أخيراً.. وآخراً، وربما للأبد. هذه الكلمات قد توحي بأن تصريحات صحفية ساخنة ما قد قيلت لتوها، أو ان خطابا سياسيا ناجزا وضع حدا لاستعمار او ماشابه، او ان حزبا سياسيا قد نال حظوته من أصوات ناخبين، أو ان حدثاً مفصليا جرى، أو ان شيئا معينا خرج من دائرة الحاضر والمستقبل، وبالتالي يشير إلى حياته في برزخ التاريخ، وبالضرورة خروجه الصادق من رحم الممارسة الفعلية والحالية، وهكذا تشي العبارات بدوران في حركة التاريخ وفتح صفحات جديدة في حساب ما يسمى بالمستقبل كما يقول مختصون. ومن هنا تحديداً انطلقت وتنطلق المعادلة السياسية في السودان، لتمضي الى مرفئها الجديد، الذي ينتظر عنده السودانيون، الوطن الذي لطالما أغمضوا اعينهم، ومن ثم فتحها، والسودان الذي ينشدون رؤيته، ليست له أية علاقة واقعية، بالسودان الذي مضى، بحسب كثيرين. غير ان الخطاب السياسي في السودان، والذي تحاصره لغة الاقصاء والعداء والوعيد والتهديد، وتغلفه الآيدلوجيا الحادة، وافرازات الراهن السياسي بكل زخمها، والشد والجذب الشديدين، بين مختلف القوى السياسية، يسار ويمين، ووسط، و(حركات مسلحة)، ومجتمع مدني، وحزب حاكم، كل ذلك كما يشير مراقبون سياسيون جعل منه ساحة ضارية لمعارك هدامة لا تحقق هدف اي خطاب سياسي لاي طرف، بل بالعكس تجعل منه خطابا تعسفيا بعيدا عن الموضوعية السياسية، متجاوزا لآمال الاستقرار والوحدة السياسية والوطنية، لاسيما وان كل الخطابات تتحدث عن سودان جديد، وبمعايير جديدة وأسس تعبر عن إنسانه، وثقافته، وأعراقه، ولغاته، في نفس الوقت الذي تقول فيه جميع الخطابات بانها تملك الاجابات عن تساؤلات المصير الوطني، من دون حوار جدي ولا حتى محاولة منطقية للاستماع للآخر، والعيش تحت سقف الحقيقة المطلقة، التي يمثلها هو دون الآخرين، وهذا ما يقول بشأنه محللون إنه حالة من حالات عدم القدرة على الفعل السياسي، والاضطرار إلى تقديم خطاب سياسي يُعتقد بأنه يلبي كل التطلعات وتبنيه لآراء جموع أبناء الشعب، ومن ثم تصير الحياة والاقتتات على الخطاب السياسي ضرورية، والضرب على وتره والاحتماء بأحلامه وعالمه المخملي الجميل احد مسارات المعترك السياسي الذي تنقصه القوة الفعلية والقدرة على إنفاذ فعل سياسي ناجز وحقيقي يستفيد منه أبناء الشعب السوداني. وفي هذا الاتجاه، يلفت متابعون للخطاب السياسي في السودان، وخاصة في الفترة القليلة التي سبقت انفصال الجنوب وحتى الفترة الحالية، إلى أن كل طرف داخل إطار اللعبة السياسية حاول وسعى لبلورة رؤيته، وكسب كل الظروف المتاحة، من أجل السيطرة، على ما تقول به الناس، وتصوير نفسه وتسويقها كونها تمحض النصيحة الخالصة وترى ما في قرارة قلب الشعب وتسعى لانقاذه وحمايته وتحقيق مكتسابته التي ربما تكون من صنع التاريخ، وربما أحد منجزات طرف معين. وأكدوا أن كل الأطراف السياسية السودانية المتصارعة الآن، نصبت من نفسها وصياً على شعب بأكمله وصار له لسان صدق على حد قولهم، وتجاوزوا إطار المشروعية