الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة متأنية في مذكرات الرائد (م) زين العابدين محمد أحمد عبد القادر
مايو.. صراع النخب العسكرية والسياسية (1-5)
نشر في الصحافة يوم 24 - 09 - 2011

مدخل: «أصدق التاريخ ما كتب في زمانه وصدق فيه كاتبه «وصدقه معاصرون فيما روى»»
الشيخ بابكر بدري - تاريخ حياتي
(1) المؤسسة العسكرية: ضمير الوطن
٭ للسودانيين شغف غريب بالعسكرية، ولقد أورد كثير من المؤرخين ذلك فيما سجلوا عن الممالك القديمة في الرقعة، فالنوبيون وقيل ان بعض العرب (برماة الحدق) اعترافاً بقدراتهم الفذة شكلوا العنصر الأساسي في جيوش (فراعين الشمال) بل اشتد عودهم فكانت لهم دولة (كوش) الضاربة وقد حكمت (مصر) فباسم (الأسرة الخامسة والعشرون) وذكرها (العهد القديم) في مواقع ثلاثة، وكان (للبجاة) ذات الجبروت العسكري والاقتدار الاستراتيجي وأثبت التاريخ معاركهم الشرسة دفاعاً عن أرضهم في مواجهة أي تغول أجنبي. هنا الموروث انتقل عبر الاجيال لتميز فيما بعد وأطلق عليه (السوداني) بالشجاعة والاقدام ومازال مجتمع (السودان) يتناقل شفاهة وتوثيقاً مواقف (الفرسان).. ومازالت الأم في (السودان) والأخت والبنت والنسيبة عنواناً كبيراً لذلك المجد الباذخ. فالطفل ينمو وهو مازال في المهد على ايقاعات النحاس وقعقعات السيوف تهدهده وترسخ في عقله ووجدانه معالم الطريق:
ما دايرة ليك الميتة أم رماداً شح
دايراك يوم لقا وبدميك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحي على سيفو البسوي التح
هذه (السمة العالية) جسدتها صراعات السلطة والثروة في كل مراحل تاريخنا السياسي، وكانت أكثر ما جسد وموتها مرحلة نشأة وتطور وانهيار سلطنة سنار (1504-1821) على الأخص في نهاياتها حين أنتهى الأمر إلى (الهمج).. في كل الاحوال - روى الدم) - بلاد السودان عبر كل ممالكها.. وكان للنحاس دويه ولغته.. مما صار في جلالات (الجيش):
قبيل شن قلنا
قلنا الطير بياكلنا
ولفرسان المهدية ملاحم عسكرية، أكبرها وقدرها (فرسان الامبراطورية البريطانية) فكان كتاب حرب النهر وردد الشاعر البريطاني رود جارد كبلنج «ولقد خضنا الحرب ضد رجال غريبين.. وراء البحار غير أن البجه.. كانوا أروعهم أجمعين» - وقبلها سجل (عصمت دلغو) في كتابه (معركة كرري) روعة الاستشهاد، على ضفاف النهر.. مضى يعقوب.. إلى مصير يردد: تبلدية وقعت ولم يكن غريباً أن يرفع القائد البريطاني قبعته للخليفة عبد الله في فروته.
هذا (الجيشان) توسمه ضباط ثورة 1924.. ولم يكن ما قاموا به من رفض للاستبداد البريطاني بعيداً عن تاريخهم: أعاد التاريخ دورته - فرساناً ينشدون الحرية.. ويدفعون النفوس مهراً بلا مقابل غير القناعة.. كانت الاعدامات على قسوتها.. لا تقابل بغير الثبات والابتسامات المشرقة، وكان التشريد.. على مراراته - أسعد - عندهم في الانحناء ، تحدث التاريخ فيما بعد عن اعدامات كثيرة طالت الضباط والجنود، فما كانوا غير ذات معدن (أهل السودان - ولقد شهدت الحرب العالمية الثانية.. ميلاد (قوة دفاع السودان) نواة القوات المسلحة.. فكانت سجلاً من روعة المشهد ورفع القبعات تحية للصناديد في طبرق والكفرة.. وفي أغوردات وكرن.. وتسني وكسلا.. وأسمرا.
