إذا ما نظرنا لمشكلة جنوب السودان في تاريخها البعيد وما جرى فيها من تطورات واحداث فلا شك اننا سنجد اتصالاً وثيقاً وارتباطاً عضوياً قوياً بما يحدث اليوم.هي سلسلة درامية متكاملة تراكم فيها سوء الاداء السياسي وتراجعت فيها القراءة السياسية الناضجة على حساب التطلعات الشخصية والمصالح الحزبية وطموحات السلطة الزائلة.ويحق لنا ان نتساءل من المسئول عن تعريض وحدة السودان للخطر ؟ لقد استعرضنا في مقالات سابقة ولاكثر من مرة المنعطفات الحادة والاخفاقات والاشراقات التي مرت بها أزمة الجنوب،بدءً من مؤتمر جوبا في 1947،اندلاع التمرد الاول في 55 ،قيام مؤتمر المائدة المستديرة في 65 والذي انبثقت منه لجنة الإثنى عشر ..اتفاقية اديس ابابا 72 ،تقسيم الجنوب الى ثلاثة اقاليم والذي قصم ظهر تلك الاتفاقية مما أعاد انتاج الأزمة بنسخة جديدة من التمرد مطلع الثمانينيات... اتفاقات الاحزاب المؤتلفة في الديمقراطية الثالثة مع الحركة ومن بينها كوكادام واتفاق الميرغني قرنق..واخيرا اتفاق السلام الشامل(اتفاق نيفاشا). معظم هذه المحطات في تقديري تمثل اعراضاً للمرض أو الأزمة وهي تشكل سلسلة محاولات لتسكين الألم ولكنها اغفلت جوهر المشكلة..والذي تمثل في تراكم انعدام الثقة بين طرفي النزاع وغض النظر عن رؤية استراتيجية في التعامل مع الأزمة،والوصول إلى الحل الناجع الذي يحول دون تجددها مرة اخرى. لاجدال ان النخب السياسية في الشمال والجنوب معاً كان لها دور كبير في هذا الاخفاق الذي حاق بالوطن ، فقد كانت تفكر تحت مواقع اقدامها وتتعامل مع القضية او الازمة كعنصر ضغط لتصفية الحسابات والابتزاز السياسي في عملية الصراع السياسي الذي لم يتوقف يوماً واحداً منذ ان نال السودان استقلاله في العام 1956، اذ ظلت تلك النخب تعمل على توظيف الازمة في سعيها اللاهث نحو كراسي الحكم . ودعونا نورد بعض الامثلة والمحطات التي تؤكد ما ذهبنا اليه : في أول برلمان سوداني والذي جاء بعد الانتخابات الاولى في 53 قبل الاستقلال ...في ذلك البرلمان كان ابناء الجنوب يتطلعون الى تفهم عادل من أول سلطة تشريعية وطنية لقضية الجنوب،وظلوا يعلقون الآمال ان تفي السلطة الوطنية الوليدة بآمالهم في ان ينال الجنوب وضعاً اعتبارياً خاصاً بحسبان تخلفه النسبي في مجال التنمية والخدمات عن بقية اقاليم الوطن.كان وقتها سقف تطلعات النخب الجنوبية معقولاً ومقبولاً ويتقاصر حتى عن الحكم الذاتي الفدرالي ناهيك عن حق تقرير المصير.كانت تلك النخب الجنوبية تظن ان هذا التفهم المطلوب يشكل مطلباً عادلاً ومقبولاً مقابل تأييدهم لوحدة السودان في مؤتمر جوبا 47، إلا ان آمالهم ذرتها رياح الصراع السياسي حول السلطة وكانت تلك اول ظاهرة في انعدام الثقة بين نخب الشمال ونخب الجنوب،ومما زاد الأمر سوءً هو ان الجنوبيين لم يكونوا جادين في كل الانظمة التي شاركوا فيها اذ كانوا يفضلون مصالحهم الشخصية على مصالح مواطنيهم ،وقد شهد الذين عاصروا تلك الفترة كيف كان نواب الجنوب يتحولون من حزب لآخر،وكان هذا خطأ كبيراً من الجانبين الشاري والمشتري!ثم ان مشاركتهم في الانظمة الشمولية يكفي ما قاله لاحقاً قائد التمرد جوزيف لاقو عندما تم تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية بأن التربيزة التي يجلس عليها في القصر بمكتبه في القصر الجمهوري لم تكن عليها في أي يوم من الايام أوراق مهمة او غير مهمة. المحطة الثانية من هذا الاخفاق كانت عقب ثورة اكتوبر 64 التي اطاحت بست سنوات من الحكم العسكري الذي اعتمد الحل العسكري دون سواه في معالجة الازمة.