لم يكن كثير من الرؤساء الذين ذهبت بهم ثورات شعوبهم، لم يكونوا فى أسوأ كوابيسهم يتوقعون ان يرحلوا او «يُرحلوا» بالطريقة التى أذهبتهم بها تلك الثورات التى جمعت بينها قواسم مشتركة من بينها ان الشعوب التى ثارت ظلت مجتمعاتها تعيش لعقود طويلة فى ظروف متشابهة تحت وطأة الحكم الاستبدادى والديكتاتورى لحكامها، وغياب لدور المواطن فى اتخاذ القرارات بتلك الدول، غياب الحريات، ارتفاع نسبة البطالة، عدم التوزيع العادل للثروة وتمركزها فى ايدى فئات قليلة، احتكار حزب واحد للسلطة، ووجود عائلة حاكمة قابضة وتركيز السلطة فى أيدٍ اقلية. وقد كانت عملية التظاهر والاحتجاجات الشعبية صعبة إن لم تكن مستحيلة فى مجتمعات تكيفت مع الاستبداد والقمع لسنين متطاولة، لكن المنطقة العربية شهدت مناخا جديدا ادى الى هيجانات بركانية نتج عنها انهيار دراماتيكي سريع للانظمة الحاكمة فى تلك البلدان . تاريخيا عرف السودان بأنه عميد الثورات الشعبية فى المنطقة بحسب مراقب سودانى استطلعته «الصحافة» حيث أطاح الشعب السودانى نظامين عن طريق الثورة الشعبية اولهما نظام عبود الذى اسقط فى ثورة اكتوبر فى عام 1964م، وجاءت الثورة الشعبية الثانية فى السادس من ابريل فى عام 1985 عندما اطاحت نظام الرئيس النميرى الذى حكم السودان لستة عشرة عاما. وشرارة اندلاع الثورات العربية التى انطلقت فى تونس وسميت «بثورة الياسمين» احتجاجا على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أدت لإطاحة بالرئيس التونسى زين العابدين بن علي الذى حكم بلاده بقبضة من حديد لمدة «23» عاماً، وبعدها انتقل الحريق سريعا كالنار فى الهشيم الى بلدان عربية اخرى اولها مصر التى اطلق شبابها حملة شعبية على موقع التواصل الاجتماعى الشهير «فيس بوك» تأثرا بما جرى فى تونس، حيث دعوا الشارع المصرى للخروج لإسقاط نظام مبارك الذى حكم هو الآخر مصر لمدة 30 عاما، حيث ظلت المظاهرات متواصلة لأشهر حتى كانت الجمعة الاخيرة التى سميت «جمعت الرحيل»، ورحل فيها مبارك ووريثه وزبانية نظامه فى الحادى عشر من فبراير هذا العام. وما حدث فى تونس ومن بعدها مصر جعل الجماهيرية الليبية التى تتوسطهما هى الاخرى تدخل ركب الثورات الشعبية، حيث دعا مئات الليبيين وأبرزهم «حسن الجهمى» عبر صفحات «تويتر وفيس بوك» إلى المطالبة بالاصلاح السياسى، ثم تطورت الى مطالبتهم باسقاط نظام القذافى، حيث برز اتجاه قوى لدى العقيد الليبى لتوريث ابنه سيف الاسلام القذافى أسوة بزعماء عرب آخرين، حيث ظهر الاخير لاعبا اساسيا فى مجريات الاحداث السياسية بليبيا، مثله مثل نجل الرئيس المصرى جمال مبارك. والقذافى الذى يعتبر اقدم رئيس على وجه الارض «حكم ليبيا لمدة 42 عاما» تحولت الاحتجاجات ضده الى مقاومة مسلحة فى مختلف المدن الليبية التى سيطروا عليها فى عمليات كر وفر استمرت لمدة ستة اشهر، انتهت بسيطرتهم على طرابلس العاصمة امس الاول، بينما لايزال الغموض يكتنف مصير القذافى وعدد من ابنائه وافراد اسرته بعد اختفائهم المفاجئ عن مسرح الاحداث، تاركين للمحللين على القنوات الفضائية مهمة وضع السيناريوهات المختلفة لهم بخاتمة غير سعيدة فى كل الاحوال. واليمن الذى ظل يشكو هو الآخر من الفقر والبطالة وغياب الحريات السياسية والحكم العسكرى لعلى عبد الله صالح واقاربه الذين يتقلدون مناصب قيادية فى الدولة والحرس الجمهورى، تحركت فيه احتجاجات شعبية واسعة ولاتزال فى مختلف انحاء اليمن تطالب صالح بالرحيل، وهو الذى ظل يحكمهم لحوالى «30» عاما، ولايزال اليمن بعد عدة اشهر معلقا فى برزخ الثورة بعد اصابة صالح بشظايا نارية فى حادثة تفجير مسجد الرئاسة، وبقى يتعالج منها فى المملكة العربية السعودية ولا ينوى التخلى عن السلطة حتى الآن، وبقيت ساحات مدن اليمن أرضا دائمة للمتظاهرين فيها، الذين يرتقبون نهاية احتجاجاتهم برحيل من لا يود ولا يرغب فى الرحيل. الاسد الابن الذى ورث حكم سوريا من والده حافظ الأسد وزاد حكمهما معا عن الاربعين عاما، ثار الشارع السورى ضده فى مدن درعا وبانياس وحمص وغيرها، مطالبين بالإصلاح السياسى ومن ثم رحيل الاسد وحكم حزب البعث، ولم يتوان الأسد ولا حكومته فى الضرب بيد من حديد مازالت تطحن دون رحمة جميع جيوب المتظاهرين بآلة عسكرية واسلحة ثقيلة من قبل اسرته الكبيرة فى الحرس الجمهورى والجيش «قائد الحرس اخوه الأصغر ماهر الاسد وذات المنصب يشغله فى اليمن ابن الرئيس اليمنى». وتظاهرات سوريا بقيت قوية فى اجهزة الاعلام، لكن مازالت الحياة تسير بصورة شبه عادية فى معظم انحائها، ولم يستبن لها آخر فى القريب إلا أن تؤججها، بحسب مراقبين، وتيرة ما يجرى الآن فى ليبيا من احداث متسارعة بعد ما يقارب الستة أشهر. ومن زاوية اخرى انتقلت حمى التظاهر والاحتجاجات الشعبية من الدول العربية الى مناطق اخرى فى العالم، من بينها دولة الكيان الصهيونى، حيث شهد ميدان روتشيلد فى عاصمته تل أبيب، نصب المحتجين خيامهم «على نسق ما حدث فى ميدان التحرير بمصر» وهتف عشرات الآلاف منهم «ارحل» احتجاجا على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية فى الكيان الغاصب. وذكر المحتجون اليهود ان ما يجمع احتجاجاتهم مع ما يحدث فى دول عربية اخرى، ان القاسم المشترك بين المشهدين يكمن فى بروز قدرة الشارع على تحريك الامور فى غياب التحرك السياسى. وعلق احد المحللين الاسرائيليين بأن الاحتجاجات فى العالم العربى تصل ذروتها فى كل يوم جمعة، بينما تخرج التظاهرات الضخمة فى اسرائيل ليلة السبت. وعاصمة بريطانيا التي ضربتها موجة تظاهر عنيفة من قبل شباب غاضبين لبضعة أيام، ما جمعها بما حدث فى اسرائيل «قصر النفس» لدى المتظاهرين على عكس ما يحدث فى الشارع العربى، وهو ما أرجعه البعض لتمتع كلا البلدين بنظام حكم ديمقراطى على عكس الدول العربية.