إذا كانت مسألة الدولة هي واحدة من اعقد وأصعب المسائل التي تناولها الفكر السياسي الدستوري بالبحث، فان هذا الوصف ينطبق بنفس القدر على مسألة الديمقراطية التي تعد جزءاً لا يتجزأ من مشكلة الدولة والسلطة السياسية، لقد قطع التاريخ شوطاً كبيراً في هذا المجال وصدر العديد من المؤلفات التي أغنت موضوع الديمقراطية ، ومع ذلك لا زال هذا الموضوع محل بحث وتقييم بقصد اغناء الديمقراطية من خلال التجارب الدستورية السياسية للبلدان المختلفة . ونحن في السودان بأمس الحاجة إلى أن نبدأ الخطوات الأولى في هذا الموضوع من اجل المساهمة في أعادة تشكيل تنظيم دولتنا وسلطتنا السياسية كي يتحقق المجتمع المدني القائم على الحرية والإخاء والمساواة والتضامن الاجتماعي إذا أدركنا أهمية الدور الذي يمكن أن يؤديه النظام الديمقراطي في كافة المجالات ، فيجب أن نعي أيضا أن هذا الإدراك لا يأتي دفعة واحدة إنما يتطور من خلال مسيرة التطبيق ، وهي عملية متواصلة تستلزم استمرار الحكم على ضوء ما يحصل من خبرة في هذا الميدان ، لهذا يقتضي دائماً فهم احتياجات الواقع من خلال التجربة قبل إمكانية التوصل إلى الصيغة الملائمة ، لان عملية « تحرير « و « دمقرطة» الدولة السودانية، إذا كانت عملية حتمية من اجل تطور السودان ، فيجب أن لا يتم تصميمها من اجل التمويه والتراجع عن المبادئ الديمقراطية الأساسية ، ومن ثم الانزلاق التدريجي ثانية إلى النظام الديكتاتوري ، أي بمعنى استخدام هذه العملية لإنتاج نمط جديد من الدكتاتورية، وبالتأكيد سيقع مشروع الدستور الدائم في بعض الأخطاء وسوء التقدير ، غير أن ذلك يمكن تلافيه بالمراجعة المستمرة وفقاً للإجراءات الدستورية ذاتها ، ومن خلال احترام جميع المبادئ الديمقراطية التي ينص عليها الدستور الذي يرتكز على المبادئ الديمقراطية يعتبر ذلك من أهم مرتكزات النظام الديمقراطي، فلا وجود لمثل هذا النظام دون وجود مثل هذا الدستور الذي يرتكز على تلك المبادئ. ويعتبر مبدأ الفصل بين السلطات من هذه المبادئ الأساسية، أن لا يكون بمعزل عن المبادئ الأخرى، وإنما يشكل مع بقية تلك المبادئ نظاماً دستورياً متكاملاً مؤسسا على أهداف وقواعد أساسية مشتركة، بحيث يصبح كل مبدأ في هذا النظام الدستوري ضمانة لعمل المبادئ الأخرى ، ويعمل مع غيره بصورة مشتركة لحماية أسس النظام الديمقراطي واستمراريته. لا يتسع المجال لبحث الجذور التاريخية للمبدأ المذكور، وإنما نشير فقط إلى انه برز كأحد الحلول الأساسية للانحرافات والمعوقات التي رافقت الحكم الفردي المطلق حين يمارسه الحاكم الفرد الذي يجمع بين يديه سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، والذي يستند إلى سلطة لا شراكة فيها تتمركز كلها في شخصه، وكأن مزاج هذا الحاكم هو قاعدة دون أن تحده قيود أو قوانين، فسيادته مطلقة في كل المستويات، وهو لا يعترف بأية سلطة أو سيادة فوق سلطته أو سيادته، ثم جاءت مرحلة انتقالية في السودان تحول فيها الحاكم من النظام المطلق إلى النظام المقيد ، وأفرزت فكراً إنسانيا يدعو إلى عدم تمركز جميع السلطات في يد شخص أو جهاز واحد، والى دمقرطة الدولة عبر عملية انتخاب مؤسسات الحكم ، وقد تبلورت فكرة عدم التمركز هذه في مبدأ الفصل بين السلطات نادى بها الحادبون على مصلحة السودان منذ فترة طويلة أي فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو ما اعتبره الفقه الدستوري لاحقاً من أهم المبادئ الأساسية للدستور الديمقراطي . وقد وجد هذا التطور الدستوري تطبيقه في العديد من دساتير الدول الديمقراطية.