توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    مرتزقة أجانب يرجح أنهم من دولة كولومبيا يقاتلون إلى جانب المليشيا المملوكة لأسرة دقلو الإرهابية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    دقلو أبو بريص    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«توترات القبطي»محاكمة التاريخ وموقع الرؤية في رواية أمير تاج السر
نشر في الصحافة يوم 13 - 09 - 2011

يبدأ الكاتب روايته بتنويه يقول فيه «هذا النص رواية وليس تاريخا» فمعروف أن التاريخ قديمه وحديثه هو مادة كتابية عن الاحداث المغرية وخاصة تقبل التشكيل، فاذا نقله الكاتب ووثقه فهو مؤرخ، واذا حلل احداثه وشخصياته وقارنها بالماضي او الحاضر او قرأ بها المستقبل فإنه مفكر اعاد قراءة التاريخ، والروائي يمكن ان يشتغل في تلك الخامة التاريخية بالشكل الذي يريده، فتكون الرواية التاريخية، او يوظف التاريخ ويخضعه لفلسفته وآرائه وايديولوجيته. ومنهم من يخلق خامة تاريخية تخصه في زمان ومكان من خلقه وخياله، وكما قال سارتر في كتابه ما الادب «إن اي فن لا يمكن أن يكون فناً ما لم يرد الى الحادثة طراوتها الشرسة وغموضها واستحالة التنبؤ بها»، وتوظيف التاريخ او خلقه واستلهامه لا يكون فناً الا برد الحوادث الى هذه الطراوة الشرسة التي ذكرها سارتر. فاستعراض المقدرة التخيلية والبنائية فقط لا يجعل منها رواية ذات وظيفة دلالية رمزية وذات مضمون مؤثر، فالواقع التاريخي خيال أو حقيقة يحتاج إلى عملية تثبيت تتم داخل النص، فالكتابة الأدبية التي تستلهم التاريخ او غيره تكون قوتها ودوامها من محاولة تثبيت الواقع ومحاولة الإمساك به حاضرا او تاريخاً ماضياً، فالكتابة علاقة مع الواقع الاجتماعي والسياسي والتاريخي، اذ هي جزء منه وفاعلة فيه. وحتى الشكل نفسه، هو منتج في الزمن التاريخي والاجتماعي والسياسي، وحتى الجمالي نفسه هو منتج اجتماعي وتاريخي. والكاتب مهما ادعى الحيادية ونفى السمة والصفة التاريخية عن روايته فإن الكتابة تأتي من موقع، وتقف واعية او لا واعية مع هذا او ذاك. فلا حياد مع الكتابة التي هي من موقع ورؤية للعالم حتى ولو اتخذ الكاتب وضع الإشراف من الاعلى على الجماعة في جملتها، ويقول سارتر في نفس المصدر «إن المرء لا يتعالى بعصره حين يهرب منه، بل حين يواجه التبعة فيه بقصد تغييره، أي حين يتجاوزه الى المستقبل الاقرب. فحين يفهم ذلك كله فإنه يكتب للجميع، ويكون مع الجميع، لأن المسألة التي يبحث فيها وعن حلها بوسائله الخاصة هي مسألة الجميع».
