٭ حفل الاسبوع الاخير قبل شهر رمضان المعظم بتصريحات عديدة من قيادات بارزة في حزب السلطة «المؤتمر الوطني» تؤشر الى ملامح المرحلة التي يتم تدشينها تحت لافتة «الجمهورية الثانية». وأهم ما يلفت النظر في هذه التصريحات أنها صادرة عن قمة الحزب، وبالتالي يمكن اعتبارها عنواناً للسياسة الرسمية للحكومة في مرحلة ما بعد فصل الجنوب وتقسيم البلد الى دولتين غير متواددتين. فقد اشتركت قيادات عديدة داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم في التعبير عن ملامح المرحلة المقبلة بهذه الطريقة أو تلك، ولكن الاكثر إثارة للانتباه هو ما صدر عن الزبير بشير طه والي الجزيرة ومصطفى عثمان اسماعيل في الندوة التي نظمها الاتحاد العام للطلاب السودانيين بود مدني بمناسبة انتهاء برنامج العمل الصيفي للاتحاد. وقبل هؤلاء خطاب علي عثمان محمد طه أمام بعض المواطنين في منطقة الهلالية بالجزيرة. ومن ضمن ما نسبته الصحف للزبير بشير طه قوله في تلك الندوة، إنهم سيضربون بالذخيرة الحية كل من يتمرد على الدولة، وأن أى شخص يتمرد سوف يحرقونه، ولا يأتي أحد ليحدثهم عن حقوق الانسان وجرائم الحرب. وقال إن الخروج على النظام «نظام الانقاذ طبعاً» كفر وحرب لله ورسوله، معتبراً ان النظام والدستور الحالي لا يمكن تغييره باعتباره العقد المتراضي عليه بين السواد الأعظم، وهدد المطالبين بتغيير الدستور بأن «يرعوا بقيدهم» الاهرام اليوم 1/8/1102- العدد «285» وهى نفس لغة الخطاب الذي عبّر عنه علي عثمان في الهلالية بقوله أن من «يتطاول؟!» على المنهج والشعب والرئيس عمر البشير سيواجه بالقطع بالسيف، وأن برنامج الحكومة في عهد «الجمهورية الثانية» سيقوم على أحكام مستمدة من الشريعة الإسلامية وأحكامها، قائلاً: نريد إقامة الشريعة في أنفسنا ونستهدي بنور القرآن، دون أن يغفل الحديث عن أن انفصال الجنوب لن ينقصنا، بل سنكون اكثر قوة وإرادة لبناء البلاد، وأيضاً قوله: سنعمل على توحيد الصف. أخبار اليوم- الرأى العام- الصحافة بتاريخ 13/7/1102م. ومصطفى عثمان اسماعيل من جانبه ذكر في الندوة المشار اليها أن الجمهورية الثانية تعني «المزيد؟!» من الاستقرار والتنمية والوفاق الوطني. وأن حزبه يقود حوارات مع القوى السياسية لتشكيل حكومة عريضة تسع الكل، وتعهد بكفالة الحريات وتنظيم ممارستها بجانب اعتماده «أى الحزب» لسياسة خارجية جديدة تجعل من السودان قوة يهابها الاعداء.. وزاد نقول للشباب والطلاب: نحن معكم ضد الفساد والتبعية ونرفض التدخلات الاجنبية. أما غازي سليمان الذي لا يُعرف وضعه ضمن منظومة الانقاذيين فقد كانت مساهمته في تلك الندوة أكثر إسفافاً وهبوطاً بوصفه لجنة الدستور بأنها لا تستحق «كباية كركدي» وقوله إن نظام «الانقاذ؟!» افضل نظام يمر على السودان «ولو حاولتوا تغيروه الترابه في خشمكم». هذه التصريحات مقروءة مع تصريحات أخرى من بيت جماعة الانقاذ، تشير الى تناقض واضطراب في التفكير لدى هذه الجماعة في مرحلة ما بعد فصل الجنوب، وتسليمه هدية مجانية للدوائر الصهيونية والامبريالية تجعل منه منصة انطلاق لإضعاف وتفتيت ليس ما تبقى من السودان فقط وإنما مجمل القارة الافريقية. التناقض في هذا الخطاب يتمظهر في