لم يسرع روائي لكتابة التاريخ وفق رؤيته، خارجاً من مألوف التاريخ الى تاريخ خاص، إسراع الاستاذ طه جعفر، وكلما «قلبت» اوراق الرواية من اجل قراءتها رواية تسلتهم التاريخ، عاد الى بصري التاريخي «خاسئاً» وهو «حسير» «أغالط نفسي» هذا عمل روائي، شخوصه من «لحم ودم» الخيال، سقاهم الراوي من تجربته وثقافته وهدهدهم بسرده وحركهم في الأمكنة والازمنة لا يلوي على شيء سوى روح الكاتب المتوثبة، ورؤاه النيرة، اعطاهم «الامان» السردي والعطف «الكتابي» اخرجهم من ظلمات «النهاضة» الى نور حرية السرد. هزمتني هذه الرواية بالضربة السردية القاضية، وشردتني في اطراف السرد وانا المقيم على الكتابات الجميلة الواثقة من خطابها، وظللت في ذلك حتى آبت «فركة» الى أهلها، تحرسها «كجور» السرد ومكاجرة «الراوي»، وان كان شيطان تفاصيل السرد، يسهل لنا الطرق لنتتبع طرقه لا نبالي بشيء غير الوصول إلى ما يعصم من الدخول في متاهات الكتابة الروائية. «هناك مع الزاكي وعوض الكريم، تية كان مربوط القدمين بوثاق من حبل السلم ويده اليسرى مثبتة على ظهره بحبل آخر شديد الألم على جسده الذي مزقته الجروح، في غفلة من النهاضة امسك تية بطرف الحبل وربطه ولفه على عنقه كأنشوطة، وظل يسحب طرفها إلى أن انكسرت عنقه ومات». مصير «تية» روائياً، يتعارض مع ما رسمه له الروائي «رفقة تية لهن جعلتهن اكثر اطمئناناً» ولكن ما يهم الراوي «فركة» ومصيرها وموت كل الشخصيات من «تية» الى «النهاضة» يمثل السياق الكلي لمصير «فركة»، فهم لهم أدوار ثانوية يمثلونها في الفيلم لا يجب خروجهم عنها، والا اختل السياق وماتت الرواية. «استل أحد الحراس سيفه بهدوء وتبعه آخر، مضى الحارس الأول نحو الثعبان الذي استجاب بحركة حذرة من جسمه الى الامام والى الوراء بقفزة أسرع بكثير ما يتوقع اي منهما، لدغ الثعبان الحارس الاول، قبل أن يقطعه الحارس الآخر بسيفه نصفين ثم يسقط ملدوغاً، هكذا كانت على الارض الآن أربعة أجساد ميتة او في طريقها الى الموت، الثعبان والحصان والحارسان». «حارسان وحصان وثعبان» رحلوا في رحلة «السرد» الشاق حتى لا يبقى في نهاية الرواية سوى «فركة». ثم محاولة اغتصاب ل «فركة» تنتهي بقتل حارس «امر الزاكي بحفر القبر، اعترض أحد الحراس طريق الزاكي وتحرش به وسط دهشة الحراس من اولاد الغديات والفور، استل عوض الكريم سيفه وضرب الحارس بين عنقه وكتفه فسقط الحارس ميتاً». أربعة حراس وحصان وثعبان ومحاولة «اغتصاب» اولى فاشلة بفضل «الكجور» الحارس ل «فركة» «رأت فركة طيراً يشبه الصقر ووشما هو الصليب ذو الرأس الدائرية، ذاته الذي رأته في كتف أبيها، ورأت قروداً وأبقاراً وعلامات أخرى تكلم معها الطائر قال: «هذا أنا طير الجبل المعشعش في الشقوق، هذا أنا الصقر الذي يصطاد العصافير والارانب والفئران، هذا أنا طيركم طير جبلكم». «إنه بيت المك ومقر أسرته ومركز سلطانه على سوق شندي.. البيوت التي بدت من شاطئ النهر هي حيشان منفصلة بينها مسافات