للعسكرية في عقل ووجدان (أهل السودان) نشيد يفجر شجاعتهم ويستدعي كبرياء نفوسهم.. فيتسابقون إلى الردى، يتقشون للمجد جروفاً. ولم تكن بعيدة عن ذلك المجد.. زغرودة أم.. وأخت.. وزوجة فما هان (وطنهم) وما هانوا..
هذه الروح هي التي حملت جيل ما بعد الاستقلال من شباب (خورطقت) ،(وادي سيدنا) و(حنتوب) وما بعدها إلى الانتماء للقوات المسلحة طلاباً تشهد شوارع أم درمان والخرطوم وبحري.. لحظات عودتهم من الكلية وايابهم في نهاية الأسبوع إلى (الوادي)..
ولكن كانوا يرمقون وطناً... ويرمقون حساناً.. يبادلهن النظر في وله واعجاب صرن.. فيما بعد زوجاتهم..!!
في هذا التاريخ انتهى (زين العابدين محمد أحمد عبد القادر).. ود (توتي) و(أم درمان) سيف التطلع.. وصولجان الوطن.. فهفت نفسه.. أن يكون ضابطاً.. وحنينه قد جسده كغيره (الكديد) في مراحل الثانوي.. فانتمى إلى ذلك النسيج ليلتقي بغيره.. وهم يحملون ابتداءاً.. قيم الشرف والكبرياء والعزة، لوطن جريح.. عنوانه.. عندهم.. عزة في هواك.. التي ترقد في حدا الخرطوم قبال... وكان مهرها غالياً جداً نفس (زين العابدين).. كان وطنياً بلا حدود.. فأخلص وأوفى.
ارتضع من (أم درمان).. شجو التاريخ.. ولم تبخل عليه (توتي) بالاباء والشمم..! وأسكنته (القوات المسلحة).. نزلاً كريماً وظل يدندن إلى ما قبل وفاته: حقو لي قولي.. ولداً غيرك أنا ما بحق قولي.. ثم يسرح بعيداً..
هذا تمهيد رأيت ضرورية.. قبل أن اقرأ معكم مذكرات الرائد (م) زين العابدين محمد أحمد عبد القادر.. أحد مفجري ثورة مايو 1969، وأحد أعضاء مجلس القيادة فيها.. وأول.. من نبه.. إلى ضرورة عدم تجاوز... أسباب الخروج من (خور عمر) في تلك الليلة من محطات الوطن.. ولعلي أثبت ان الرجل قد وجد قبولاً رائعاً من الشعب السوداني.. وان لم تصل معرفتي به لدرجة الصداقة الوطيدة.. لكن كان في النفس.. نموذجاً لجيل بأكمله.. يحتفي بالوطن.. ويعبر عن خلجاته.. وقدسيته بتلك الصفة لرئيس الجمهورية عند افتتاح جهاز الأمبدزرمان فقد كان أحد رواد الرقابة الادارية ولم يبخل عليه الرئيس.
(2)
اهداني الكتاب الصديق العزيز الدكتور (معتصم محمد الحاج) مدير مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بالجامعة الأهلية فله التقدير والاعزاز -وهي الجهة التي تولت بحكم دورها الوطني المنشود.. طباعة المذكرات.. ولهم في ذلك تقدير الوطن بلا حدود.. وهي مهمة شاقة.. (تراجعت للأسف الدولة ومؤسساتها عنها).. وقامت بطباعة الكتاب شركة مطابع السودان للعملة المحدودة. في طبعته الأولى (2011) ويقع الكتاب في 389 صفحة تم توزيعها باقتدار على:
- صلب المذكرات - من صفحة 1 إلى صفحة 121.
- مواقف ومعاني - من صفحة 125 إلى 176.
- ملحق وثائق مرجعية من صفحة 179 إلى 352.
- صور تاريخية من صفحة 355 إلى 389.