استلهام التاريخ:
في رواية «توترات القبطي» هذه التي وظفت التاريخ واستلهمته، حيث يظهر ذلك من السياق التاريخي، حيث الفضاء المكاني والزماني يدل على ذلك واسلوب الحياة اليومي، متمثلا في الزي والاسلحة والوصف المكاني. فالكتابة في الرواية قد استلهمت التاريخ وهي رواية العرض الايهامي المتخيل له. وهذا العرض المتخيل في الكتابة الروائية عموماً وفي رواية «توترات القبطي» خصوصا، فإنه يخدم غرضين، الأول هو عرض المقدرة التخيلية السردية، ثم البنائية الفنية للرواية. لأن النقل الواقعي أيضا للتاريخ يتم فنيا وشكليا «التقنية الروائية» وبهذه الفنية والشكلية يمكن للنص الادبي الروائي اكتساب السمة الفنية الجمالية الخاصة به. والغرض الثاني من هذا العرض الايهامي للتاريخ، هو نقل السمة والدلالة والفكرية والآيديولوجية للكاتب، فاستلهام التاريخ ينفي صفة المؤرخ عن الروائي ويعطيه صفة الكاتب الرؤيوي والموجه لعصره وقرائه بمعنى الكتابة من رؤية وموقع، والمتخيل التاريخي هنا يكون مبنياً على مفهوم وفكرة واضحة عن هذا الواقع التاريخي الماضوي سواء أكان هذا الموقع متعاليا في موقع اعلى، او كذات موجودة في الواقع التاريخي منفعلة به ومتفاعلة معه، وكما يقول لوسيان جولدمان «إن رؤية العالم حلقة تقف بين النص والطبقة الاجتماعية، او الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الكاتب، فالطبقة والفئة الاجتماعية تعبر من خلال جهاز معرفي أو بنية معرفية آيديولوجية وسياسية، ويأتي النص ليعبر من خلال رؤية هذا الجهاز أو البنية».
وهذه الرؤية وهذا الموقع يكون متفتحاً على رؤية شاملة للكون، إذا كانت إدانة وشجباً دائما للتخلف والتسلط والظلم والديكتاتورية حتى ولو كانت باسم العقائد والافكار. وهو ما أرادته رواية «توترات القبطي». وهذه الإدانة يكون غرضها الاول تنبيه الحاضر، وتحذير المستقبل من تكرار أخطاء التاريخ بمختلف صوره وألوانه. فمثل هذه الكتابة هي التي تسير بالزمن الى الامام. فرواية «توترات القبطي» نسيجها هو من خيوط الماضي التاريخي السوداني القريب، فهي لم تكتب من فراغ وليس من خيال محض، فهي بالمقياس الفني ليست رواية تاريخية، ولكن تأتي قوتها الرؤيوية من عمق القياس النقدي الحضاري والمنطقي بنقد الماضي نفسه وليس بمقارنته مع الحاضر التي قد لا تكون عادلة. فهي رواية تحاكم التاريخ وتحاكم الحاضر بالماضي اذا كرر اخطاءه ولم يستفد منها. فالرواية في بنيتها رواية انتقادية، تعري الواقع التاريخي هاربة من الميتافيزيقيا والاوهام لبناء عالم جديد برؤية جديدة، كما يقول «ر.م البيريس» في كتابه تاريخ الرواية ص 64، «ان جودة الرواية تقوم على قوة الرؤية التي تقدمها واقناعها، وقوة هذا الصوت الذي يتكلم او على ذلك البيان الهندسي الذي يفرض نفسه بنفسه، ويكشف عن بعض خصائص المدى الخيالي»، وكما أن مثل هذه الروايات تحاكم الماضي وتعريه، فإنها تحاكم كاتبها بجودة الكتابة التي تقوم على قوة الرؤية والبيان، فالنص الادبي ليس شكلاً فقط، وانما هو قوة الرؤية والبيان التي تصل ما بين النص والكاتب والمتلقي، وبالطبقة الاجتماعية، او الفئة التي ينتمي اليها الكاتب، والتي لها بنيتها الذهنية والفكرية والمعرفية، وكما يقول رولاند بادت «إن الشكل الذي يختاره الكاتب، او الكتابة التي يختارها ترتبط وتتناسب مع اختياره للجو والمسار والموقع الاجتماعي الذي يريده لخطابه وحديثه ولغته. وهل جعل من نصه بنية مغلقة ام مفتوحة القراءة والدلالات». فالعرض الإيهامي للتاريخ هو الذي يكشف قصدية الكتابة ودرجة الوعي عند الكاتب.
