ينام محدقاً في سقف الغرفة في ذهول غريب. عقد يديه تحت رأسه. لا يحس بوجودهم. نقاشهم حامي الوطيس عن المباراة المرتقبة بين فريقي النصر والعين. جولة الغد في ميدان سباق الخيل. كانوا يلعبون الورق في شكل دائرة غير متناسقة. نادوه للعشاء. أكل دون رغبة دون شهية بأطراف أصابعه من طرف الاناء، كأنه يأكل لقيمات من نار، بعدها احتمى بسريره. ساورهم القلق عندما يتصرف أحدهم بهذا الشكل فالأمر جلل، تبادلوا النظرات.. فكروا. ربما الحنين إلى الوطن. برح به الشوق. الضغوط في مكان العمل.. وضعهم المالي الصعب. ارتفاع الايجارات. غلاء المعيشة. صارت لديهم خبرة كافية لانتشال أنفسهم من هوة اليأس ودوامة الملل. لاطفوه بالكلمات الحلوة المهزارة. القفشات. التعليقات. النكات. كل ما يمكن أن يجلب البسمة لوجه عبوس، عندما أكثروا من السؤال.. قال بهدوء: أنا راجع البلد... نهائي، وحأستقيل من الشركة كمان. هتفوا باستغراب يشوبه المزاح يا توبلد....؟ السودان، يعني حأمشي وين اليابان؟ ردوا عليه: هو فضل فيها سودان ماشي تسوي شنو تقلبها؟ يا راجل متين، وحتستقيل كمان قال بجدية وهو يقطب ما بين حاجبيه بعد ستة شهور بالضبط حأرجع البلد وقف على مهل. على مرأى من الجميع كتب بخط أحمر كبير تاريخ سفره على الحائط، رسم الكلمات رسماً فوق سريره بالضبط. تدافعت الأيام بمناكبها العجلى. الزمن هنا يمضي أسرع من أي مكان في العالم. تنظر اليوم في المرآة وترتب شعرك الأسود لكن بعد عدة أسابيع تجده قد أبيض وأنت شخت برز لك كرش محترم. تمشي متثاقلاً. لكنه كان يتغير عكس المألوف. كان نحيلاً في الأصل لكن ازداد نحولاً. كان يبدو كمن يقوم بأداء طقوس شعائرية لديانة سرية. يذهب وحده إلى الأسواق في رحلات مكوكية. يعود محملاً بأكياس يحرص أن لا يعرف ما بداخلها أحد. اقتصد في كل شئ. الكلام. الأكل. النوم. في أحد الأيام (لا يهم أن تذكر متى) طرأ تحول غريب على حياة عبد الواحد، علق على الحائط جدولاً بتحركاته. تواريخ. جمل غير مترابطة تعلوها «بسم الله الرحمن الرحيم» بخط كبير تحتها كتب «أنا أخوك يا عديله». بدأ يولي اللون الأخضر بكل درجاته عناية فائقة، دهن به كل شئ في غرفته. خزانة ملابسه. سريره. طاولة أغراضه الخاصة. حتى الكتابة البارزة باللون الأحمر فوق سريره أعاد كتابتها باللون الأخضر، اشترى ملاءة خضراء اللون فرشها على سريره، لم يكن ينام إلا مرتدياً جلابية خضراء. غرقوا في بحر من الحيرة، عقدوا جلسات تفاكر في غيابه قبل أن يتوصلوا لقرار بشأنه، عاد من السوق وهو يحمل سيفاً عربياً معقوفاً، دهن غمده باللون الأخضر، علقه على الحائط فوق سريره، فضل الله زميله في الغرفة دب الخوف في قلبه، رفض ليلتها أن ينام معه، قال لهم وهو يهز رأسه. كل شئ عرفناه، بقى فيها سيوف كمان الفاتح عقلهم المفكر، ربان سفينتهم في دولة الامارات طويل القامة قوي البنيان، حفظ القرآن في الخلوة منذ طفولته، تعطيه النظارات الطبية نوعاً