ومما يحسب ايجابياً في رصيد الشارع السياسي الوطني في الشمال - وليس النخب- ان الثورة على حكام 17 نوفمبر جاءت بسبب هذه المعالجة الخاطئة لقضية الجنوب الى جانب انعدام الحريات ، وهو امر يؤكد ان وحدة الوطن ووحدة ترابه كانت تحتل حيزاً مقدرا في الوجدان السياسي للشعب السوداني،ولكن النخب السياسية تناست هذا المطلب الاساسي الذي فجر الثورة في اكتوبر 64 وظلت تعتمد فيما بعد ذات النهج العسكري الذي يسير عليه النظام السابق.صحيح ان مؤتمر المائدة المستديرة (1965) كان يمثل اول بادرة ايجابية للتفهم العقلاني لأزمة الجنوب إلا ان المؤتمر تمخض جبله فلم يلد حتى فأراً صغيراً اذ كانت تسيطر عليه قوى اليسار التي علا صوتها في ذاك الزمن،داعية لافكار يصعب القبول بها بصورة مباشرة..كان الناس ينتظرون منها ان تدفع بافكارها التي تدعو الى انصاف قضية الجنوب وتطلعات اهله،إلا ان جميع القوى السياسية اليسارية منها والمحافظة لم تستطع ان تتجاوز تراثها السياسي الذي يحرص على بقاء الوضع كما هو..هكذا مات مؤتمر المائدة المستديرة وماتت من بعده لجنة الإثنى عشر التي انبثقت منه وراح صوت البنادق يعلو في الجنوب من الطرفين ويعلو معه في ذات الوقت سقف التطلعات السياسية لدى نخب الجنوب. ونقطة مهمة اخرى في هذه المرحلة لا يجب تجاوزها،اذ حدث صراع معقد ودقيق حول الحكم،ليس بين الحكومة والمعارضة وإنما بين الاحزاب نفسها التي كانت تتولى الحكم فكانت ازمة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان،ثم انقسام حزب الأمة الشهير وتصاعد الخلافات بين جانبيه مما اضعف الحكومة القائمة آنذاك بين الحزب الوطني الاتحادي وجانب من حزب الامة.في هذه الظروف بدأت المعارضة تشدد الخناق على الحكومة بالسعي المتواصل من جانبها لاستقطاب نواب البرلمان خاصة الجنوبيين منهم ولم تجد الحكومة بداً من حل الجمعية التأسيسية والتي كان مناطاً بها كتابة الدستور الدائم للبلاد.عقب ذلك اجرت الحكومة انتخابات جديدة فاز فيها باغلبية كبيرة الحزب الاتحادي الديمقراطي والذي تشكل باندماج جناحي الاتحاديين اللذين انشقا عقب الاستقلال وهما الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي بينما حزب الامة بجناحيه المنقسمين (جناح الإمام وجناح الصادق) تضاءلت حصته فى البرلمان. في هذه الاجواء شكلت الحكومة لجنة الدستور كجزء من مطلوبات المرحلة الانتقالية آنذاك فشهد المجتمع السوداني ونخبه السياسية انقساماً غير مسبوق حول الدستورالمرتقب بين انصار الدستور الاسلامي وبين المنادين بحق المواطنة كشرط اساسي ووحيد للحقوق والواجبات في دولة ديمقراطية.ورغم كثرة انصار الفئة الاولى(انصار الدستور الاسلامي)إلا أن الفئة الثانية كانت الاعلى صوتاً . تبدل الحال وأصبح دعاة الدستور الاسلامى هم الأكثر صخباً وتهيجاً للشارع باستثارة التوجه الديني فاصبحوا مركز الثقل الغالب في هذا النزاع وراحوا يستقطبون الدعم لمشروعهم الدستورى من الطرق الصوفية التي ينضوي فيها معظم اهل شمال السودان.أُسقط الامر في يد القوى السياسية التقليدية فلم تجد طريقاً سوى الانجراف في موجة الدستور الاسلامي خصوصاً وان نفوذها الشعبي كان في معظمه يستند على الطوائف الدينية والطرق الصوفية. وفي لجة هذا الصراع لم يلتفت احد الى نظرة الجنوببين حول ما يجري في البلاد إذ اصبح الشارع العام يموج بحملة المصاحف على الاكف والمناداة باسلامية الدستور وتطبيق الشريعة الاسلامية بينما النخب المستنيرة من ابناء الجنوب تنظر الى الوضع بقدر كبير من الريبة والتوجس حول مستقبلهم في هذه الدولة الدينية القادمة. المحطة الثالثة التي يتوجب الوقوف عندها هي اجهاض اتفاق اديس ابابا(1972) والذي يعد من ابرز انجازات النظام المايوي ، رغم اخفاقات ذاك النظام العديدة والمتمثلة في تغييب الحريات ومصادرة الديمقراطية وتكريس نظام الفرد الشمولي واستنساخ تجربة (الاتحاد الاشتراكي) من وراء الحدود وهي تجربة كانت بعيدة تماماً عن الواقع السياسي السوداني.