وقف المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي في مؤتمر صحفي وقال أشياء مدهشة لا تشبه هذا الزمن ولا رؤساء هذا الزمن. قال إنه سيقدم كل المتورطين في الإضرار بليبيا في فترة حكم القذافي لمحاكمات عادلة تقدم على أسس التقاضي الصحيح الرصين. ودعا إلى حقن الدماء وألّا يسفك دم أي أحد خارج إطار القانون، وحتى القذافي قال عنه إنه مواطن ليبي له كرامته وأنه إذا قبض عليه سيحاكم بعدالة وتجرد، وأنه لن يوقع إليه إلّا ما ينطق به القاضي من العقوبات وكذلك أبناء القذافي سيعاملون على نفس النسق. وقال إن الثوار ينبغي أن يتحسسوا مواقع أقدامهم فلا يؤذوا الأبرياء ولا يتعرضوا بالسلب والنهب لممتلكات الناس تحت غطاء الثورة والهيجان. ومضى الرجل إلى أبعد من ذلك فقال إنه سيستقيل متى ما تبيّن له أن من يعملون معه لا ينفذون قراراتٍ معينة كان قد أمر بتنفيذها. ثم لم يكتف (حتى) بذلك بل قال إنه سيقدم نفسه للمحاكمة بسبب أنه كان وزيراً سابقاً في فترة سابقة في حكومة العقيد معمر القذافي، وأنه سيقدم دفوعاته للمحكمة في مواجهات أية اتهامات تنشأ جراء تعديه على الحق العام أو تقصيره فيه؛ والأمر بعد ذلك للمحكمة تجريماً له أو تبرئة! هذا الرجل يخرج بذلك عن (الزمن) أو Tempo السلطة المتعارف عليه الآن في مشارق بلاد المسلمين والعرب ومغاربها ولو قارناه بمواطنه العقيد القذافي سيكون الفرق كالفرق بين الليل والنهار والسماء والأرض، فالقذافي إلى الآن يقتل من أجل البقاء في السلطة ذلك البقاء الذي امتد به إلى قريب من نصف قرن ومع ذلك لم يكتف الرجل وضحاياه الآن قد تجاوزوا العشرين ألف قتيل كان يمكن أن يحقن دماءهم جميعاً لو استقال بمجرد أن قال له الناس (إذهب)، ولكنه الآن سيذهب بعد أن سال كل ذلك الدم وتحطمت ليبيا لأن شخصه (العظيم) أعظم في عينيه من بلاده كلها وشعبه كله. والأمثلة خارج ليبيا معروفة لا نكررها خوف السأم والملال. قالوا إنه بعد وفاة الخليفة المعتز العباسي نصّبوا ابنه عبد الله بن المعتز الأديب الأريب التقي النقي العالم الثبت الحجة مكان أبيه، وعين هو ثلاثة أشخاص من أعدل الناس وأنقاهم وأتقاهم وأكثرهم استقامة... فلما بلغ ذلك محمد بن جرير الطبري العالم صاحب الفكر والنظر والفتح قال: ابن المعتز خليفة وفلان وفلان وفلان وزراؤه؟! والله هذا أمر لن يدوم إلّا بضعة أيام لأن الزمان مدبر والدنيا مولية، وكل واحد ممن ذكرتم متقدم في معناه عالي الرتبة فهم لا يشبهون هذا الوقت ولا هذا الوقت يشبههم... فما مضى اسبوع او نحوه حتى وثب بعض الواثبين على ابن المعتز وسجنوه وما خرج من السجن إلّا ميتاً... اسأل الله للمستشار مصطفى عبد الجليل السلامة والتوفيق، ولكنه لن يستمر حاكماً في هذا الزمن إلّا بمعجزة من السماء!