كيف ينزاح عن نهار ذاكرتي وجهه الضاحك باجهاد ويأس ممن سلم نفسه لمصير وخيم؟ تلك الضحكة غير الوسيمة بتاتا التي يلهث بها لم تكن شماتة في احد، كانت بالذات ضحكة حيوان رسمها وجهه قبل طقس الذبح او اثنائه او بعده، دون ان يكون قد تعمّد ذلك. ضحكة مأزق فحل افصحت عنها التقاسيم المغبونة، ليس كيفما اتفق وانما للدقة الممتنعة، تستضمر رسالة مزدوجة وجب الوقوف عليها بامعان لفك التباسها المحبوك وان لم اكن قد القيت النظر اليه طويلا كما يجب ، لأن الامر حدث سريعا من وراء زجاج نافذة حافلة كانت تعبر الجسر حيث تجثم بركة فاسدة اسفله لنهر جف بكامله ولم يبق منه إلا ما يشبه غديرا من مياه آسنة سوداء. في هذه المياه السوداء كان الكاميون البرتقالي غارقا لا يظهر منه إلا وجهه الكادح الذي يرسم تلك الضحكة الجلفاء وعلى زجاج قمرته المهشم تأخذ السلاحف حمّام شمس زنخ. هذا الوجه الصدئ المنكوب للكاميون الجرماني (بيرلي) لم يفارقني على طول فرسخ مسافة السفر الطارئ ذاك من وسط البلد الي شمالها الساحلي وخمنت اولا كيف تمت الحادثة المروعة تلك وحاول خيالي الوضيع ان يرسم لذلك سيناريوهات مستندا الى منطق الاحتمالات الممكنة وعجبا الفيتني اتساءل كيف انتزع مني الكاميون كل هذا التعاطف ولم تصدر مني اي ادنى التفاتة لما يكون قد وقع لسائقه وركابه ورسخت الضحكة المأساوية لوجهه البروليتاري وخلْتُ الضحكة موجهة لي تماما. اكان فيها ما يقول انه يطلق اشارة نجدة رغم ان حادثة الغرق تمت من زمن بعيد يحيل عليها لونه الكالح الذي تعرّض لسطو اشعة شمس مصطخبة وهذا ما يتضح من صدئه المستشري كبرص ومن اهتراء الصباغة على حواشيه؟! هل هي استغاثة من بلغ به اليأس ارذله حيث لم يتداع لاشارته كل هذا الزمن اي احد بالايجاب او العزاء؟ هل كانت ضحكة غبن من غدرت به عشيرته اي سائقه بعد كل وفاء الخدمة الشاقة وهو ما يزال في عز شبابه وألق حياته؟ كيف مرت عليه امطار الشتاء النافق حيث تعزز النهر من جديدة بمياه صاخبة ولم يغرق بالكامل؟ لماذا اصر ان يبقى وجهه مشرئبا خارج منسوب المياه الفاسدة؟ كان وجه طائر خرافي، يحدج ناظره بعين من يروم تبليغ امر خطير قبل غرقه التام، اكثر من ذلك واعمق كان وجه بهيمة غير عدوانية ربما ناقة ضخمة كانت تود افشاء سر وخيم قبل ان تتوارى ويعمدها رمل كثيب... لكم كانت الضحكة الملتبسة هذه طاعنة في الجرح، في ملح الانساني بالاحرى وان كان صاحبها كاميونا غير آدمي البتة. لنقل شاحنة تأنسنت لطول عشرتها وتألق احوالها مع الكائن البشري وصارت بتلك اللحظة الجسيمة شاحنة مفرطة في انسانيتها. هل كان في تلك الضحكة التراجيدية ما يستبطن الاعتذار لي؟ طبعا لأن ذاكرتي عابقة بالمصادفات السيئة حول سيرة الشاحنات التي دمغت وعي بسوداويتها ودمويتها، اذ مات اغلب اصدقاء طفولتي بحوادث انشطارية كان يقف وراءها كاميون بشكل من الاشكال، بدءا بطفل الجيران الذي كان ابوه سائقا لشاحنة تقلّ الحجر من مقالع الضاحية صوب ورشات البناء في المدينة، داس على ابنه هذا عن خطأ فادح وهو يركنها بمحاذاة البيت ذات ظهيرة شائنة وشاحنة العرس التي كنا نركض وراءها لنتعلق كما قرود في خلفيتها فسقط طفل من الزقاق دائما كان يجري حذوها وشاءت المصادفة اللعينة ان ترتمي رأسه تحت عجلتها الخلفية المزدوجة فبعجت جمجمته ودلقت مخه الذي لطخ وجوهنا وقمصاننا وشق علينا النوم لشهور كنا نتساءل فيها،اي مغزى ومعنى وراء موت طفل برئ بتلك الطريقة