في العام الماضي أتيح لي ان ازور الجزائر وكان من ضمن اهتماماتي البحث عن الاثر الذي خلفه الشاعران صلاح احمد ابراهيم والدكتور جيلي عبد الرحمن - والذي لا زال طلابه يذكرونه بكل خير، وكذلك رفاقه في التدريس، ومنهم الشاعر والناقد الفلسطيني د. عز الدين المناصرة الذي وعد بالكتابة عن جيلي. ومن ضمن انشطة جيلي انه قد تمت استضافته من قبل اتحاد الكتاب الجزائريين في1977/3/9م، وكان من ضمن الحاضرين الكاتب العراقي المعروف ضياء خضير الذي اجرى لقاءً مع جيلي عبد الرحمن لخص فيه موضوع المحاضرة.. وتعرض فيه لتجربته الشعرية.. ونشر الحوار في مجلة الاقلام البغدادية الذي بدأه جيلي بالقول: لعل الأدب السوداني قديمه وحديثه، غير معروف تماما على نطاق الوطن العربي، وظل هذا الوضع حتى اوائل الخمسينيات، حينئذٍ ظهرت مدرسة سودانية حديثة في مصر، أخذت تتحدى القراءات السائدة آنذاك من ناحية المضمون. فقد كانت التيارات الشعرية في مصر في ذلك الوقت اما تيار كلاسيكي تقليدي ، أو تيار روماتيكي، كما يطلقون عليه، بمعني انه ينغلق على ذاته ويعبر عما نسميه بالضياع والحزن والاغتراب عن الزمان والمكان. وثمة تيار ثالث كان يلمس المشكلات الاجتماعية ولكن في اطار الخطوط العامة لها.. وقد مثَّل هذا التيار الاخير الشاعر المصري كمال عبد الحليم في ديوانه (إصرار) وعبد الرحمن الشرقاوي في قصيدته (من أب مصري الى الرئيس ترومان). وقد اجتذب هذا التيار الاخير كثيرا من الشعراء لأنه كان يمثل بالنسبة لهم ثورة على الواقع، في ذلك الوقت الذي كانت فيه الحركة الوطنية في الوطن العربي تتصاعد وتتجه في نضالها لتصفية الاستعمار والانظمة الملكية والاقطاع والاحلاف العسكرية. وقد فتح الشعراء السودانيون الشباب رئاتهم لهذه الهبة العربية على نطاق وادي النيل اولا، وفي النطاق العربي ثانيا.. وكما يشبه الانفجار ظهرت مدرسة سودانية حديثة في مصر من فتيان قال عنهم الناقد المصري الراحل زكريا الحجاوي حين قدمهم للقارئ العربي: شعراء صغار وسود ينتزعون زعامة الشعر من السمر والبيض، ويغرسون لواء الفن القومي في السودان!! ٭ وما هي أبرز الملامح التي ميزت شعراء هذه المدرسة؟ - في رأيي أن هذا الشعر لم يقع في القوالب التي وقعت فيها المدرسة الشعرية الثورية في مصر من حيث ترديد الكلمات الملتهبة والقوافي الرنانة وتعبئة السخط ضد أعداء الوطن العربي فقط، ولكن اتجه هذا الشعر، رغم ما كان يعتريه من ركالة او ضعف في اللغة، الى التفاصيل الصغيرة للانسان العربي في السودان .. إلى حياته البسيطة وأشواقه وأحزانه، وقد لمس هذا الشعر التناقض الصارح بين القرية السودانية البسيطة والنائية وبين المدينة الكبيرة، ذات الحياة المعقدة، وأعني بها مصر حين فتح هؤلاء الشعراء أعينهم على قسوة الحياة فيها.. ولم يخجل أولئك الشعراء من التعبير عن انتمائهم الطبقي.. عن فقره وعوزهم.. عن وقوف آبائهم بوابين في العمارات الشاهقة.. لم يخجلوا من لونهم الأسود ومن الحياة اللاانسانية التي يعيش فيها مواطنوهم. ٭ وكيف كان وقع هذه الأشعار وتأثيرها على من حولهم ومن هم أبرز ممثليها وبمن تأثروا؟ ٭ لقد هزت المحافل الادبية وحتى قبل ان تنشر تلك القصائد كانت جمعيات الشبان المسلمين والمسحيين ورابطة الادب الحديث وغيرها من الاندية في مصر تحتشد لتستمع الى (الفيتوري) او (تاج السر الحسن) او العبد الضعيف (جيلي نفسه) وهم يزلزلون بأصواتهم المواضعات والقيود والأشكال والمضمامين التقليدية. ولا أرى أن ذلك التيار قد نشأ عفويا او نبتا شيطانيا، فقد كان نتيجة التفاعل الطبيعي بين الحياة العربية في السودان، وما يمكن أن تتميز به في كلا القطرين: المصري والسوداني، وكذلك ما يمكن أن يجمع بينمها... وفي هذا الوقت كان يروي في العراق شعر نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وغيرهم.. وهم يعبرون عن انتفاضة الجماهير وسخطها ورفضها للواقع الذي كان مفروضا عليها.. وربما تقارب هؤلاء الشعراء في مواقفهم الاجتماعية وأساليبهم الشعرية، ولكنهم اضافوا نظرة جديدة وجريئة إلى الشعر العربي تناغمت في السيمفونية التي كانت تعزف في مصر والسودان وسوريا ولبنان ايضا. وقد أطلق بعض النقاد اسم (المهجر الجديد) على تلك المدرسة، واطلق بعضهم عليها اسم الواقعية الاشتراكية رغم الحصار الاعلامي الذي سد ابواب الصحف امام بعض افرادها، ولا سيما اولئك الذين ينأون بأنفسهم عن الشعارات العامة او التوجه الى قارات اخرى غير بلادهم العربية، ومع ذلك فإن تأثير هذه المدرسة ان صح اطلاق هذا التعبير عليها - كان تأثيرا قويا بلا شك - حتى انها جذبت الى تيار الواقعية شعراء مثل كمال بشات ، فوزي العنتيل، نجيب سرور، وسعد دعبيس وغيرهم. وقد قادني تأمل هذا الصمت الذي ضرب حول هذه المدرسة إلى تأمل أسبابه المريبة، فرغم بعض الدراسات والتعريفات التي كتبت حول هذه المدرسة الشعرية بالذات وحول الشعر السوداني عموما، إلا انني لاحظت ان هناك انفصالا نعاني منه بين دراستنا لهذا الشعر وواقع الفترة التاريخية التي ظهر فيها والوظيفة التي أداها ، والتأثير المتبادل بينه وبين الشعر العربي عامة.. وقد قادتني دراستي لهذا الشعر إلى اكتشاف مدى الضيم الذي لحق بالشعر السوداني والادب السوداني عموما لضيق وسائل النشر في ذلك، ولتقصير أدباء السودان انفسهم في تعريف الامة العربية بأدبهم.. ولم أتعرف على الشعراء الذين أعادوا للعبارة العربية مجدها وتغنوا بأمجاد الإسلام والعروبة مثل: العباسي والبنا وعبد الله عبد الرحمن. هؤلاء الذين كانوا يتناولون الاستعمار بتحريض الأمة العربية وحشد قواها وامكاناتها، وزرع الثقة في نفسها وتاريخها فحسب، ولكنني تعرفت بالاضافة الى ذلك الى شعراء آخرين مثل توفيق صالح جبريل والتيجاني يوسف بشير وغيرهم وغيرهم. لقد تمكن هؤلاء من العبارة العربية وتأثروا بما كان يموج في الادب العربي من نزوع الى التجديد، ويمثلون شعر مدرسة المهجر وابولو والديوان وغير ذلك من التيارات التجديدية السائدة آنذاك.. وقد اضاف هؤلاء الى هذه الاصوات اصواتا جديدة ومضامين ورؤى جديدة ظلت في تناول قلة قليلة. ٭ وكيف كان حال النثر في السودان خلال هذه الفترة؟ وهل كان في تطوره مساوقا او موازيا للشعراء أو متخلفا عنه؟ لا بد من القول ان المؤلفات التي كتبت (مقالة وقصة)، كانت على قلتها تكتفي بالتعميم وتجريد الظاهرة من محيطها الاجتماعي. فمثلا يقف كتاب «تاريخ الثقافة العربية في السودان» للدكتور عبد المجيد عابدين عند الخطوط العامة للثقافة العربية في السودان، ولا يتناول الأدب بالتخصيص. اما كتاب الدكتور عبد الله الطيب (الاتجاهات الحديثة للنثر العربي في السودان)، فهو محاضرات مبسطة لطلاب الدراسات العليا، ولم يتعب صاحبها نفسه في دراسة هذا النثر وتطوره ونشأته وديموميته وأشكاله