تحفيز الواقع التاريخي:
اعتمدت الرواية على تحفيز الواقع التاريخي المستلهم من فترة معينة في تاريخ السودان الحديث «فترة الثورة المهدية» رغم تغيير الأسماء والاماكن. وقد بدأ التحفيز من عتبات النص الأولى، وهو عنوان الروية «توترات القبطي» بمعنى ان بطلها هو قبطي يمثل أقلية عرقية ودينية في السودان. أو اقلية دينية في مصر. ورغم ان النص قد استلهم التاريخ الحديث فإن سلطان الخيال وقوة التخييل قد استندت إلى مذكرات شخصية حقيقية وهي مذكرات «يوسف ميخائيل»، وهو قبطي عاش في تلك الفترة. فكتابة هذه الرواية ورغم قوة الخيال فيها فهي لم تبدأ من درجة الصفر، فالرواية إعادة قراءة لهذه المذكرات بتثبيت وتكثيف وتعميق لها، وتجذير لها في المكان والزمان وفق رؤية الكاتب وأفكاره، وقد فتح النص الباب لقراءة مشاركة في الكتابة وامتداد اصيل لها، بمعنى اعادة انتاج النص، بتفسيره واستيعاب دلالاته. وقد أعادت الرواية نفسها انتاج مذكرات يوسف ميخائيل، بهذه المشاركة في قراءتها وتفسيرها. وعندما ينفي الكاتب بأنها رواية تاريخية، فإنه ينفي ايضا امتلاك النص للحقيقة التي لا تقبل النفي. فهو بهذا النفي قد فتح الباب لسلطة الخيال لكي تهيمن على النص كله، فالراوي داخل الرواية القبطي «ميخائيل» والذي تغير اسمه الى سعد المبروك، كان راويا وشاهدا على العصر، فهو جزء من التاريخ، حيث كان يمثل أقلية دينية وعرقية متعلمة، بمعنى أن شهادته وروايته كانت من موقع رؤيوي مختلف حاكم به ذلك العصر وتاريخه، وهو نفس الموقع الذي اتخذه الكاتب خلف راويه يحاكم به من يريد أن يحاكمه، سلطة كانت او افكارا وآيديولوجية تتوارى خلفها. وقد أعلن الراوي ومنذ بداية الرواية، وبحذر بأنه ليس ضد الشعارات والمبادئ التي يرفعها ثوار العهد الجديد، وانما هو ضد استغلالها والخطأ في تطبيقها.
يقول الراوي الذي أجبر على تغيير اسمه ودينه يقول في ص 22 «أديت صلاة الظهر في خشوع جاهدت ان اجعله خشوعا حقيقيا، كنت قد بدأت افتتن بالدين الجديد، بالرغم من أنني تلقيته من أناس بدا لي أنهم لا يفهمونه كما فهمته، ثمة عدل وتسامح وتعاليم شديدة الرقي لم اكن اعرفها من قبل، او لم اكن مستعدا لمعرفتها برغم مخالطتي للكثيرين من حامليها»، فالراوي هنا والكاتب من خلفه لا يدين العقيدة الدينية وإنما يدين الخطأ في التطبيق. وكأنما يعلن صدقه في النقل والرواية والشهادة على ذلك العصر، حتى لا يتهم بالحيادية والتحامل على ذلك العصر والقصدية المضادة له، ومن ثم الطعن في المصداقية الواقعية للاحداث. فالراوي كان يمثل الموقع الحضاري المغاير، فهو كان يمثل الحضارة الغربية التي كانت موجودة قبل الثورة والتغيير الجديد. فمدينة «السور» قبل غزو المجاهدين كانت بحسب روايته مدينة متحضرة بها أندية ومحال راقية، والراوي نفسه «ميخائيل» كان يعمل محاسباً وخبيراً في الجبايات والضرائب، وخطيبته «خميلة» درست في مصر علم الجمال وتحفظ وتستشهد بالأشعار الاوربية، وتدخل معه حتى غرفته الخاصة قبل الغزو، فقد كانت «مرتبة بعناية، الملاءة على السرير وردية، أغطية الوسائد وردية، وعلى طاولة الخشب النظيفة الموضوعة في احد الاركان توجد بعض الكتب في الشعر والتاريخ واصول الحسابات، وكان يوجد وجه خميلة بريشة العبقري «سام كوستاوي»، والآن هو يسكن في خيمة بالية وقذرة، وقد تحول من محاسب إلى طباخ للأمراء والحكام والقادة الجدد، الذين كانوا عمالا وخداما تحت امرته. فالغزو يمثل الارتداد الحضاري المعاكس الذي أرجع الناس بدوا يسكنون الخيام ويتصرفون كما يتصرف رعاة الشاة. لقد أراد الراوي أن يقول إن ما حدث من تغيير لم يكن بارادة الطبقة الواعية التي كان يمثلها، وانما كان بفعل حفنة من المهووسين، استغلت شعارات الدين وسماحته، وإن سلب الوعي الفردي بالقوة وباسم افكار وآيديولوجيا معينة، هو الذي ينتج فردا مسحوقا ك «القبطي ميخائيل» ليس في الماضي وحسب وإنما في المستقبل ايضاً.
