نذر الحرب ونذارات الخراب والدمار التي بدأت ملامحها الكالحة تلوح في أفق البلاد، لا تبشر بخير ولا تدعو للتفاؤل، وإنما تنذر بنكوص على الأعقاب وإرتداد وردة إلى المربع الأول، مربع ما قبل نيفاشا وإتفاقية السلام التي إنقضت بخيرها وشرها، خيرها الذي أوقف الحرب وشرها الذي أدى إلى إنفصال الجنوب عن الوطن الكبير وإستقلاله كأحدث دولة تنضم إلى منظومة الأممالمتحدة... لقد هيأت نيفاشا رغم كل شيء ورغم ما يمكن أن يؤخذ عليها فرصة تاريخية نادرة للبلاد كان المأمول أن تعبر بها كل الأزمات التي أقعدتها وتضعها على المسار الصحيح، ولكننا للحسرة أضعناها بالمزايدات والمماحكات والمكائد وتدبير المقالب وتغليب المصالح الضيقة والأثرة الفردية والانانية الحزبية، بدلاً من إعلاء مصلحة الوطن وتلبية أشواق الجماهير للديمقراطية والسلام والتنمية وإحتلال البلاد موقعها القمينة به بين الكبار الذي تستحقه عن جدارة بما تملك من معطيات وخيرات تؤهلها لذلك، ولكنها الصغائر ولكنهم الصغار الذين عجزت أطماعهم الضيقة وطموحاتهم المحدودة عن أن تنظر أبعد من حدود الذات الشخصية والحزبية، وكنتيجة طبيعية لذلك أضحت البلاد ضحية وما أنفكت تراوح مكانها بلا إنفكاك من الحلقة المفرغة التي ظلت تدور فيها منذ الاستقلال، صراع على السلطة بكل الوسائل وتبديد للموارد بلا طائل وإضطرابات لا تنقطع وإختلال في التنمية وقسمة ضيزى في توزيع الثروة على قلتها وإستعلاء عرقي وهيمنة ثقافية وإزدراء للتعدد والتنوع، وكل هذه أدواء دفينة تقبع في عقول كثير ممن بيدهم الامر وإن انكروها صراحةً وأباحوا بغيرها علانيةً... لقد إنزلقت هذه البلاد من قبل إلى أتون حرب ضروس تطاول أمدها إلى نحو عشرين عاماً بعد هدنة سلام أديس أبابا التي إنهارت بعد مرور حوالي عشرة أعوام على توقيعها، فماذا إستفدنا من هذه الحرب ومن الذي كسبها، لم نستفد شيء ولم يكسبها أحد، حتى أصاب الطرفين الرهق والمجتمع الدولي القرف، فتنادى المتحاربون إلى كلمة سواء، ولكن المؤسف بدلاً من أن تسير الامور بعد ذلك على الطريق السوي، إذا بها تتضعضع وتتراجع الآن بشكل يدعو للقلق من أن تعود سيرتها الأولى إلى مرحلة ما قبل السلام وما أدراك ما تلك المرحلة على كافة المستويات، والقاعدة الذهبية تقول أن أي تجربة لا تورث حكمة تكرر نفسها، فهل لم نعتبر من التجارب المريرة للحروب وخرجنا من درس نيفاشا صفر اليدين لنعود ونكرر ببلاهة ذات المخازي ونجر البلاد إلى ذات الخوازيق بل أشد وأضل على ما كان عليه الحال من قبل، فلو أن الحال الآن قد إرتد وعاد القهقري كالعُرجون القديم، فلن يكون بأي حال مثل السابق، وإنما أكثر ضراوة وأعم خراب وأشمل ضياع وأضخم كارثية مما يتوقعون ويقدرون وعندما تتشظى البلاد كرقاع الشطرنج إلى كانتونات ومشيخات وسلطنات وبيوتات سيعلم القوم أي مقلب للقمامة قد قلبوا فيه البلاد... لقد ذهب الجنوب التاريخي والجهوي والأثني إلى حاله، فهل نريد أن نخلق جنوباً بديلاً للذي مضى بذات المواصفات وقريباً من السحنات واللهجات والقضايا والأزمات، أم ماذا هناك بالضبط، وماذا يمكن أن نسمي ما يدور الآن عندما يتم رفض إتفاقية كانت مؤهلة وقادرة على تجاوز كل الذي هو حادث الآن، وبدلاً منها يتم شحن النفوس بالبغضاء وشحذ الاسلحة للعداء، إنها الحرب والخراب بلا شك بديلاً لأي بارقة أمل أو رؤية سديدة أو مشروع وطني يقوم على ساعد الرضا وساق القبول...