ومهم كثيراً أن نستعرض في تؤدة وتأمل ما يساعد على تسليط الضوء على مسار نظام مايو السياسي.. نشأته وتطوره.. وتفسير بعض مواقفه الفاحصة وما تخلله من صراع عسكري شرس.. ومواجهات سياسية غاضبة.. فاذا كان زين العابدين قد عاش تلك المرحلة.. وكان من صناعها.. فالأولى.. وكما أورد الشيخ بابكر بدري ان الصدق روايته.. ولعلني معنى وبصفة خاصة بما جاء في صفحات المذكرات حتى صفحة 176.
(3)
ملامح البدايات الأولى
تشير مقدمته إلى ملامح الرجل الفكرية، فهو أولاً مشحون، بكل تطلعات (مرحلة التحرر الوطني) التي سادت آسيا وافريقيا.. في تلك المرحلة، وهو بعد (ثائر) وفرضت عليه تلك الروح.. التي بادله شعب السودان - روايته فيها - فأحبوه.. ودلعوه واحترموه.. ونادوه (زينكو).. فلم يكن (زينكو) بعيداً عنهم، غنى لهم.. في أمسيات السمر.. و(نفرش) عوده الأنيق.. واستأثر بأداء مريح لبعض أهازيج الحقيبة.. كعادة شباب توتي وصادق الليل والنيل والقمر.. وما أتى ببهتان.. حين أعلن حراك مايو 1969.. كان.. كما هو (ود الناظر).. (صاحب النكتة) الحافرة.. والصراحة والوضوح.. والشجاعة في ابداء الرأي والمواقف.. ولم يخرج من خط والده التروي.. حين سجل في شجاعة (سفر مايو بين الخصب والجفاف) وكان موقفه واضحاً «لقد دفعني ايماني العميق بحق هذه الأمة كمشارك في احداث نظام مايو وصانع لبعضها وشاهد عيان في كل الاحوال، أن أخط في هذا السفر ما اعتبره وثيقة لكي أرد امانة واجبة السداد عن حقبة تاريخية حافلة - المقدمة).. ولم يكن (زينكو) بعيداً عن حركة التاريخ في الرقعة حين أورد «نحن أمة حين تنام تتوسد الضُراع والسيف ورزم النحاس» و«اننا نتنفس البارود والهواء الخانق بأنف شامخ وجبهة مرفوعة» و«نحن أمة تعشق التغير من أجل الأحسن.. ونحن أمة تثور بكل العنفوان ضد الظلم» و(الرجل) يبرر (ميلاد مايو).. بهذه الأسباب.. ويكتب فيها بصناعته نشيداً فيه (حرارات الاستواء).. و(رطوبة ساحل البحر الأحمر).. و(غناء النقارة).. و(رطانة) الدناقلة والمحس والفادجا.. وللرجل حرف فارس وخيال خصيب.. يدندن بالطرب الأصيل ويهفو للصراع الوقاد وان أدماه.. ويتسم للمأساة).. فيقول لرفيقه في السجن.. أبو القاسم محمد ابراهيم (جد الانتفاضة «الفورة.. مليون»..
ارتبط اهتمامه بالسياسة في الخرطوم الثانوية العليا 1955/1959 ولم يكن فيها طالباً (عادياً) فأبوه.. ناظر تلك المدرسة.. فسموه «ود الهيد» الHEAD وكان والده كنظار ذلك الوقت من المسؤولية التربوية: صرامة، أبوة خالصة، دقة وانضباط.. وقبل ذلك كله ود بلد أصيل، وفيه خرج «زينكو» في (المظاهرات) التي قادها (الطلاب) ضد الاعتداء الثلاثي الغاشم على مصر في عام 1956.. لم يكن رد فعل الوالد غير الرضا التام.. «زيو وزي غيرو من التلامذة».. وكانت علامة خضراء.. لحرية المشاركة والتعبير فيما بعد..
