ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    الجزائر تتفوق على السودان بثلاثية نظيفة    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    وفاة مسؤول بارز بناد بالدوري السوداني الممتاز    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تراجع دور الدولة في مجال التنمية والخدمات
تطور القطاع الخاص في السودان خلال فترة ما بعد الاستقلال (1)
نشر في الصحافة يوم 15 - 09 - 2011

تتناول هذه الورقة تطور القطاع الخاص في السودان خلال فترة ما بعد الاستقلال ، وذلك بهدف متابعة نموه وتطوره ودوره في التنمية الاقتصادية الاجتماعية ، ومن ثم تحديد وضعه الراهن وإمكانيات مساهمته في إعادة الإعمار والتنمية في الفترة الانتقالية الجارية . وتنبع أهمية هذه المتابعة من حقيقتين أساسيتين هما :-
أولا : تراجع دور الدولة في مجالات التنمية والخدمات خلال سنوات حكم الإنقاذ، ومن ثم اعتماد القطاع الخاص لقيادة عملية التنمية والنشاط الاقتصادي في البلاد.
ثانيا ً: سيطرة ايدولوجية السوق الحر وما يسمي باللبرالية New Libralism الجديدة علي مسرح الاقتصاد العالمي، وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي السابقين وفشل تجارب التخطيط الاقتصادي والاجتماعي ودولة الرفاهية في بلدان العالم الثالث .
ونتيجة لكل ذلك لم تعد المشكلة في أقرار دور للقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، وإنما حول ترشيد هذا الدور ودفعه للمساهمة في البناء والتنمية في ظروف محلية وإقليمية ودولية صعبة ومعقدة . وفي السودان كان الأمل أن توفر فترة ما بعد الاستقلال فرصاً واسعة لنمو وتطور القطاع الخاص ، بحكم دور الدولة التاريخي في تنميته وتطويره .. ولكن سيطرة الأنظمة العسكرية علي معظم سنوات ما بعد الاستقلال (39 عاما من مجموع 50 عاماً) وعدم استقرار الأنظمة الديمقراطية (فترات قصيرة ومتقطعة ) كل ذلك أدى الي عرقلة نموه وتطوره وأدخله في صعوبات وعقبات أشد قسوة من ما كان يعانيه في فترة الحكم الثنائي (1898 - 1956) ويلاحظ هنا أن الانظمة العسكرية الديكتاتورية ظلت ترفع شعارات التنمية وتشجيع ودعم القطاع الخاص والانفتاح الاقتصادي وغيرها، وذلك بهدف تبرير مشروعيتها وتأكيد أهليتها في مواجهة الانظمة الديمقراطية . وبحكم مصادرة الديمقراطية تمكنت من اعداد وتنفيذ خطط اقتصادية / اجتماعية عديدة (الخطة العشرية في عهد الحكم العسكري الأول، الخطة الخمسية والستية في عهد الحكم العسكري الثاني ، الاستراتيجية القومية الشاملة والاستراتيجية ربع القرنية وخطط أخرى في عهد الحكم الشمولي الثالث) ومن خلال هذه الخطط ظلت هذه الانظمة العسكرية تتحكم في مسار التنمية بشكل عام ونمو وتطور القطاع الخاص بشكل خاص، كما سيتضح في الصفحات القادمة . وسوف تبدأ الورقة بعرض الوضع العام للقطاع الخاص عشية اعلان الاستقلال ، ثم تتابع في الفقرة الثانية تطوراته في الفترة الممتدة من الاستقلال حتى عام 1969م ودور الدولة في دعمه وتشجيعه للمشاركة في التطور الاقتصادي في البلاد. وفي الفقرة الثالثة تتناول الورقة تطورات الفترة الممتدة من انقلاب 25 مايو 1969 حتى الآن ، ثم خاتمة واستنتاجات حول امكانيات تطور القطاع الخاص في الفترة اللاحقة.