ليست بالقريبة بين كل حوش والآخر.. بالقرب من كل حوش هناك حوش أصغر او غرف متقاربة». أخيراً.. وصلت «فركة» إلى حوش المك «شندي». وانظر عزيزي القارئ الى وصف شندي. «وتجيء النساء المسترقات بأغراض أخرى ويجلسن حافيات ونصف متعريات محتفظات بمسافة بينهن، والجلابة المتنطفين باناقة تليق بهذه المدينة، المدينة الانداية وبيت الدعارة». واليك وصف آخر لمدينة شندي ينفي الوصف الأول: «في صبح الثلاثاء، سوق شندي ضاج بالحركة، السوق الذي تنتشر فيه حوانيت بيع التوابل والبهارات، العطارون يبيعون القرنفل، الفلفل، الهبهان، والعرديب وارد دار صليح ودارفور، العرديب الذي يتناوله أهل شندي شراباً منعشاً بعد أن يذيبونه في الماء الساخن والقرفة التي يستخدمونها علاجاً». «فركة أُودعت في بيت ستنا كبرى زوجات المك، البيت مكون من طابقين، الطابق الأسفل به ديوان كبير وغرفتان ومرفق للطعام وحمام، ولهذا الجزء من البيت مدخل مزين ونوافذ خشبية منقوشة تماماً كما في بيت السلطان في سنار». تقول الدكتورة «نيفين عبد الخالق مصطفى» في دراسة مهمة بعنوان «إشكالية التراث» «إن التوقعات المتزايدة التي تعلق على التراث، انما تنطوي في أحد جوانبها على تحميل للتراث، بأكثر مما ينبغي، لأنه اذا كان السلف قد عاشوا حياتهم وواجهوا مشاكلها وتفاعلوا مع البيئة المحيطة بهم، فهم ليسوا مطالبين بان يواجهوا حياة الخلف، وان يجدوا لديهم الاجابة والحلول لكل ما يعن من مشكلات، وما يلتبس عليهم من إشكاليات». ولعل ما التبس في سيرة «فركة» تقاطعاتها مع سيرة اخرى، ولو أن سيرة «فركة» الروائية كتبت بعيدا عن ادخال التاريخ المعروف والمدون بعيداً.. تأويل التاريخ على شروط الرحالة، وكانت الأمكنة باسماء روائية والازمنة برؤية تاريخية، تأخذ من التاريخ سياقاته وتلد على يديها شخصيات تنتمي لهذا التاريخ دون مباشرة توحي بأن هناك تعمداً لتغبيش هذا التاريخ، لخرجت لنا رواية تاريخية مكتملة، ولكن مك وشندي ومشرع كبوشية «عندو قرون وبقول باع دا شنو؟». قالت ست فضيل لفركة: «قومي أمشي معاي» تحركت فركة مع ست فضيل، أخذتها خارج البيت الى مسكن مجاور يلتصق بالبيت الملحق بدار المك من الجانب الايمن، في هذا المسكن غرف عالية السقوف تربط بينها براندت مسقوفة بأعواد الدوم والسعف». مارس «الراوي العليم» قهراً على «فركة» أقسى من «النهاضة»، فهي إما متحركة بأمر النهاضة، أو بأمر «ست فضيل» او بامر غيرها، لم يتركها الراوي تعبر عن نفسها وهي تعيش أقسى انواع الاضطهاد. وإليك رحلة الزاكي وعوض الكريم بعد بيعهم «فركة» وذهابهم في رحلة اخرى «قال الزاكي هلم إلى صيد الريل»، كان طقسا من ترقب وانتظار وشحذ للنبال وكمون في الاجمة، هكذا اصطاد الرجلان غزالة في بطنها مولود فذبحاها واكلا كبدها نيئة، غنى عوض الكريم: جدي الريل أبو كزيمة تعال نتمشى في الغيمة ً«اصطاد الرجلان غزالة في بطنها مولود» إن هذا خطاب يليق بجماعات الدفاع عن الحياة البرية في اوربا، اعتقد