- ثم احتفل (صبي) المشهد الثاني بالانتصار لما ظل ينادي به نيابة على الجماعة والقبيلة والاسرة منذ توقيع نيفاشا. نحر الذبيحة - وزع الحلوى - قاد المواكب. شيوخ القبيلة وزعيمها فرحون رغم ما يبدون كالعادة من عدم اتفاقهم معه طيلة خمس أو ست سنوات من الدعوة للانفصال. لم يزجره أحد وأنى لهم. واستمر واستمر والبهجة في الدواخل وكان هو الوحيد الشجاع - كالعادة - في التعبير عن رأيهم الذي ظلوا يخفونه علناً عقوداً ويعملون له سراً عقوداً. وبمرور أيام قليلة وحتى قبل اعلان النتيجة كانوا أكثر من عاديين يمارسون كل صنوف الحياة والحكم دون اهتمام واضح بنتائج ما اقترفت استراتيجيتهم في حق وطن اعطاهم كل شيء.
- وفي المشهد الثالث لم يجرؤ أحد ليقول الولد خال. فقد كان الأمر أوضح على ان تنطق به الشفاه.
المشهد الأخير
- اقرأ المشهد الرابع - والمشهد السادس
- وسواء اتفقت أو اختلفت مع الحركة الاسلامية السودانية لابد ان تعترف انها نجحت - بتفوق - في تحديد اهدافها والعمل من أجلها سواء بطريقة اخلاقيات السياسة أو ضدها وسواء باقناع احزاب سياسية عريقة وشخصيات كبيرة ومؤثرة أو باستغفالها.. نجحت في الوصول إلى هدفها الاستراتيجي وهو حكم السودان الشمالي بالشريعة الاسلامية وفق رؤيتها وعلى التخلص بطريقة سلسة وشفافة من ذلك الجزء الذي لم يقبل بحكم الشريعة وبتوافق تام بل وبارتياح واعجاب من المجتمع غير الاسلامي بل وغير المسيحي كالصين. وتركوا العالمين العربي والاسلامي في ذهول لم يعلق أحد أو يهنئ.
- المجتمع الافريقي والذي استبدل اسمه من منظمة الوحدة الافريقية إلى الاتحاد الافريقي والذي (كان) ضد الانفصال والحفاظ على (وحدة وكيان) الدول الافريقية بالحدود التي ورثتها من الاستعمار بارك الانفصال الذي بارك قبله كل قيادات السودان تحت شعار تقرير المصير الذي تبنته الحركة الاسلامية السودانية ووقعته في وثيقة مع الحركة الشعبية الجنوبية وتسارعت الاحزاب السودانية الشمالية بالموافقة عليه سواء بوعي انه سيقود بعد خمسة عشر عاماً لانفصال الجنوب أو بدون وعي استباقاً لشعار تفقدهم فيه الحركة الاسلامية علاقة (استراتيجية) مع الحركة الشعبية. تهانينا للجميع: فالذين بكوا بصدق وحرقة هم الجنوبيون في الشمال. وقد صوتوا للوحدة. في منزل الزعيم اسماعيل الازهري لم ينكس علم السودان حتى في يوم وفاته، نكس يوم اغتيلت وحدة السودان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.