* القطاع الخاص عشية اعلان الاستقلال :
(2) عرف السودان، منذ حقب بعيدة ، النشاط التجاري الداخلي والخارجي واقتصاديات السوق والتبادل السلعي والنقدي ، بالاضافة الي النشاط الزراعي والصناعات الحرفية والتقليدية . وذلك في إطار بنيان اقتصادي اجتماعي تقليدي يقوم علي الاكتفاء الذاتي وانتاج ضروريات الحياة ، والتجارة الطويلة المدى مع محيطه الاقليمي العربي والافريقي والدولى. وقد أدى ذلك الى اتساع النشاط التجاري، والتطورات الاقتصادية / الاجتماعية المرتبطة به ، في الفترات السابقة للحكم الثنائي (1898 - 1956) وجاءت قوات الاحتلال البريطاني في 1898 لتقطع الطريق امام هذا النمو والتطور الداخلي الطبيعي وأمام القوى الاجتماعية التي ظلت تقف خلفه ، وبالذات الطبقة التجارية ، ومن ثم وضع البلاد في مجرى تطور مغاير يقوم علي اعادة صياغة الاقتصاد الوطني علي اساس نهج تطور رأسمالي تبعي مرتبط بالسوق الراسمالية العالمية (البريطانية اساساً) على حساب الاحتياجات الاساسية للسكان وارتباطاته الداخلية والاقليمية . وضمن هذا الأطار نشأت الفئات التجارية أو ما يمكن تسميته (فئات الراسمالية المحلية) خلال فترة الحكم الثنائي . صحيح أن محاولة دمج السودان في السوق الراسمالية العالمية بدأت في فترة الحكم التركي / المصري (1821 -1885) ولكنها كانت محدودة الأثر . وجاء الحكم الثنائي ليقوم باستكمال هذا الدمج بصورة حاسمة وعميقة . وبعد مرور اكثر من خمسين عاماً كانت ملامح الاقتصاد السوداني تتميز بالاتي :-
* هيمنة النشاط الزراعي ، حيث كان يساهم بحوالي 61% من اجمالي الناتج المحلي ويعتمد عليه اكثر من 85% من السكان .
* قطاع صناعي ضعيف يساهم بحوالي 1% فقط في الناتج المحلي الاجمالي ويستوعب أقل من نصف الواحد في المئة (0.5% ) من القوى العاملة. وفي الوقت نفسه أدت عملية الاندماج في السوق العالمي الي تدهور قطاع الصناعات الحرفية التقليدية لتساهم بحوالي 3% فقط في الناتج المحلي .
* قطاع الخدمات يساهم بحوالي 35% وهي نسبة كبيرة تعكس الدور المؤثر الذي بدأت تلعبه مؤسسات التجارة والتوزيع والنقل والخدمات.
* في هذا الأطار كانت التجارة الخارجية تحتل موقعاً هاماً واساسياً ، حيث تتكون الصادرات من المحاصيل الزراعية (يشكل القطن 60% من اجمالي عائداتها) و تتكون الواردات من السلع الاستهلاكية بشكل رئيسي . وكانت الشركات البريطانية ، والتجار الاجانب ، تسيطر علي المفاصل الاساسية للاقتصاد (التجارة الخارجية ، المصارف ، تجارة الجملة ... الخ).
* تركزت التنمية الاقتصادية / الاجتماعية في مثلث الوسط ( الخرطوم / سنار / كوستي) واهملت مناطق الجنوب والغرب والشرق والشمال الاقصى . وفي هذا الاطار ظل القطاع التقليدي، الزراعي الرعوي، يساهم بحوالي 57% من اجمالي الناتج المحلي بينما يساهم القطاع الحديث بحوالي 43% فقط .
