في أجواء الثورات العربية تبرز عدة مشكلات معقدة، وذلك على الرغم من الروح الايجابية العامة التي ينطوي عليها هذا الفعل وخصوصا في الإطاحة بأنظمة أثبتت فشلها طوال عقود أرهقت خلالها الشعوب وبددت ثرواتها ووضعتها بشكل عام أمام مستقبل مظلم. وتبدو مشكلة التدخلات الأجنبية واحدة من هذه المصاعب التي يواجهها الثوار في ليبيا، وتشمل التساؤلات المطروحة ما إذا كان حلف شمال الأطلسي «ناتو» سيكتفي بما حققه حتى الآن، حيث ساعد الثوار في الاطاحة بنظام القذافي.. وهل سيكف الحلف عن التدخل بعد أن أنجز مهمته التي تمت بناءً على القرار الصادر عن مجلس الأمن «1973» والقائل بحماية المدنيين من المذابح التي ترتكبها كتائب القذافي. ومن الصعب توجيه نصائح إلى الأنظمة المتهالكة بشأن الأخطار التي يمثلها التدخل الأجنبي، ومع ذلك فلا بد أن تدرك تلك الأنظمة أن هناك تكلفة باهظة للوجود الأجنبي، تتمثل بصفة خاصة في أنه يستهدف أولاً تأمين مصالحه الخاصة ولو على حساب الذين يطلبون عونه، ذلك على الرغم من أنه كان له دور محوري في زعزعة نظام القذافي. وترى دول نافذة مثل روسيا أن الناتو تجاوز نصوص القرار «1973»، وأن الضربات الجوية قتلت الكثيرين من المدنيين، بينما يقول رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل، إن قوات التحالف الدولي لم تقتل أي مدني ليبي خلال طلعاتها الجوية التي فاقت الخمسة آلاف ضربة عسكرية، نافيا بذلك ما يردده إعلام القذافي من سقوط ضحايا من المدنيين. ومع مرور الأيام وبعد أن تمكن الثوار من السيطرة بشكل كامل تقريبا على العاصمة طرابلس، فقد أقر قادة غربيون أن عمليات استخبارية بإشراف الدول الغربية انطلقت بحثا عن القذافي الذي أفلح أفراد من عائلته في التسلل إلى الجزائر المجاورة.. وإلى هنا تبدو الأوضاع على شاكلة السيناريو الذي حدث في العراق عند البحث عن صدام حسين، وقد أدركت القوى الغربية، ممثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 2003م، أن هناك دورا محوريا للمخابرات في عمليات البحث هذه.. وتقول صحيفة «الاندبندنت» البريطانية أن الثوار الليبيين تلقوا دعما من فرق صغيرة الحجم تابعة للمخابرات الأمريكية إلى جانب مجموعات استخبارية بريطانية وفرنسية، وذلك مقارنة بحجم القوى الكبيرة نسبيا التي شاركت في البحث عن صدام حسين، غير أن المهمة في ليبيا ربما تبدو أسهل بعد تشتت كتائب معمر القذافي، لكن البحث يتم في ليبيا في مساحة تقدر بحوالى 68 ألف كيلومتر مربع، أي أكثر من مساحة العراق عدة مرات. وتطرح مشكلة التدخل الاستخباراتي هذه تحديات جمة، فرجل الاستخبارات الذي يشارك في ملاحقة القذافي مع الثوار لن يهتم فقط بهذه المطاردة وإنما ينصرف اهتمامه أيضا إلى كامل البيئة البشرية التي يعمل في إطارها، ولن يتوقف عن جمع المعلومات والاستقصاء عن كل ما يصادفه أو ما يسعى اليه، إلى جانب تكوين علاقات على الصعيدين الشخصي والعملي، وهو يعلم تمام العلم انه يعمل في وسط قبلي حساس، وإلى هنا وغيره يبدو بوضوح كيف أن التدخل الأجنبي لا يخلو من سلبيات قد تكون ماحقة، مع الوضع في الاعتبار أن التدخل أصلاً لم يتم فقط من أجل عيون الليبيين، وإنما أيضا وبصفة خاصة لخدمة مصالح الدول المشاركة. ويهم فرق المخابرات الغربية، وهي تبحث عن القذافي، التدقيق في المعلومات التي تتحدث على سبيل المثال عن وجود مقاتلين إسلاميين وحتى من القاعدة ضمن صفوف الثوار، ومعرفة دورهم في هذه الحرب ومدى ما يحظون به من شعبية.. ولهذا فإن هذه الجهود الغربية لها ثمن باهظ من جهة أنها اختراق تحت رايات الشرعية في الدولة الليبية. وقال الأدميرال سام لوكلير، قائد عمليات قوات التحالف في ليبيا الأسبوع المنصرم، إن سياسة الناتو تجاه ليبيا لا تتضمن إشراك قوات برية، لكن وجود مثل هذه القوات يعتمد على قرار المجلس الوطني الانتقالي الليبي، وهو من يحدد الكيفية التي يتم بها العمل في المرحلة المقبلة، وأشار إلى أن الحلف يمكن أن يشترك في عمليات إنسانية «إذا ما طلبت منا ليبيا ذلك»، بينما دعا جلال الدغيلي وزير الدفاع الليبي إلى استمرار الدعم العسكري واللوجيستي من جانب التحالف لإعادة الأمن والقضاء على الخلايا النائمة من بقايا نظام القذافي. ونفى الدغيلي وجود متطرفين بين الثوار، وقال: لا يوجد تطرف ونحن نؤمن بالوسطية، فالثورة الليبية هي ثورة وطنية بكل المقاييس، ونتمنى أن ينتشر عبرها السلام والأمن في العالم. ومن جانب آخر فقد نفى قادة الثوار أنهم وعدوا بأن تذهب جل الصفقات النفطية إلى الأصدقاء الذين ساعدوهم وشاركوا بفعالية في الإطاحة بنظام القذافي، حالما يتبدد غبار المعارك الجارية حتى الآن.. وعلى الرغم من هذا النفي فإن الشركات البريطانية والفرنسية تبدو متأهبة الآن لقطف ثمار جهود الدولتين في الحملة الجوية ضد نظام القذافي.. بل يتردد أن محادثات تمضي حالياً على قدم وساق بشأن اقتسام الكعكة الليبية، ويقال إن شركة النفط البريطانية قد تعهدت بإنفاق حوالى مليار دولار على خطط خاصة بعمليات الاستكشاف، كما أن لشركة شل وتوتال الفرنسية دور كبير بهذا الصدد للاستئثار بحصة من إنتاج ليبيا الذي كان يبلغ قبل الحرب 1.6 مليون برميل يوميا ويمثل 2 بالمائة من الإنتاج العالمي. ويشكك الخبير النفطي صمويل كوزلك، حسبما ذكرت صحيفة «الجارديان» البريطانية، في أن يكون الثوار قد تعهدوا بتخصيص معظم الكعكة النفطية للأصدقاء الذين يشاركون في ملاحقة القذافي، ويقول إن مثل ذلك التعهد هو من بنات أفكار أنصار القذافي، وقد قصدوا به إظهار الثوار وكأنهم يسلمون ثروات البلاد إلى القوى الأجنبية، وأشار في ذات الوقت إلى أنه من الخطورة بمكان أن يعمد الثوار إلى إلغاء التعاقدات القديمة مع شركات عملت طويلاً في مجال النفط، خاصة أن الثوار يتطلعون إلى استئناف عمليات ضخ النفط بأعجل ما يكون للوفاء باحتياجات إعادة البناء.