وعلى الرغم من أن الناحية العملية الدستورية تزكي وجود وضرورة هذا المبدأ بعد أن أدركت الدولة استحالة، أو على الأقل صعوبة ، قيام سلطة واحدة في الدولة بممارسة جميع الاختصاصات الدستورية، فان هنالك أنصاراً لمبدأ وحدة السلطة ينطلقون من أن السلطة في الدولة هي سلطة واحدة ذات وظائف متعددة « تشريعية ، تنفيذية ، قضائية « تمارسها أجهزة متعددة وتعمل تحت توجيه وإرادة السلطة الواحدة . وهو رأي يستند إلى تفسير مفهوم السلطة باعتباره مرادفاً للسلطة السياسية التي تمارس الحكم « في كل مجتمع توجد سلطة واحدة ولكل دولة سلطتها السياسية الواحدة . والسلطة السياسية الواحدة تمارسها قيادة سياسية تضع خطة أو سياسة اقتصادية واجتماعية تتبلور في العديد من الاختيارات السياسية التي تأخذ شكل أو صيغة التشريعات وإذا كانت السلطة واحدة في الدولة فمعنى هذا انتقاء فكرة تعدد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، أن القيادة السياسية التي تمارس السلطة تحدد إطار الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عن طريق ما تضعه من تشريعات ، ويترتب على هذا ضرورة إيجاد هيئات منفذة لهذه الاختبارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . ففي كل مجتمع يوجد من يضع القواعد التشريعية ومن يطبق هذه القواعد، بناءً عليه توجد في كل دولة سلطة سياسية واحدة تقوم بوضع السياسة العامة أو الإطار العام للمجتمع من خلال التشريع ثم وظيفة إدارية ووظيفة قضائية». . لهذا يرفض هذا الاتجاه تعدد السلطات في الدولة يكون منها اختصاص دستوري محدد، ومن ثم يرفض رقابة سلطة أخرى ، كما لا يسمح بوجود الرأي الآخر خارج الإطار الذي يرسمه الحزب الحاكم ، وعليه يتعذر الحديث عن تأسيس مشروع ديمقراطي مع التمسك في الوقت نفسه بمبدأ وحدة السلطة.أما أنصار مبدأ التوازن بين السلطات فيعتبرون الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهماً نظرياً لا وجود له من الناحية العملية، فهناك مجالات كثيرة تتداخل فيها الاختصاصات الدستورية تتطلب رأياً أو قرارا مشتركاً من سلطتين أو أكثر نخلص مما تقدم أن توزيع الاختصاصات الدستورية على هيئات ثلاث يعتبر بحد ذاته إحدى الضمانات الأساسية لتطبيق المبادئ الأخرى الواردة في الدستور الديمقراطي ويرسم الدستور لكل هيئة حدود اختصاصها كما يمنحها القدرة الدستورية والقانونية لإيقاف أي انحراف عن ذلك الاختصاص أو تجاوز عليه من الهيئتين الأخيرتين. لهذا نصت اغلب الدساتير الديمقراطية على جملة من الضوابط الدستورية والقانونية لكي تمارسها كل سلطة من هذه السلطات اختصاصها الدستوري في الحدود التي يرسمها لها الدستور. وبناء على ضرورة هذا المبدأ في المشروع الديمقراطي للدستور السوداني الذي يضمن عمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على أساس مبدأ الفصل بين السلطات، ويحدد ضمانات وضوابط تطبيق هذا المبدأ. ويجب أن تلتزم كل سلطة من السلطات المذكورة بالاختصاصات المحددة لها في هذا الدستور ، كما لا يجوز لها أن تتدخل في شؤون السلطات الأخرى ، وتتولى المحكمة الدستورية العليا حل التنازع في الاختصاص في حالة حدوثه بين السلطات