تضارب توصيف المرحلة نفسها، ما بين قول علي عثمان إن انفصال الجنوب لن ينقصنا ومعه مصطفى اسماعيل الذي يزعم قدرتهم على إدارة الاقتصاد، وحديث الرئيس نفسه الذي كشف فيه عن وجود ضعف في الامكانيات وشح في الموارد مما يحتم على الحكومة توظيفها التوظيف الامثل وعدم الإقدام على أية خطوة إلا بعد دراستها الاهرام اليوم «نفسه». بل أن الواقع لاقتصادي والمعيشي الذي تعيشه مجمل قطاعات الشعب من غلاء طاحن وصعوبة حصول الأسر على ضروريات الحياة اليومية، ومكابدة الناس في الحصول على ماء الشرب وضنك العيش والفقر فيما عدا جماعة الحاكمين، هذا الواقع يجعل أى زعم باستقرار الاحوال وما الى ذلك، مجرد مكابرة على الحقيقة التي لا يمكن إنكارها. المظهر الآخر من مظاهر التناقض في خطاب مرحلة الجمهورية الثانية، هو الحديث عن إدارة حوارات مع القوى السياسية وعن توافق وطني وعن كفالة الحريات، في ذات الوقت الذي يصدر فيه الحديث عن القطع بالسيف، ولحس الكوع، وأرعوا بقيدكم والترابة في خشمكم، الخ الخ. هذه اللغة الاخيرة قائمة على إزدراء الآخر وعدم الاستعداد لتحمله أو التعايش معه. وهو المنهج الذي طبع جماعة الإنقاذيين منذ يومهم الاول في النظر والتعامل مع الآخر، وبالتالي وبمنطق من شبَّ على شيء شاب عليه، فهؤلاء يصعب عليهم تغيير جلدتهم بين عشية وضحاها من إقصائية حادة وسافرة في العداء والخصومة، الى رحابة صدر قادرة على اعتبار الجميع شركاء في الوطن وفي الهم الوطني. وفي معرض الحديث عن انتهاج سياسة خارجية جديدة تجعل السودان قوة ويهابها الأعداء، وعن رفض التبعية والتدخلات الاجنبية، فإن الاحداث اليومية تكذّب هذا الإدعاء، وإلا فماذا يسمي هؤلاء قبول قوات دولية قوامها «0024» جندي إثيوبي في منطقة أبيي التي لا تتجاوز مساحتها العشرين كيلومتراً مربعاً بموقعها الاستراتيجي الحساس في قلب السودان الكبير وفي خاصرة السودان المتبقي! وماذا يعني استقبال هذه القوات بالرقص الإثيوبي والراقصات نصف العاريات والزغاريد والتهاليل وكأنها قوات فاتحة؟! وماذا يعني التسليم بتمديد مجلس الأمن لمهمة قوات «اليونميد» في دارفور لعام آخر دون الرجوع للحكومة نفسها؟! فقد مدد مجلس الأمن الدولي بالإجماع مساء السبت 03/7/1102م مهمة البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الافريقي في دارفور «يونميد» لعام آخر حتى 13/7/1202م. وتضم هذه البعثة «32» ألف جندي و«4» آلاف موظف مدني- الرأى العام- 13/7/1102م- العدد «5694». وبالوقوف عند الحديث عن المنهج والشريعة، فإنه من المهم التأكيد على أن الإسلام وشريعته السمحاء شيء، والنظام السياسي القائم في السودان أو في أى مكان شيء آخر تستحيل المطابقة بينهما. فالشريعة ليست هى ما يمارسه جماعة «الإنقاذ؟!» ولا الإسلام هو ما يصدر عن هؤلاء. الاسلام وشريعته دين رباني قائم على أسس ومبادئ للناس كافة بأهداف نبيلة وشريفة لا علاقة لها بالفساد ولا بالظلم ولا بالمناورات السياسية والمراوغة ولا بنقض العهود. الإسلام يقوم على الصدق والأمانة وعفة اليد واللسان، ومخافة الله في عباده من كافة الخلق باختلاف ألوانهم وألسنتهم وقبائلهم وأجناسهم. وما ذهب اليه السيد والي ولاية الجزيرة من أن أى