الفظيعة؟!! وغير بعيد عن الاعراس التي تتحول الى مآتم حدث ايضا وانقلبت شاحنة عرس خالتي واهلي يزفونها للعريس باتجاه مدينة جبلية وانقلبت على حافة طود شاهق ثم انحرفت وتدحرجت الى قاع سحيق ولم ينج من الحادث الكارثي الا من قفز من شباب القرية ومات اغلب اهلي بمن فيهم خالتي..!! نادرا ما كانت الطريق القاتلة بمحاذاة المدرسة الصغيرة ناشفة من برك دم لحوادث صاعقة ايضا كان وراءها شاحنات باغية ضالعة في الجرم، حتى ان يوما كنا ندرس في حجرة معلم اللغة الفرنسية وحصل ان قفزنا من كراسينا بهلع إثر صدمة عنيفة تزلزل لها الفصل واعتقدناها هزة ارضية ، كان انحراف شاحنة مارقة ردمت حجرة الدرس وتساقط الجدار على تلاميذ الكراسي الخلفية ومات نصف القسم ميتة جماعية.. دون ان انسى كيف كنا نحتشد ايام الآحاد امام طريق القرية ونرمي بخضاريفنا تحت عجلات الشاحنات الخلفية الثنائية بوهم ان الخضروف اذا ما مرت عليه عجلة شاحنة ثقيلة يصير خفيفا تماما وتكون دوراته ولفاته اثناء اللعب طويلة الامد وحدث ان القينا بها جميعا فدهست العجلة واحدة منها وتطايرت بشكل مضغوط وقوي وارتطمت بصدغ صديق يشاركني طاولة الفصل واردته جثة هامدة وهكذا دواليك من الحوادث .. ما من حديث عن الشاحنات لا يكون مشفوعا بتمثل وجوه سائقيها الاجلاف، الافظاظ. سائقون مختلون في الغالب على الاقل ممن مهروا ذاكرة طفولتي البعيدة، بتلك القرية المهملة مدمنو كحول وحشيش وقاتلو نساء وخاطفو اطفال كما روجت الامهات صورتهم الذميمة: هؤلاء اصحاب عائشة قنديشة. كن يزرعن بذكرها الفزع في ليالي الجوع الكابوسية حتى نعجّل بالنوم ولا نسأل عن لقمة عشاء..! هذا الغبش الدموي الذي يلطخ زجاج الرؤية الى الشاحنات سيتردد ضبابه الاهوج فيما بعد، فيما يشبه لعنات سوداء وان ليست بنفس الحدة وكان من غريب الصدف دائما ان تشوش على الكاميونات كما لو تفعلها نكاية بي عبر مفاصل وتواتر سنوات عشق غائر بيني وبين اميرة قبرصية، كانت كلما هاتفتني او هاتفتها- لأن جغرافيا متعسفة ومياه بحر شاسعة تحول بيننا - إلا وحشرجت شاحنة لحظتها بالقرب مني، غير بعيد عني، سواء كنتُ في الشارع او المقهى او البيت المحاذي لطريق رئيسة. هذه الزمجرة الشائهة للكاميونات اللعينة كانت تفوّت علينا رشف قهوة صوتنا بسلام وكما يجب. اي حب هذا تتربص به حشرجات الكاميونات الفظة؟ كانت تهتف ساخرة بلذوعية، القبرصية اللذيذة. سبقتني ضحكة الكاميون بيرلي الى المدينة الساحلية، لا بأس، نسيتها في شعاب الليلة الصاخبة، وأيقظتني نوارس الصباح وهي تتطهر من جنابة الليل في زبد الموج المستمني. على مقهى النزل العتيق كنت ادخن اول السجائر وفي داخلي تسطو رغبة كتابة قصيدة حول ضحكة هذا الكاميون الخرقاء والملتبسة في آن حيث طفت في مرآة حمامي وكان لابد من أن أسوس غيماتها داخل ورقة واشيعّها الى الابد.. لم اكن قد شرعت في ديباجة اول سطر عندما زاغت شاحنة (حاوية أزبال) في الزقاق وصدمت طاولتي وأهرقت قهوتي ومعها كانت انفاسي ستزهق لولا ان السائق المعتوه تدارك انفلاتها المفزع في آخر لحظة ونزل ليقدّم لي اعتذاره واسفه فاعتمرت وجهه ابتسامة موغلة في الابتهاج وطفق يعانقني بمسرة دافقة وحبور مشبوب. كان سائق شاحنة - حاوية الأزبال - هذا صديقا حميما لزمن مراهقة كهلة ولّت ، كنا نلقبه بالقبطان لأن ما من شخص (خاصة من الاساتذة) سأله عما يطمح ان يصيره في المستقبل إلا وأجاب بحماسة لائبة: ربّان سفينة...