السياسية والأخلاقية، في بحث كل طرف عن مصالحه الخاصة ومن ثم القول إنه من ينقب عن ذهب الشعب وحتى ماؤه بحسبهم. ويقول أستاذ العلوم السياسية، بجامعة امدرمان الاسلامية، الدكتور محمد حسن عبد الجليل، إن الخطاب السياسي تنتجه سياقات المناخ السياسي السائد، ونوعية هذا المناخ تتحكم بلغة الخطاب، ومن ثم قدرته على العيش داخل خطابات متعددة الأغراض والرسالات والأهداف والمشروعية، ونصح عبد الجليل في حديثه (للصحافة) أمس، القوى السياسية، بأن تتبنى خطاباً سياسياً يستند على حقائق الواقع وألا تكون له صلة بما سماه (افتراضات فهم المواطن)، أي أن يكون شفافاً وصادقاً، ومنصباً ومعززاً لقيم المجتمع الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية بدون زيف أو خداع، لافتاً إلى أن الخطاب السياسي تحكمه بعض القواعد وحالات السلم والحرب والاستقرار وعدم الاستقرار، ونوع نظام الحكم، ديموقراطي، أم غير ديموقراطي، وتكوينات الأحزاب نفسها، هل هي عقائدية، دينية، ليبرالية، علمانية، يمنية، ام يسارية؟. واضاف عبد الجليل ان أزمة الخطاب السياسي الحالي في السودان تتمثل في كونه سطحياً ولا يتعدى المكاسب السياسية الآنية او التكتيكية، وهو ما لا يمكن القول بأنه خطاب يحوي بداخله رؤية سياسية شاملة وكاملة تعبر عن اشواق وتطلعات الجماهير. وتعد الفترة الانتقالية الناتجة عن اتفاقية نيفاشا للسلام 2005- 2011، من أكثر الفترات في تاريخ السودان الحديث التي تشهد إحدى أبرز المعارك السياسية، وكان فيها الخطاب السياسي السلاح الاكثر فتكاً وفعالية وقاد لانفصال الجنوب بحسب المحلل السياسي، احمد قاسم البدوي الذي قال (للصحافة) أمس، إن الحروب والنزاعات التي شهدتها البلاد، جعلت من العنف سيمة من سيمات الخطاب السياسي في السودان، وأشار إلى أن اقصاء واقتلاع الآخر هو مشروع ومضمون الخطاب السياسي في السودان، ونبه البدوي الى ان الساسة وقادة الاحزاب لا يأبهون بما يقولون وما يمكن ان يخلفه حديثهم، وآرائهم التي لا تحقق مصلحة لحزبه او الوطن، لافتاً في السياق الى ان المزيد من الشتات والاختلاف والعداء في طريقه الى فرقاء السياسة في السودان، وحذر البدوي من ان هكذا خطاب لا بد وان يجر البلاد الى ويلات لا يعلمها احد على حد قوله، مؤكداً ان نخباً سياسية معينة تحاول تمرير خطاب سياسي معين، خاصة بعد انفصال الجنوب في 9 يوليو الماضي، إلا انه عاد وقال بالرغم من ان اجندات واهداف اي خطاب سياسي قد تستطيع تحقيق ما هو مطلوب، الا انه في الاخير يبقى من الضرورة بمكان، النظر الى ان ما يدور بالساحة السياسية في السودان ومن ضمنه الخطاب السياسي، يعود الى حالة عدم الاستقرار والنزاع الذي يعيشه السودان منذ فترة ليست بالقصيرة. ويضيف البدوي، وبالتالي الخطاب السياسي يعيش في حاضنة من الاحداث اليومية والمتسارعة بحسب تعبيره-، قائلا من الطبيعي ان يختلف الخطاب السياسي من حزب لآخر، ولكن من غير الطبيعي ألا يكون الخطاب معبراً عن كافة مكونات الوطن.