في هذا الاطار نمت وتطورت فئات الراسمالية المحلية المختلفة . واستمدت عناصرها الاساسية من وسط الفئات التجارية القديمة والقوى التقليدية القبلية والطائفية . ومنذ البداية استفادت هذه الفئات من السياسات الحكومية وتسهيلاتها السخية . وشمل نشاطها كافة مجالات الزراعة والتجارة والنقل والعقارات والخدمات وغيرها . وكان نشؤها وتطورها يعكس استجابة لظروف ارتباطات السودان بالسوق الراسمالية العالمية . ولذلك لم تسمح لها مقتضيات الهيمنة الاستعمارية الا بالنمو في مجالات محدودة تحكمها شروط خدمة تلك المقتضيات . وهذا ما تكشفه لنا المجالات الرئيسية لنشاطها عشية الاستقلال (زراعة القطن ، التجارة الداخلية ، تجارة المحاصيل، نشاطات اخرى) وتشمل هذه الفئات مجموعات واسعة من صغار وكبار التجار واصحاب المشاريع الزراعية وبعض منشآت الصناعة الخفيفة. وكانت تعمل في جميع المجالات المتاحة ولا تحصر نفسها في مجالات محددة . ولذلك شملت استثماراتها مجالات الزراعة والتجارة والخدمات والصناعات الخفيفة. وفي داخلها يمكن التمييز بين مجموعات صغار التجار المرتبطة بالطبقة الوسطى (الأفندية اساساً) ومجموعات كبار التجار التي تشكل اهم فئات الطبقة الراسمالية (البرجوازية) النامية في البلاد، بحكم سيطرتها علي مجالات اساسية في النشاط الاقتصادي العام في اطار النظام الكولونيالي القائم وقتها . وبحكم ظروف نشأتها تحددت سماتها الاساسية في الآتي:-
(أ?) الارتباط بالسوق الراسمالية العالمية (البريطانية اساساً) ولذلك كانت تركز علي زراعة القطن وتجارة المحاصيل والسلع المستوردة، بدعم سخي وواسع من الادارة الحكومية وعلاقات وطيدة مع الشركات الاجنبية العاملة في البلاد .
(ب?) ظلت تستمد عناصرها الاساسية من وسط الارستقراطية الطائفية والقبلية والفئات التجارية السابقة . وهذا أدى الي تداخل وتشابك مصالحها مع سلطات الدولة والقوى المهيمنة التقليدية بشكل عام والمؤسسة السودانية بشكل خاص.
(ج) ظلت تتسم بالتفكك والضعف الاقتصادي والاجتماعي، نتيجة لتطورها في ظروف الهيمنة الاستعمارية، وتعدد وتنوع جذورها الاجتماعية، وموقعها الهامشي بين الشركات الاجنبية والقوى المهيمنة التقليدية .ومع تعدد مجالات نشاطها ، كان النشاط التجاري هو الغالب في حركتها وكان يمثل المصدر الاساسي للثروات التي تراكمت في اياديها خلال فترة الحكم الثنائي . ولذلك يمكن وصفها كفئات (رأسمالية تجارية في طور التكوين والنمو والتطور).
(د) أن نمو وتطور هذه الفئات ارتبط وترافق مع نمو وتطور فئات الطبقة الوسطى (الأفندية) والطبقات الكادحة (العمال والمزارعين والعمال الزراعيين في المشاريع الحديثة) بحكم ارتباط النمو الراسمالي التبعي بتفاوت الفرص المتاحة للمجموعات المختلفة وبعمليات الافقار الواسعة في المدن والارياف.