الثلاث طبقا لأحكام الدستور. ووضع قواعد واضحة تحكم سير عمل السلطات الثلاث يعتبر بحد ذاته أهم الضمانات لتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات . فمن دون تنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث يبقى المجال واسعاً للمناورة ويزداد احتمال هيمنة سلطة على الأخرى ، ومن ثم إعادة إنتاج الدكتاتورية بنمط جديد ، لهذا فان اغلب الدساتير الديمقراطية تعطي أهمية وعناية خاصة لأحكام تنظيم السلطات في ضوء خصوصيات التجربة السياسية والدستورية التي خاضتها . وعليه فان المشروع الديمقراطي يستوجب دراسة التجربة الدستورية السودانية واستخلاص القواعد المناسبة التي تحول دون إعادة إنتاج الدكتاتورية من جديد. فتجربة حكومات السودان المتعاقبة تثبت أن تبعية السلطة التشريعية والسلطة القضائية إلى الحاكم ألقت ظلالها على مجرى التطور السياسي في كل عهود الحكم السوداني منذ الاستقلال إلى الان ، فالصراع والاتفاق كان يتم بين الحاكم والجيش وهما يحددان هذا المجرى بينما بقيت مؤسستا التشريع والقضاء غير فاعلتين أو مؤثرتين في دعم مظاهر المجتمع المدني بل تم تغييبهما تماما في مرحلة من المراحل، فعدم التوازن بين السلطات الثلاث جعل الشعب يعيش تحت القمع المستمر المسلط من قبل أجهزة الحكومة، دون أن تتوفر أية وسيلة يلجأ إليها المواطن لحماية شخصه وماله وحريته . وقد خلق هذا الوضع حالة من الريبة والسلبية في نفس المواطن تجاه الحكومات المتعاقبة التي لم ترتق إلى مصاف المستوى الحضاري لهذا الشعب وطموحاته المشروعة. لكل ذلك يقتضي احترام السلطات الثلاث وإحداث التوازن في مجال اختصاصاتها بالشكل الذي لا يسمح بهيمنة سلطة على أخرى وضمان عمل كل سلطة وفقاً لأحكام الدستور و استبعاد الجيش دستورياً عن العمل السياسي وعدم تدخله في شؤون هذه السلطات. يعتبر وجود هيئة برلمانية، منتخبة بطريق الاقتراع العام المباشر والسري، تمارس السلطة التشريعية، من أهم سمات النظام الديمقراطي، لذلك يجب أن تكون هنالك عناية خاصة لطريقة تشكيل هذه الهيئة والعضوية فيها، وتوفير كافة الشروط التي تمكن هذه الهيئة من ممارسة اختصاصها الدستوري باستقلال تام عن بقية السلطات ،وبالشكل الذي لا يجعلها مجرد أداة من أدوات السلطة السياسية الحاكمة ، أو هيئة تابعة لها، ولأن من الصعب أن يتضمن الدستور كل ما يتعلق بطريقة تشكيل الهيئة البرلمانية والعضوية فيها ،. كما أن عدم تقييد الرئاسة بفترة زمنية محددة، والسماح بجواز الجمع بينهما، وبين رئاسة الحزب الحاكم، قد وفرا الأرضية المواتية لاستمرار سيطرة الحزب الواحد على الدولة. لهذا فان الاستفادة من التجربة الماضية والحالية تستوجب إعادة النظر في الأحكام الدستورية التي تحكم وتنظم مؤسسة رئاسة الجمهورية بالشكل الذي يجعل هذه المؤسسة تقوم بوظيفة حماية الدستور وسيادة القانون، وتصبح إحدى ضمانات استمرار النظام الديمقراطي لا وسيلة لنمو نظام استبدادي جديد،. كما أن حماية مبادئ هذا المشروع تتطلب تأسيس المحكمة الدستورية الدائمة، التي يكون من بين اختصاصاتها، حل المنازعات بين السلطات الثلاث، مراقبة دستورية القوانين، الإشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتقديم الاستشارات الدستورية لسلطات الدولة العليا. ولابد من توفر عدة معايير في أعضائها لضمان أداء دورها في حماية أحكام الدستور.