أن اصطياد غزالة في بطنها «جنين» عمل بشع يليق بالنهاضة، ولكن لا يليق برواية أزمنتها في القرن التاسع عشر. أما أغنية عبد الرحمن عبد الله فلا أعتقد أنها من أغنيات القرن التاسع عشر. مصير عوض الكريم والزاكي كان قريباً من مصير الحارسين وتية «اعترض طريقهما رجال بصدور عالية، قال كبيرهم، «المقدم» «ماذا عندكم غير الحبشيتين» قال الزاكي لا شيء، قال المقدم عندما اكتشف مرافقوه الدولارات والمحلق قال «أهذا هو اللا شيء يا كلب»، رد الزاكي «كلب أنت». المقدم لم يمهل الزاكي فرصة ثانية للمناورة، تقدم واستل سيفاً تحدرت من شفرته رقبة عوض الكريم، انزل الزاكي عن جمله مرتجفاً ومهزوماً بكثرتهم، قطع رجال المقدم أعواد الكتر بشوكها المعقوف القاسي وربطت على اكتاف الزاكي العارية بحبال السلم، دار الزاكي مشعباً بعود الكتر الغليط، جلد الزاكي حتى احمر قربابه من دم ضهره، جاء المقدم وثبت جسد الزاكي على الارض بالرمح الذي اخترق جسده الملقى على الأرض». أربعة رجال حراس وحصان وثعبان والزاكي وعوض الكريم، وما تزال رحلة «فركة» متواصلة. مشهد الاغتصاب الثاني من ابن المك وموته يمثل قمة العبث الروائي «حسان ابن المك وحيد لأبيه ومدلل وعابث، وله صولات ماجنة، لم يكن مثل أبيه لا شأن له بالشدائد، ولم يعلم من الحياة إلا رغد العيش». وفي الذاكرة الشعبية «بطنك كرشت». «نزل حسان عن العنقريب وأزاح ثقل يده الجبانة عن عنقها، ثم ربط قرقابه ودار باحثاً عن الكرباج» فشلت المحاولة الثانية لاغتصاب فركة. مرض حسان بعد فعلته مع فركة، ثم مات ليلحق بالحراس والزاكي وعوض الكريم «هدير صوت النساء النائح بعويل الحزن على موت حسان ابن المك الوحيد، كان إنشادهن تمجيداً لسيد أذل ظهورهن بجلد الكرباج: «وينو الكريم أجواد الضو بقالنا سواد الليلة فات» «لم يبق غير أغنيات تمجد حسان في موته المفاجئ.. الموت الذي حدث بلا ثمن، هكذا غادر حسان تاركاً وراءه حسرات وأمجاداً لم ينجزها» ما دايرالك الميتة ام رمادا شح.. دايراك يوم لقا بدميك تتوشح» وقيل أيضاً: ما هو الفافنوس ما هو الغليد البوص ثم محاولة من المك تفشل، قال المك «كلمي ست فضيل بما حصل أخبريها أن المك ليس غاضباً، وأنه لا يريد أن يعرف أحد ما حصل هنا مع هذه البنت». مصير المك: «عاش المك ولم يحدث أن ردَّ أحد طلبه، لكن غدا كل أمر جائزا، بعد ذهابه إلى ابن عمه هناك في المخيرف، ومقابلته كبير الترك، عاد المك غير واثق من استمرار الملك». مصير فركة: «جيتك من بعيد يا بت الجبال» «هكذا ناداها أبو لمبة بأنواره التي تخادع من لا تحميه الأسياد». «لم تمض أيام إلا وقد طلبها عجبنا من كادوقاى». «أدرك الجميع أن زواج فركة من عجبنا سيكون فجراً طال انتظار الناس له». عزيزي القارئ: هنا انتهى فجر رواية فركة باحتلال الترك للسودان، وغياب فجر السرد بين الرواية والمقال والتغول على التاريخ، سرد الروائي تاريخاً نعرفه، ولم يضف إليه سوى «أبو لمبة» معلناً انطفاء السرد الروائي.