في هذه المحطة تبرز جلياً مسئولية النخب الجنوبية حينما زين بعضها من القبائل الاستوائية للرئيس الراحل نميري تقسيم الاقليم الى ثلاثة اقاليم بسبب تململهم مما اسموه ب(سيطرة وسطوة القبائل النيلية وعلى رأسها الدينكا) على مقاليد السلطة التنفيذية للاقليم الجنوبي.هكذا انهد المعبد على رؤوس الجميع (نيليين واستوائيين) وتقوض اتفاق السلام الذي اراح البلاد لقرابة العشر سنوات من القتال الدامي.وبلغت ذروة الاحتقان السياسي في تلك الفترة المايوية عندما نضبت من قائد النظام كل تاتيكات التحالفات المرحلية التي بدأها بالشيوعيين ثم القوميين العرب ثم المصالحة الوطنية وما سبقها من تحول درامي من مناصرة الشرق واليسار الى الولاء لانظمة الغرب..كل هذه التحولات لم تشفع لنظامه بالاستقرار السياسي فراحت النقابات تؤرق مضاجع النظام بالاضرابات المطلبية المتصلة، عندها قرر قائد النظام ان يوظف تلك الاشواق الاسلامية الكامنة فى وجدان الشعب السوداني لاطالة عمر نظامه،فأعلن عقب اضراب القضاة الشهير قوانين سبتمبر التي أثارت جدلاً كبيراً في الشمال والجنوب معاً ودفعت تلك القوانين الجنوبيين الى المناداة بالعلمانية أو المضي على درب التمرد والإنفصال أكثر من أي وقت مضى،اذ اسهمت هذه القوانين اسهاما فاعلا في زيادة جذوة التمرد على السلطة وسط النخب الجنوبية واخذوا يصرحون علنا بان لا مستقبل لهم في ظل هذه القوانين الدينية والطريقة التي نفذت بها حيث احدثت ضجيجاً في العالم كله اذ واعتبرت بانها لا انسانية حيث استنكرها المسلمون قبل غيرهم وفي هذا الوضع المأزوم وجدت الدوائر الاجنبية المتربصة بالسودان فرصتها في العمل على زيادة شكوك الجنوبيين بالنسبة للشماليين وكان ان شهد العالم ضجة عالمية مستنكرة العمل بتلك القوانين والتي قيل انها صدرت بغرض زيادة معاناة اهل الجنوب من سكان السودان. ومما يؤكد نهج النخب الشمالية في التعامل مع ازمة الجنوب كورقة ضغط وابتزاز سياسي يتم توظيفه في صراع السلطة ...ففي المصالحة الوطنية التي ابرمتها بعض القوى السياسية الشمالية مع النظام المايوي لم تتم الاشارة لا من قريب او بعيد لازمة الجنوب ولم يتم ادراجها في بنود المصالحة الحافلة باعادة الممتلكات ووضع تصور لنظام الحكم..وكأن تلك الازمة في جنوب الوطن كانت امراً ثانوياً لا يتطلب حتى عناء الالتفات اليه ناهيك عن تضمينه في اطار المصالحة. وفي محطة اخرى من ذلك المسلسل الدرامي على مسرح اللامعقول السوداني في شأن الجنوب والملئ بالاخفاقات نصل الى سقوط النظام المايوي في ابريل 85 حين اعقبه النظام الديمقراطي الثالث.هذه المحطة كتبنا عنها كثيرا في مقالات سابقة ويمكننا ان نوجز القول فيها بانها كانت مثل سابقتها في الحقبة التي تلت ثورة اكتوبر،اذ افلست النخب التي تسيدت المسرح السياسي يومها في المضئ بشجاعة نحو ابتكار حل جذري للازمة وراحت تواصل ذات النهج العسكري كحل وحيد ومعتمد لمقاربة الازمة،ولكن الجديد هذه المرة كان انقلاب ميزان القوى على الصعيد العسكري لصالح حركة التمرد اذ راحت مدن الجنوب تتساقط كقطع (الشطرنج) واحدة بعد الاخرى حتى باتت قوات التمرد على مشارف الشمال،وظلت الغيرة والكيد السياسي هو سيد الموقف فلقاء كوكادام الذي توصل فيه حزب الامة الى خطوط اتفاق عريضة مع قوى التمرد قاطعه الحزب الاتحادي،وبالمقابل فان اتفاق الميرغني - قرنق رفضه رئيس الوزراء الصادق المهدي وقبله اخيرا ولكن (بتوضيحاته) تحت ضغط مذكرة الجيش.