فالراوي كان ضحية لهذه الثورة التي لا تحمل أشواقه وتطلعاته وحريته يقول: «كنا في حالة حرب بلا شك، حرب لم اخترها انا ولا سكان مدينة السور الوادعة باعراقها المختلفة». وجعل من موته في آخر الرواية هو انتماء حضارة وبداية عصر مظلم «كانوا يتكالبون على جسدي يحاولون ان يلحسوا كل بقعة من الجسد المتصلب، وينهزم المصاص لينهزم الحراس، يتقهقرون، واتمزق انا تحت اسنان القطيع».
اليوتوبيا والفضيلة العمياء:
كما شكل جارسيا ماركيز في رواية «خريف البطريرك» مدينة فاضلة مضادة، حيث تشكل كابوسا جديدا وخانقا لمجتمع افتقد الحرية والعدالة والامن بسبب حكم الجنرال الطاغي الذي كان يمني الناس بمدينة فاضلة وحالمة، وفردوس أرضي، فإن مدينة «السور» في رواية «توترات القبطي» التي كانت نموذجية في التعايش بين الاقليات وبين الاديان قد تحولت الى المدينة الفاضلة، وقد اصبحت الفضيلة عمياء ضلت طريقها، فقد كانت قبل الغزو «المدينة التي كانت حتى عهد قريب منارة من منارات الوطن وموردا مهما من موارد ثروته، وايضا قبلة لسواح يأتون من بعيد»، فقد كانت مدينة الاقباط والهنود والاغاريق واليهود «كان السوق ممتلئا بالتجارة، مواد الغذاء من ذرة وقمح وشعير وحميض وزيت وحتى سمك التونة والرنجة المجففة.. قماش الألبسة من تيترون وبوبلين وكستور ودبلان، وحتى حراير الملكات التي تأتي من مصر وأوربا وبلاد الرافدين لتعانق الأجساد الارستقراطية»، فقد تحول الفردوس الأرضي الى حلم بفردوس آخروي، وقد اهداهم «المتقي» أحلام الموت وريح الجنة المتخيلة، التي لا يستطيعون إنكارها. لقد جعل الكاتب روايته رواية لا زمنية، لا تكتسب تاريخا معنيا، ولا تذكر أياما او شهوراً معنية يقول الراوي دائما «في أحد الايام في صباح يوم عادي، مثل اي صباح معذب، وقد مضى شهر كامل ماتت فيه الحواس كلها».