الادبية المختلفة، والواقع انني لدى دراسة النثر العربي في السودان قد وجدت كنوزا لا تقدر بثمن اذا قيست بمقياس الفترة التي كتبت فيها، سواء في العشرينيات او الثلاثينيات او الخمسينيات وحتى هذا الوقت الحاضر.. ولعل الظاهرة الأكثر بروزاً في هذا النثر هذا الرابط العضوي بين تطور النثر وتطور الحياة الاجتماعية في السودان. وقد عثرت على مخطوطتين من القرن التاسع عشر هما طبقات ود ضيف الله (كاتب الشونة في تاريخ السلطنة السنارية)، وهما تعكسان تطور النثر السوداني منذ نشوء مملكة الفونج التي وحدت القبائل العربية في السودان في مملكة قادها عمارة دنقس في القرن السادس عشر. وقد ظهرت العبارة ركيكة في البدء مختلطة بكلمات من الفصحى.. ثم انتقلت الى عبارات اكثر فصاحة وان وصبها السجع المتكلف في اوراد الصوفية والفقهاء. . ومما يذكر أن الفرق الصوفية التي هاجرت الى السودان قد كونت الفئة المستنيرة مع الفقهاء الذين اخذوا باطراف من علوم النحو والصرف والتوحيد، ويؤكد لنا ود ضيف الله أن هؤلاء لم يكونوا يرهبون الملوك والسلاطين، وكانوا يدافعون عن الفقراء، فلم تكن ثمة سلطة مركزية للافتاء والقضاء قبل الحكم التركي الذي تمثل في فتح محمد علي للسودان عام 1821م. وهكذا قام هؤلاء الفقهاء والمتصوفة الذين درس اكثرهم في الازهر، بنصيب موفور في تطور العبارة العربية في السودان. اننا نجد مثلا في اوراد الشيخ المجذوب مجاهدة لتمتين هذه العبارة وترسيخها. وبعد الفتح التركي نجدد النثر في الخطب المنبرية التقليدية المكرورة، وفي ما يذيعه بعض القضاة ورجال الدين على الملأ من نصائح تدعو الى الخضوع لخليفة المسلمين. وبعد اندلاع الثورة المهدية انتقلت العبارة العربية من نطاقها المحصور في الكتب الصفراء، إلى عبارة تلمس نبض الشعب ومطالبه في نبذ سلطة الترك. وكان الإمام المهدي يعتمد على الترغيب والترهيب ومحاولة تجسيم الصورة، ومحاولة الوصول الى قلب القارئ او السامع مباشرة، حتى انه لجأ احيانا الى المنشورات التي كان يعلقها على المساجد.. ثم استخدم المطبعة الحجرية ونشر لأول مناشيره الثورية.. وفي هذه الفترة ظهرت الصحف وتأسست كلية غوردون عام 1902م، لتخريج كتبة وموظفين.. ومنذ نشوء هذه الكلية والمعهد العلمي في ام درمان انتقل الأدب العربي الى مرحلة جديدة متأثرا بالنهضة الشعرية في اواخر القرن الماضي واوائل القرن العشرين الميلادي. وبعد ثورة 1924م وقبلها حاول الاستعمار أن يحبس المثقفين في حلقة ضيقة، وان يكمم نشاطهم... ووجد بعضهم بالرغم من ذلك متنفسا له في الاندية الادبية وفي مجلتي النهضة والفجر.. وفي مجلة الفجر التي ظهرت في اعوام 34 - 1935 - 1937م وقد ظهر على صفحات هاتين المجلتين نتاج قصصي ذو مضمون عاطفي عبر عن أمل المثقفين السودانيين ومطامحهم بعد فشل الثورة وخيبة أملهم في الطبقة التي قادت ثورة مصر 1919م، وقد استبطن هؤلاء القصاصون الادب الشعبي، كما ظهر تأثير المنفلوطي عليهم واضحا ايضا. وقد رافق ذلك بروز نقاد سودانيين كبار يضارعون العقاد والمازني وشكري، مثل محمد عشري الصديق، وعبد الله عشري الصديق ومعاوية نور ومحمد أحمد محجوب.. ويمكن اعتبار بعضهم ولا سيما معاوية نور من أوائل النقاد العرب الذين اهتموا بالاتجاه الواقعي وتقويم العمل الفني شكلا وموضوعا على أساس منه.. وقد كان معاوية نور يقول مثلا: إن الأدب لا يعبر عن الحياة