كل هذا والنخب الجنوبية ممثلة في قيادات الحركة الشعبية تمارس اللعب(بمزاج)على حبال التناقض بين شركاء الحكم في الخرطوم ! ومن الغريب والمؤسف انه عندما سقط النظام الديمقراطي الثالث مع مجئ الانقاذ في يونيو89،وعندما حزمت تلك النخب الحاكمة حقائبها الى خارج الحدود وراحت تمارس معارضة النظام الجديد بالمال السياسى والعتاد والاعلام فانها لم تتحرج في ان تضع يدها مع قوى التمرد والتوافق معها.اي انها عجزت وهي في السلطة في ادارة حوار معها لإيجاد حل لأزمة الجنوب بينما استطابت الوصل مع الحركة الشعبية وهي في مقاعد المعارضة ! لا يمكن ان نصف هذا المسلك إلا بقصر النظر السياسي وتوظيف الازمة لصالح التطلعات الشخصية والحزبية نحو كراسي الحكم.هكذا مضت النخب السياسية الحزبية في الشمال في توثيق تحالفها مع قادة التمرد وهو تعاون كانت فيه يد الحركة الشعبية هي العليا بينما توارت تلك القوى الشمالية خلف بنادق الحركة وجيشها وهي تأمل بسذاجة ان تعيدها تلك البنادق المتمردة الى القصر الجمهوري مرة اخرى.ان هذا التحالف والذي اختلت فيه الموازين هو الذي رفع سقف تطلعات قادة الجنوب الى السماء واصبحوا لا يرضون بديلاً عن تقرير المصير المفضي نحو الانفصال،ونذكر هنا القصة المتداولة حينما دخل الراحل جون قرنق على اجتماعات مؤتمر القضايا المصيرية باسمرا ووجه قوله للسيد الميرغني رئيس التجمع والمجتمعين من بقية القوى السياسية يخيرهم فيه ما بين العمل على الاطاحة بنظام الانقاذ وقيام حكومة ديمقراطية او التسليم بحق تقرير المصير للجنوب.ولما كانت تلك النخب الشمالية في التجمع الوطني لا تملك ارادة القتال وعتاده لاقتلاع النظام في الخرطوم فانها اختارت الطريق السهل والمتاح لها وهو التسليم بحق تقرير المصير،دون ادنى تبصر بعلو السقف الذي يهدد وحدة الوطن ووحدة شعبه وترابه. ان هذا الارتباك وغياب القراءة المستقبلية الواعية من قبل النخب السياسية في الشمال يقودني الى واقعة لا اجد حرجاً في ذكرها خلال هذا السياق ...ليس انتقاصاً من قدر احد ولكنها تؤكد وتعضض هذا الارتباك الذي يحكم الاداء السياسي في بلادنا. خلال سنوات الانقاذ الماضية وكانت مسألة تقرير المصير تشكل هاجساً للجميع اتصل بي الاخ مصطفى عثمان اسماعيل وكان يشغل منصب وزير الخارجية وقتئذٍ طالباً مني أن انقل للسيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي وقائد التجمع وقتها رسالة على لسان الرئيس البشير مفادها رغبة الانقاذ في التلاقي السياسي معه للتنسيق بين الجانبين فيما يتعلق بتقرير المصير لجنوب السودان معبراً عن استعداده للتحالف معه او حتى اندماج الحزبين .وحينها اتصلت بالاخ فتحي شيلا وكان يومها من اقرب المقربين للسيد الميرغني في مقر اقامته بالقاهرة وطلبت منه نقل الرسالة بحذافيرها الى مولانا.بعدها اتصل بى الأخ فتحي لينقل لي مباركة السيد الميرغني وموافقته على تلك المبادرة ونقلت الرد الى الاخ مصطفى عثمان اسماعيل وانا على قناعة تامة انني أؤدي واجباً وطنياً قد يخرج البلاد من مناخ الاحتقان السائد يومها.بعد ذلك قام الاخ مصطفى بنقل الرد الايجابي على الرسالة الى السيد رئيس الجمهورية وتصادف ان كان حاضراً في تلك الجلسة السيد صلاح ادريس الرمز الرياضي المعروف والمقرب من السيد الميرغني.