هكذا كان حال الفئات الراسمالية النامية في عشية اعلان الاستقلال . ووقتها انفتحت امامها فرص واسعة للاستثمار في مجالات حرمتها منها ظروف الحكم الثنائي . وامتدت تطلعاتها لتشمل التجارة الخارجية والصناعات الخفيفة والمصارف وغيرها . وهي مجالات لم تتمكن من دخولها في الفترة السابقة. ومن هنا كانت مشاركتها في الحركة الوطنية منذ ثورة 1924 وذلك بهدف القضاء علي الهيمنة الاستعمارية التي كانت تشكل عقبة كبيرة في طريق هذه التطلعات .. فكيف واجهت فترة ما بعد الاستقلال ؟ والي أي مدى ساعدتها الظروف الجديدة في تنمية قدراتها وامكانياتها ؟ وفي أي اتجاه ؟ في اتجاه نموها وتطورها الي طبقة راسمالية موحدة ومتماسكة وقادرة علي المساهمة في البناء الاقتصادي الاجتماعي ؟ أم في اتجاه الاستمرار في اوضاع التخلف والتبعية ؟
* تطورات ما بعد الاستقلال : 1956 - 1969 م
(3) في بداية الحكم الذاتي رفعت الحكومة الوطنية الأولى شعار (تحرير لا تعمير) بهدف التركيز على استكمال الاستقلال السياسي وتوفير الظروف الملائمة لنمو وتطور القوى المسيطرة دون اهتمام بتغيير التركيب الاقتصادي الموروث (الكولونيالى) من الحكم الثنائي لمصلحة عموم جماهير الشعب . ويبدو أن ذلك كان يتماشى مع ارتباط الأحزاب السياسية الكبيرة ، التي حققت الاستقلال ، بالقوى المهيمنة التقليدية والفئات الرأسمالية الصاعدة . وفي نفس الاتجاه، طرح الحاكم العام، أمام أول برلمان وطني، اكتمال مسح الأراضي القابلة للزراعة والري وخطة الدولة للتوسع في الزراعة المروية (مشروع المناقل ) وتشجيع القطاع الخاص في مشاريع الطلمبات والزراعة المطرية الآلية ( تيسير محمد أحمد ). وذلك يعني الاستمرار في نفس التوجهات التي سيطرت في فترة الحكم الثنائي. وفي هذا الإطار ظلت الفئات الرأسمالية النامية تلعب دورأ هامأ في السياسة السودانية طوال مرحلة ما بعد الاستقلال، استنادأ إلى نفوذها وسط الأحزاب الأساسية وعلاقتها بجهاز الدولة ووعيها بأهمية الدولة في تنمية قدراتها وامكاناتها . ويضاف إلى ذلك أن وضعها الضعيف لم يكن يسمح لها بالقيام بدور سياسي مستقل عن القوى المهيمنة التقليدية. ولذلك تداخلت صراعاتها مع صراعات هذه القوى المهيمنة مع بعضها حول السلطة، وصراعها في مجموعها مع الحركة الشعبية والقوى الأخرى، لتؤدي في النهاية إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958 مدعومأ بدوائر محددة في أوساطها ( الفئات الزراعية حسب عبد الجليل مكي).
بدأت الحكومة الوطنية برنامجها الاقتصادي بخطاب الحاكم العام المشار إليه وإصدار قانون الميزات الممنوحة للقطاع الخاص لسنة 1956 ، بهدف دعم وتشجيع استثماراته في المجالات المختلفة، خاصة القطاع الصناعي . وركزالبرنامج أيضأ على إعادة النظر في اتفاقية مياه النيل لسنة 1929 لزيادة إمكانات التوسع الزراعي. ومع اتساع الصراعات السياسية حول السلطة ، جاء انقلاب1958 ليقوم باستكمال الشروط الأخرى الضرورية لنمو وتطور القطاع الخاص. وشمل ذلك إنشاء بنك السودان، وإخضاع المصارف الأجنبية لإدارته ، والبنوك المتخصصة (الزراعي، الصناعي، العقاري... الخ) وضمان الاستقرار السياسي، والتوقيع على اتفاقية جديدة مع مصر حول مياه النيل، وصياغة الخطة العشرية (60/1961-/70/1971) كإطار عام للتطور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد- وحددت الخطة دور الدولة في نفس توجهات قانون سنة 1956 ، بالتركيز على توفير الخدمات والبنيات الأساسية، والاستثمارات الكبيرة في مجالات الزراعة والصناعة ، وتشجيع القطاع الخاص ودعمه بتسهيلات سخية من الدولة . فقد حددت استثماراتها بحوالي 565 مليون جنيه ، 337مليون 60% للقطاع العام وحوالي 228 مليون 40% للقطاع الخاص . ووجدت توجهاتها الأساسية دعماً كبيراً من البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى. وهكذا قامت دولة ما بعد الاستقلال بتوفير الشروط الضرورية لتوسيع نشاط الفئات الرأسمالية في مجالاتها التقليدية ومساعدتها لدخول مجالات جديدة، مجالات الصناعة والتجارة الخارجية والزراعة الآلية.