فقط وانما يجب ان يدفعها الى الامام وهو مما قاله مكسيم جوركي بعد ذلك عام 1934م، وهذا الناقد يكشف عن اطلاع واسع على الادب الغربي، وقد قرأ لأدباء الروس العظام، وكتب دراسة عن الإخوة كرامازوف لديستويفسكي وأخرى عن الحرب والسلم لتولستوي وغيرهم. ومما يذكر أن آثار هذا الناقد السوداني وقصصه لم تصدر الا منذ اعوام قليلة، ولم يتح للقارئ العربي ان يطلع عليها قبل ذلك. ٭٭٭ بعد هذا التلخيص لأهم فقرات رسالة الدكتور جيلي عبد الرحمن عن تطور الادب السوداني، سجلنا معه هذا الحديث عن شعره وواقع الشعر العربي الحديث في الوقت الحاضر (9771). قلت للشاعر جيلي: ٭ صمت طويلا وانقطعت عن النشر، فبماذا تعلل ذلك؟ - انشغلت لفترة بأطروحتي وبقراءاتي، ولكنني لم انقطع عن الشعر وان كنت قليل النشر.. انما اصابني شيء من الفتور والعزوف عن النشر حينما رأيت المزايدة التي تفوح منها رائحة الاكاذيب والدنانير احيانا.. وكذلك السيل الذي لا ينقطع مما يسمى القصيدة الجديدة التي تتداعى فيها المعاني دون ضابط او رابط.. وربما يرجع صمتي ايضا الى بعض الظروف الموضوعية التي يمر بها وطني. ولكني حاولت مع ذلك أن انشر بعض القصائد في صحف القطر العراقي الشقيق.. وفي الوقت الحاضر أعد ديوانا للنشر يضم قصائد ليست بالقليلة وسينشر في بغداد او في الجزائر. ٭ وماذا حققت في هذا الديوان الجديد؟ - لا أشك في أن القارئ سيجد في بعض قصائدي محاولات لتخطي الصورة الشعرية في ديوانيَّ الاولين باللجوء الى الصلابة والتخلص من الميوعة العاطفية. ٭ وهل هذا كل شيء؟ وماذا كانت حصيلة الغربة والبعد عن الأهل والوطن، وماذا أكسبك اتصالك بالأدب والشعر الروسي؟ - كانت نبرة الحنين في ديواني الأول (ديوان مشترك مع تاج السر الحسن م.ع) الى قريتي النائية البسيطة، وعاد في «الجواد والسيف المكسور»، حنينا الى مصر والسودان معا، وللكلمة العربية والتراب العربي. وهو اليوم حنين جارف لتحرير أرضنا، وقد عمقت الغربة من حبي وحنيني ووفائي لوطني. وإذا أردت التعبير عما أضافته هذه الغربة الى ثقافتي التي تحصلت عليها هذه الأعوام الطوال، فإني اقول بتواضع إنني تعرفت من زاوية اللغة لروسية على الادب العالمي والشعر الروسي بصفة خاصة.. ولعل هذه الصلابة التي ذكرتها آنفا بعض هذا الصدى.. وهي خاصية يمتاز بها الشعر الروسي بشكل مدهش.. إن بوشكين مثلا ينقل الشحنة الى المتلقى دون ان يتحايل عليه، او يخلب لبه باصداء خاوية.. ولعل هذا هو الداء الدفين الذي يعانيه شعرنا العربي، كما أن الافتقار إلى التجربة الحيَّة هو الذي يدفع الشعر الى التغريب وضبابية الرؤية والتعقيد الذي يكسو مظاهر عمق كاذب، فحين يتصدى بوشكين للتعبير عن شعبه فإنه يصل إلى أبسط قارئ في هذا الشعب دون تمحك أو تعقيد باطل، إنه يصل الى ما نسميه السهل الممتنع، وهذا هو ما حاولته في قصائدي الجديدة، ولا أعني بذلك أن تكون الصورة الشعرية نثرية او منغلقة أو سطحية، إلا أنني أعني بذلك أنه لا ينبغي ان نهرب من المضمون. شكل يغدو قوالب تحتاج فيما بعد الى شكل آخر لتغييرها، فالتغيير في رأيي يكمن في المضمون والمضمون غني وحافل في عصرنا المليء بالبطولات والفضائح، وفي تلك النكسة والغربة التي يعاني منها الإنسان العربي مواضع يمكن أن تلهم شعراء كبارا وتمدهم بتجارب وأشكال ومضامين تخرجنا من هذه السرطانة التي نطالعها في الكثير من أعمالنا الشعرية.