بادر الاخ صلاح الى نفي الامر جملةً وتفصيلاً بالوكالة عن السيد الميرغني ، ولتأكيد هذا النفي بادر بالاتصال بالميرغني عبر تلفونه الجوال والذي نفى بدوره علمه بتلك المبادرة ناهيك عن موافقته عليها!!هذه القصة وان جاءت ظاهرياً خارج سياق ما نحن بصدده في هذا المقال إلا انها تنسجم مع اجواء الارتباك السياسي الذي يسود المسرح السياسي منذ ذاك الوقت والى يومنا هذا. وبالعودة الى مسئولية النخب السياسية في الشمال والجنوب معاً في التعامي عن جوهر ازمة الجنوب والانغماس في تحالفات وتاكتيكات مرحلية لا تخدم القضية بقدر ما تخدم المصالح والتطلعات ، فلا شك ان التحالف المضطرب الاخير بين الحركة الشعبية والنخب السياسية في الشمال والذي انتج جسماً اسماه اصحابه(قوى الاجماع الوطني) ..هذا التحالف يجسد نموذجاً حياً لمسيرة الاخفاق السياسي ويعيد انتاج تحالف الريب والشك السياسي والتربص الذي ساد اجواء مؤتمر القضايا المصيرية باسمرا،فالحركة والقوى السياسية في الشمال ما زال كل طرف فيها يضمر النوايا لتوظيف الآخر في صراعه مع السلطة المركزية في الخرطوم.الحركة تريد توظيف نخب الشمال السياسية في المضي نحو هدفها المرسوم وهو الانفصال بينما قوى الشمال السياسية تريد توظيف زخم الحركة السياسي وعلاقتها الدولية في الوثوب الى السلطة المركزية بينما تتوارى قضية وحدة البلاد في الادراج المغلقة لدى الطرفين معاً. نموذج آخر يقفز الى الذهن ونحن بصدد هذا الاخفاق الذي اكتنف الاداء السياسي القاصر،فالدكتور حسن الترابي العراب الاساسي لنظام الانقاذ في سنواته الاولى والرجل الذي ساهم بقدر وافر في اضفاء البعد الجهادي الديني للحرب في الجنوب، والذي ساق بفكره وتنظيره المئات والآلاف من الشباب اليافع الغض الى احراش الجنوب وهم يمنون النفس بالاستشهاد المقدس..ما لبث الرجل بعد خروجه من الانقاذ يمشي ب(الاستيكة)على كل تنظيراته السابقة ويرمي بها على قارعة الطريق كما النفايات،ويستدير مائة وثمانين درجة وهو يعضد تحالفه ويبسط يده نحو من كان يفوج الشباب الغض لقتالهم ويزين لهم الجنان الوارفة والحور العين عند استشهادهم . هكذا راح الدكتور يمضي من النقيض الى النقيض بعد ان تسربت السلطة من بين يديه وغربت شمسها في تطلعاته..وهو أمر يتفق تماماً مع النهج الذي انتهجه رصفاؤه في التجمع الوطني أيام المعارضة. إننا نأمل من كافة القوى السياسية والنخب الفاعلة في الشمال والجنوب معاً ان تعيد النظر في هذا السلوك المدمر الذي اتسم به أداؤها السياسي ..أداء جعل من كبرى ازمات الوطن مجرد وسيلة وورقة باهتة في سعيها المحموم نحو السلطة ..أداء جعل من وحدة الوطن وقوداً يستخدم فقط في اضرام النيران والاحتراب على كراسي الحكم. ظلت ازمة الجنوب مثل حائط المبكى في مواسم المعارضة ثم تُركل وتصبح من سقط المتاع السياسي في مواسم السلطة والحكم. إننا نأمل ان تتعافى القوى السياسية من هذا السلوك الضار بالوطن حتى نستعيد آمالنا الوطنية فى أن يبقى هذا الوطن الجميل واحداً موحداً وإلا سنظل جميعاً سواء في نخب الشمال او الجنوب نحمل وزر هذا الاخفاق المزمن والذي نتج عنه دخول الوطن ووحدة اراضيه في مأزق عصيب ومعقد أضحت معه الوحدة بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى. ولكي نتفادى الانزلاق في متاهات الانفصال لابد من ادارة حوار وطني هدفه الوصول الى صيغة يتراضى عليها اهل السودان جميعهم من منطلق المواطنة المنصوص عليها في اتفاقية السلام الشامل التي تساوي بين الناس اجمعين حيث لا تميز بين مواطن وآخر لأي سبب من الأسباب.