فالزمن في المدينة ولدى الراوي قد توقف وعاد للوراء، واذا كانت رواية «خريف البطريرك» لجارسيا ماركيز تركز الفعل الفردي المتسلط، او ديكتاتورية الفرد، فإن رواية «توترات القبطي» تركز على الفعل الجمعي المتسلط من الأمراء والقادة والمجاهدين باسم العقيدة والدين. يقول الراوي «هل كان المتقي هناك؟ لا اعرف يا سيدي، كانوا كلهم ملثمين، وجوعى ومختلين، كلهم المتقي كلهم المتقي»، فشخصية الجنرال في رواية ماركيز شخصية أسطورية تركز الدعاية على هذه الصورة، بحيث لا يموت ولا يخترق جسده الرصاص، أما شخصية المتقي فصورتها الدعائية تأتي من الكاريزما الدينية التي يتلبسها، وهي شخصية قادرة على بث تعاليمها وسط أتباعها ووسط العامة خاصة. فالدنيا فانية والآخرة هي دار البقاء، وهذه الفانية يجب ألا نبكي عليها، فالطيبات قادمات في الحياة الأخرى، عكس شخصية الجنرال التي تدعي الالوهية، فهو لا يخطئ وبذلك لا يقبل اية معارضة لحكمه ولا لفكره وآرائه، حتى ولو كان امام حقيقة منطقية وطبيعية. وعند رجال المتقي فإن القسوة والاستبداد هما الطابع الفردي لكل قواده وأمرائه، فهم يمثلون الحق والخلافة الإلهية في إقامة العدل ومحاربة الالحاد والكفر. يقول الراوي «دخل الجهاديون الى البيت، كانوا كثيرين بلا عدد، يحملون السيوف والحراب والسكاكين، وكانوا يصرخون، الموت للكفر، الموت للالحاد، لم يتركوا شيئاً الا اخذوه، وحتى حفاظات الدلاقين التي كانت على جسد الرضيع انتزعوها» وقوادهم وأمرائهم يمثلون الفئات المضطهدة والمسحوقة والمعقدة حتى يقوموا بتنفيذ أوامره وتعليماته بإخلاص وقسوة.
الأسلوب والبنية الشكلية:
استخدم الكاتب أمير تاج السر في روايته الاسلوب الاستطرادي الخبري في جمله، وهو يقطع الجملة الخبرية ليأتي بغيرها لتكون مكملة ومؤكدة لما يقوله الراوي، ومحفزة للقارئ للانتباه لما يحكيه الراوي والوثوق والتصديق بما يقوله «سرنا في المدينة فرساً وحماراً هزيلاً، قائداً وتابع قائد، وأحسها أرضا أخرى، بلاداً لم أبصر النور فيها، لم يعمدني المصري «طوني العفريت» ولا كانت أرض ثروة، قضيت عمري ألمها وانفقها، ولا أرض حب، أحببت فيها دارسة علم الجمال خميلة جماري، وكنت على وشك أن اشاركها الأنفاس» ص «61». وفي مثل هذه الجمل والاستطرادات يركز على أسلوب الومضة، الخبرية، المثيرة والمفاجئة، والتي تستحوذ على ذهنية المتلقي في لحظتها وحصره في دائرة الخبر، وهو يزامن أكثر من حادثة تقع في نفس مستوى الزمن يقول «لا شيء لا شيء سوى المجنون مخلوف، الذي ضبط عاريا في الطريق العام، يبحث عن أخشاب من النار، ليصنع بها سفينة نوح، بائعة الهوى طلاسم التي تابت فجأة وتوقفت عن دفع الضريبة، وربة منزل في حي أرض الكوثر الفقير، باعت طفلها الرضيع لسائح أوربي» «ص621» والراوي المغلوب على أمره كان يسرد بغنائية مرة وحزينة ورؤى سريالية مخيفة ويائسة يقول ص 321 «أخيراً انتهى غسيلي المتسخ بجداره، وخرجت من عزلة البؤس إلى غموض المصير، كان أكثر ما يدهشني أنني لم أمت، بالرغم من انني اشتهيت الموت حقيقة، تمنيت أن ينفجر عرق في الصدر او يتوقف القلب عن الضخ، او تتمزق المصارين كما حدث في موت ولهان الخمري»، فالكاتب في كل الرواية يلجأ لأسلوب الترتيب المنطقي للحكي والاسترجاع الماضوي المربوط بالحدث الآني، فهو يسرد ما يعرفه وما شاهده، ورآه، ثم يترك غير ذلك لراوٍ آخر كان شاهداً وحاضراً بسرد تبادلي متماسك ومنطقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.