(1) إلى وقت قريب كان (خلدون) حين يرن هاتفه المحمول يعتدل مزاجه وتبرز وجنتاه، يدور برأسه في كل الجهات، يمعن النظر في عيون الآخرين مستعرضا علاقاته الاجتماعية الواسعة، وأن هاتفه لا يكف عن الأنين، وإذا لم يرد سيتوقف دولاب الحياة متسمرا في مكانه. (2) يحمل بيد واثقة الجهاز، يقرب الشاشة من عينيه حتى يكاد يلصقها بها، يرسم فوق معالمه طيف ابتسامة ممزوجة بامتعاض مصطنع، يهز رأسه جهة اليمين وجهة اليسار، مستمتعا برنينه الذي يلفت انتباه ركاب الحافلة. (3) ترتسم في عيون الآخرين علامات الفضول، ويعتقد البعض في دواخلهم بأهمية المتصل عليه، وأن النغمة الصادرة من فم الموبايل تشير بما لا يدع مجالا للشك بأن حاملها شخصية مرتاحة ومتابعة لآخر ما انتجه العقل الغربي من تكنولوجيا. (4) وقبل أن يلفظ الجهاز آخر نغماته ويكف عن الارسال، يلصق (خلدون) ثقب الموبايل في أذنه اليمنى، لا سيما أن راكبا آخر من ركاب الحافلة شرع في التحدث عبر جهازه وفق نغمة تفوق نغماته في التطريب. (5) يتنحنح بصوت رخيم كأنه مستيقظ للتو من نوم عميق، يرد على الطرف الآخر باستعلاء، وفجأة وبصوت عال صاخب يعلن عن غضبه، وبأن الجميع لا يعمل وفق رؤيته للأشياء. (6) يختم حديثه ويزج هاتفه في جيبه الأمامي، بينما يرتد بقية الركاب إلى الخلف ويرمقونه بعيون متسائلة ومبهورة، ليشرعوا بعدها سرا في التخمينات، يطبطبون على أجهزتهم علّها تطلق صياحها في هذا التوقيت الجماعي. (7) تمر الشهور وتتراكم السنين، ويصبح الموبايل شيئا عاديا، لا يلفت نظر أحدهم، لا أحد يندهش لموسيقى متفردة، ولا تثير الفضول أنواع الأجهزة المتقدمة تكنولوجيا، وتدريجيا صار الهاتف المحمول هماً أكثر مما هو نعمةً. (8) بعد ثمان سنوات ها هو (خلدون) راكبا في ذات الحافلة وفي ذات المقعد، يتململ ولا يثبت على حال، وفجأة يقفز كالملدوغ عندما يسمع رنين هاتفه، يسارع بيد واجفة لكتم أنفاسه وهو ينزوي في بطن الكرسي حياءً وخوفا من شيء مجهول. (9) أنين الهاتف يلاحقه مرات ومرات، وفي المرة الأخيرة ضغط بأصبع مرتبك وهو يتصبب عرقا وقرر أن يجيب، بدأ بصوت منخفض وسرعان ما صار متوترا ومرتفعا حالما توسطت الحافلة كبري الفتيحاب. (10) الركاب يعلنون عن تأففهم وغضبهم لهذا الازعاج، حاول أن يختصر المكالمة، لكنه صرخ دون أن يشعر في الجانب الآخر بأنه الآن في مدينة ود مدني ولا يستطيع أن يحضر في الحال. وما أن أكمل جملته الأخيرة حتى صرخ فيه الركاب بصوت واحد .. اتق الله يا رجل أنك في قلب الجسر .. جسر الفتيحاب.