من الهيبة، يتولاهم بقدر من الرعاية الأبوية، لا يخالفون له رأياً، سعى لاحضارهم جميعاً إلى هنا للعمل، انه فيلسوف حياتهم، عقلهم المفكر.. قال: الحمد لله مواعيد سفره للسودان قربت، لا من يرجع لأهله حيبقى كويس، ده زهج غربة ساكت. صمت لوهلة.. واصل حديثه. أنا اقنعتوا يأخذ اجازة طويلة ما يقدم استقالته من الشغل، هو طوّل ما سافر السودان، أنا حأكتب جواب لأهله، عبد الواحد ده لازم يعرس عمرو قرب للثلاثين. عبد الكريم أصغرهم سناً حاول أن يجادل: غايتوا الزول ده حيعمل ليهو عملة كبيرة ما مفهومة، يا هنا يا في السودان، قاعد يستعد لحاجة عارفها هو براه. الفاتح كان أكثر وضوحاً وصراحة قلت ليكم الراجل ده عاوز ليه مره، عبد الواحد ده مسقرط. لأول مرة يحتجون على تفسيره لحالته، تجادلوا تشابكت أصواتهم، أجبرهم مكاوي على السكوت، هو أكثرهم تديناً، يصلي الصبح حاضراً في المسجد القريب من العمارة التي يقطنون بها. والله يا جماعة الزول ده بالأنا شايفوا فيه ده يمكن يكون دروش. ردوا عليه في تهكم ليه عشان بقى زي العجوره لابس أخضر في أخضر، هي الدروشة دي هينة كدي، عمركم شفتوا ليكم درويش شايل سيف؟ رد عليهم بثقة أيوه.. مالو، هو منو غير الدراويش قاعد يلبس أخضر في أخضر، كمان هو طالع نازل زي الدايش كده، وقاعد يتمتم بكلام غير مفهوم، دي من علامات الدروشة. حسم الفاتح الحوار بطريقته الأبوية الأمر. خلاص يا جماعة هو حيدروش كيف، ما هو أي درويش لازم يكون عنده شيخ و«قبة» شفتو ليكم «قبة» هنا؟. حيدروش كيف، وهو ما مشى السودان ليهو كم سنة بالمراسلة؟ مكاوي لم يتراجع، استمر يجادل والله يا جماعة في واحد دروش قبل كده في خورفكان، لكن ما قدر يربي شعروا، لأنه كان عندو صلعة، الدروشة دي حالة انجذاب تجي للزول النيتولي الله صافية، ما أظن لازم يكون عندو شيخ، غايتو لو ربا شعرو يكون دروش. لم يردوا عليه، حدجه الفاتح بنظرة غاضبة من خلف نظارته الطبية، جعلته يلزم الصمت هذه المرة. تمضي الأيام لم يهتم أي منهم بسؤاله عن مسيرته الخضراء تعودوا على رؤيته غادياً دائماً أخضر اللون يتأبط سيفه الأخضر، استمرت حياتهم على منوالها السابق، انهم لا يتعاملون مع الألوان والأفكار، بل وقائع الحياة اليومية، مالهم وماله مادام لا يؤذي أحداً. تطحنهم ماكينة العمل صباح مساء - يؤدون صلواتهم بانتظام يحاربون الملل بلعب الورق. يأكلون كل يوم الدجاج ببهارات الكاري. الفول. عبد الواحد أيضاً تجاهلهم، حتى وجبات الطعام لم تعد تجمعه معهم. كان أحياناً يخرج سيفه من غمده يجلوه بعناية يعيده إلى مكانه. تبقى شهر واحد على الموعد الذي حدده لسفره. عودته الاختيارية والنهائية للسودان. لم يسأله أحد اذا كان سيسافر أم لا، جمعوا مبلغاً من المال لاعطائه له. أحد معارفهم من قريتهم التي أتوا منها. تقع قرب مدينة الأبيض زارهم مرة جاء خصيصاً من أبو ظبي.. سألهم في استغراب. انتوا عبد الواحد ده جن ولا شنو؟ ليه مالو؟ ده وقت الواحد فيه يمشي السفارة بتاعة المشاكل دي، وكمان لابس كلو أخضر في أخضر وشايل له سيف كمان، انزعجوا كثيراً، بان القلق في عيونهم، رد عليه الفاتح في حدة طبع تعودوها منه عندما تقتضي الضرورة. ياآخي يلبس اللون الهو عاجبو، ما هو الشوارع مليانة ناس لابسين كل الألوان في زول سألهم، بعدين يشيل سيف ولا بندقية الناس دخلها شنو؟. تتبعوا أخباره في صمت وحيرة. تخطت مسيرته اللونية الخضراء حدود شقتهم ومدينتهم، أخيراً تدخل الفاتح.. سأله في ود بعد أن جلس قربه على السرير، وضع يده على كتفه. أخوي عبد الواحد.. أنت قررت خلاص تسافر في مواعيدك؟. ولا حاتأخر ولا يوم. على بركة الله، ترجع لأهلك بالسلامة. يعمل الفاتح في مجال الأعمال الحرة، وهو يدير أعماله الخاصة في السمسرة والترحيلات، تفرغ لمساعدة عبد الواحد لينجزا معاملات السفر، كانا يشاهدان سوياً في كل مكان، قسم الشحن بمطار دبي، مكتب وكالة السفر والسياحة، كانا يتجولان في كل مكان، كأن عبد الواحد يودع المدينة. عصر أحد الأيام الممطرة مطراً خليجياً مبكراً يماثل طلائع «رشاش» الخريف في وديان كردفان، انتشى عبد الواحد المسلول كسيفه الأخضر، الممتلئ عظاماً بارزة، ارتدى جلابيته الخضراء، تناغمت مع عمامته الخضراء، ومركوب دهنه باللون الأخضر أيضاً، حمله الفاتح إلى مطار دبي الدولي بسيارته. أقنعه بأن يشحن سيفه المدهون باللون الأخضر. ممنوع حمل الأسلحة داخل الطائرة. طول الطريق إلى المطار كان يدمدم في صوت مكتوم الله وأكبر عليكم، الله وأكبر عليهم. لم يسأله الفاتح عن الذين يتوعدهم بالويل والثبور، فهو يعرف أنه سيرجع عادياً عندما يتزوج بنت الحلال. وصلا إلى المطار، صعد إلى الطائرة وهو في كامل هيبته الخضراء، كان ايقاع قطرات المطر يتواتر على جسد الطائرة التي تهدر في مطار دبي، كأنه صدى مئات الطبول الصغيرة. الشمس المتمردة لم تغرب بعد، كانت تبدو مثل برتقالة عملاقة معلقة في الأفق. تجمعوا في شقتهم في انتظار عودة الفاتح من المطار. الشمس تسرع للغروب، لا تزال قطرات المطر الخليجي المبكر تتساقط، تقرع طبولها الصغيرة زجاج نافذتهم هذه المرة. تفوح من المكان رائحة لحم دجاج مطبوخ بالبهارات الهندية. ناح من بعيد طائر لعله غراب هرم أو نورس خاف أن يدركه الظلام وهو محلق في الأجواء. من شقة مجاورة يسكنها زملاء لهم ارتفع من جهاز التسجيل صوت الفنانة «قسمة» تغني أغنية شعبية قديمة من أغنيات السباتة بمصاحبة الفنان «ترباس» يا يمه أناووب عليّ يا يمه أنا ووبين عليّ الدكاتره كشفوا القلب لقوا قلبي زايد ضرب لا تزال قطرات المطر الخليجي المبكر تتراقص على النوافذ الزجاجية العريضة في شقتهم. الفاتح لم يصل بعد من مطار دبي، عندما تتكسر ذرات الماء على النوافذ الزجاجية العريضة تتداخل دوائر الطيف اللوني في بعضها، تشكل مهرجان قوس قزح مكتمل الدائرة، أحس به الجميع عندما سقط في وسط الغرفة أشاع جواً من البهجة والتفاؤل.