(4) ظلت الزراعة تمثل مجالاً حيوياً لنشاط القطاع الخاص في سنوات ما بعد الاستقلال. وبرز ذلك منذ بدايات الحكم الذاتي، التي شهدت توسعأ كبيرأ في مشاريع الطلمبات . فقد ارتفع عددها من 713مشروعأ عام 1950 إلى حوالي 1557 ، في عام 1955. وفي 1959 كانت مساحة المشاريع الخاصة تشكل 45% من إجمالي مساحة الزراعة المروية، بما في ذلك مشروع الجزيرة . ومعظم هذا التوسع حدث في فترة الحكم الذاتي والسنوات الآولى للاستقلال. وهذا يشير إلى أهمية هذه المشاريع في التراكم الرأسمالي وفي تمويل إيرادات الدولة . ويشير أيضأ إلى علاقة قوية بين الفئات التجارية والنخبة الحاكمة في تلك الفترة . وفي بداية الستينيات تدهورت أوضاع هذه المشاريع ، نتيجة لتدهور أسعار القطن وارتفاع تكلفة الإنتاج وظهور حركة مزارعين قوية و نشطة. وأيضأ لتوجه الفئات الرأسمالية للاهتمام بالزراعة المطرية الآلية في منطقة القضارف والنيل الأزرق ، بحكم عائداتها السريعة والمضمونة وتدني تكلفة إنتاجها . فارتفعت مساحتها من 000. 5 فدان عام 1954 إلى 000. 200 في عام 1957 .. وفي ظل الحكم العسكري الأول قفزت الى حوالي 000. 700 فدان في 1959 ثم إلى أكثر من مليون فدان في 1960. وهذا التوسع المتصاعد في سنوات قليلة يعكس المكانة الكبيرة التي بدأ يحتلها هذا القطاع في مجمل النشاط الاقتصادي، بدعم سخي وواسع من الدولة. ومع أن قانون الأراضي الزراعية لسنة 1959 يمنح أولوية لسكان المنطقة في توزيع الحيازات(1000 فدان) ويمنع المضاربة في الأراضي واستحواذ الأفراد على مساحات واسعة ، فقد أدت الممارسة العملية إلى سيطرة المقتدرين ماليأ على هذا النشاط . وكان معظمهم من الفئات التجارية وزعماء الإدارة الأهلية وكبار الموظفين والعسكريين . وبذلك أصبحت الزراعة الآلية مصدراً هاماً للتراكم الرأسمالي وامتصاص الفائض الاقتصادي في الأرياف وإعادة استثماره في المجالات الأخرى في المدن والمراكز الحضرية. وبدأت تزداد مساحاتها في فترة الستينيات لتصل إلى 8. ا مليون فدان في 1969 - ووجدت دعمأ واهتمامأ من البنك الدولي. فقام بتمويل إنشاء مؤسسة الزراعة الآلية في 1968 ، للإشراف على تخطيط ومتابعة تطورها في الفترة اللاحقة . وكان لذلك دوره في توسيع مساهمة الزراعة الآلية في توفير الغذاء وزيادة الصادرات وايرادات الدولة وفي نمو فئات تجارية جديدة (راسمالية الزراعة الآلية). ومن جهة أخرى، ازداد تدهور مشاريع الطلمبات حتى اضطرت الدولة لتحويلها إلى جمعيات تعاونية ودفع تعويضات مجزية لأصحابها- وذلك لمساعدتهم في إعادة استثمارها في مجالات أخرى، (خاصة التجارة والزراعة المطرية الاّلية ... )
نواصل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.