شخص يتمرد فسوف يحرقونه ولا يأتي أحد ليحدثهم عن حقوق الانسان وجرائم الحرب، فإنه قد فات على البروفيسور أستاذ علم النفس، أن أول المتحدثين عن حقوق الإنسان هو الإسلام نفسه الذي يراعي شعور الشاة عند ذبحها ناهيك عن الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى وميّزه عن سائر مخلوقاته. الإسلام هو دين الرحمة ودين الإنسانية، وهو يرفض انتهاك حقوق الإنسان ويرفض جرائم الحرب من قتل عشوائي واستهداف للمدنيين وتمثيل بالجثث، بل يرفض القتال نفسه إلا عند الضرورة وعند الدفاع عن النفس، فالقتال «كُره» للمؤمنين، وليس رغبة يتم التباهي بها والترويج لها. أما الحديث عن أن الخروج عن نظام «الإنقاذ؟!» كفر وحرب لله ورسوله، فوجه الغرابة أن يصدر مثل هذا الحديث من أحد علماء النفس في البلد والذي تولى إدارة مؤسسات التعليم «العالي» فيها ردحاً من الزمان، اللهم إلا اذا كان الرجل ومن معه يعيشون حالة من الاضطراب النفسي الحاد. لقد انتهت «الانقاذ؟!» بالخلق الى حالة من الضيق والشظف لم تمر عليهم من قبل، وجعلت غالب الشعب لا يجدون قوت يومهم ولا جرعة ماء في شهر رمضان، وبإقرار قادتها أنفسهم الذين يطلبون من العباد ربط الأحزمة على البطون بينما بطون السادة مربوطة بما لذا وطاب مما تشتهي الأنفس.. والحال هكذا ينطبق على أهل السودان قول ابو ذر الغفاري حين قال «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه». لم يُعتبر الصحابي الجليل وقتها خارجاً على الملة أو محرضاً على الكفر. إن محاولة المطابقة بين النظام الحاكم «أى نظام» وبين الاسلام فيه خطورة كبيرة على الأخير، لأنه في هذه الحالة سوف يكون مسؤولاً عن أخطاء الانظمة والحكام وإخفاقاتهم. وبالنظر الى تجربة الإنقاذ في السودان فإنها من أكثر التجارب التي أساءت الى الاسلام وشوهته بتصويرها له أمام العالم وللمسلمين بأنهم مجتمع عدواني لا إنساني لا يحترم حقوق الانسان ولا يحترم الآخر، ويقوم على الفساد والظلم والكراهية. فصورة الحرب في الجنوب وفي دارفور والآن في جنوب كردفان، وسيرة بيوت الاشباح، وقمع المخالفين للرأى، والفساد الذي أُنشئت له مفوضية بحالها، والفقر الذي يمشي بين الناس والفتنة الجهوية والقبلية التي أيقظوها من سباتها، كل هذا من حصاد الانقاذيين؟! وليس من الإسلام أو الشريعة في شيء. وبالتالي فالخروج على النظام هو موقف سياسي لا يمكن ربطه بالكفر أو الايمان، اللهم إلاّ في دائرة الإرهاب الفكري على شاكلة الفصل الأخير من مسرحية النظام «المايوي» الذي نصّب المخلوع نميري إماماً للمسلمين، ثم انتفض عليه الشعب وألقى به في مزبلة التاريخ. وعلى الزبير طه ومن معه ان يرأفوا بالإسلام بألا يربطوا بين حكمهم وبينه، فالبون شاسع جداً بين الاثنين. إجمالاً فإن خطاب مرحلة الجمهورية الثانية يعكس اضطراباً وارتباكاً شديدين داخل منظومة حزب السلطة، بسبب الإخفاقات الكبيرة من فصل الجنوب وإضاعة ثلث مساحة البلد الى اشتعال الحريق في جنوب كردفان، واستمرار نزيف الدم في دارفور، الى الازمة الاقتصادية الخانقة، الى الفشل في خلق توافق وطني ينقذ ما تبقى من البلد، وهذه كافية بالفعل لكيما تخلق هذه الهزة داخل الجماعة وسلطتها، اللهم لا حسد.