اعتبر (الزين) دخوله للكلية الحربية في عام 1959.. مرحلة جديدة، من الانضباط المؤسسي.. أعقبت الانضباط الأبوي.. ونقل بعد التخرج برتبة (ملازم ثانٍ) تحت الاختبار لمدة عام.. للفاشر تحت قيادة (اللواء (أ.ح) حمد النيل ضيف الله) ابتعث بعدها لبريطانية ليعود بعد أربعة أشهر (معلم مظلات) ويشارك مع بعض من رفاقه الضباط والجاويشية والأمباشية في (تأسيس سلاح المظلات).
كجيله تماماً.. نظر إلى (حركة التحرر الوطني) في آسيا وافريقيا، بتبتل وتقدير، واشارت بوصلته - في وطنه - إلى قيادات ذات تأثير في حركة اكتوبر الوطني فكانت علاقاته الوطيدة مع قيادات اليسار: (عبد الخالق محجوب) و(محمد ابراهيم نقد).. و(مصطفى أحمد الشيخ) (اتحاد الشباب السوداني) و(عمر مصطفى المكي) بالاضافة لقريبه (النعمان حسن أحمد) و(حمد أحمد توفيق هيبة) و(خليل الياس) بالاضافة لغريمه و(عبد الوهاب الشيخ) ويثبت الزين (ص2): «كانت علاقتي الاجتماعية تميل في أغلبها مع قبيلة اليسار» ويؤكد الواقع فيما بعد ان أغلب (جيل الزين) في المؤسسة العسكرية، لم يكن بعيداً عن فلك اليسار الوطني وهي علاقة لم تصل إلى مرحلة التنظيم ولم تبعد (الاعجاب) وربما في احوال أخرى ( التعاطف) وتتيح اشارة في المذكرات استخلاص أنه كان حريصاً على حريته بعيداً عن (الضبط العقائدي) «أذكر بجلاء موقفاً ارتسم في الذاكرة، شهدته في حفل زواج (محمد ابراهيم نقد) في منتصف الستينيات: كان الجميع - وقتئذ يستمتعون بالطرب والسمر كما يحدث عادة في العرس السوداني.. وما أن دخل عبد الخالق محجوب حتى صمت الجميع ووقفوا كالعادة في حالة انتباه لدرجة أنني امتعض امتعاضاً شديداً لاقتناعي التام بأن ممارسة الفرح ليس نقيضاً للاحترام» (ص2).
فجرت (ثورة اكتوبر 1964) في نفسه، كل ضرورات التغيير فقد كان مكلفاً وهو (يوزباشي) بحراسة بعض المواقع الاستراتيجية.. ولقد مثلت أحداث تلك الأيام في نفس (زين العابدين) تحولاً نوعياً، كان له فيما بعد أثره العميق، على دوره في التغير وقد سجل «هزني موقف الشعب السوداني بصورة تصعب على الوصف، وشعرت أنني انحدر من صلب شعب عظيم عاشق للحرية، ويعبر عن رأيه بصورة رائعة وأنني انتمي إلى جيش قوي ووطني وليس هناك تناقض بين الجيش والشعب وان كان الأخير قد انتفض احتجاجاً على ما اعتبره ظلماً ألحقته به حكومة الفريق ابراهيم عبود» ص3.
(4)
الانتماء لتنظيم (الضباط الأحرار)
لم يكن زين العابدين حتى تلك البدايات عضواً في تنظيم (الضباط الأحرار) ولكنه سمع به وتابع مع بعض أصدقائه (البكباشي جعفر نميري - اليوزباشي أبو القاسم محمد ابراهيم - اليوزباشي أبو شيبة - اليوزباشي محمد ابراهيم طلقة واليوزباشي أبو القاسم هاشم).. ما يصدره ذلك التنظيم في (منشورات) وتعبيراً عما جاش بصدر كل من زين العابدين وصديقه أبو القاسم محمد ابراهيم من احساس بضرورة الثورة والتغيير انطلاقا إلى تأسيس (خلية عسكرية) تحمل اسم (تنظيم القوى الحديثة).. وكان من أول من جندوا لذلك التنظيم في (سلاح المظلات) الجاويش محمد ابراهيم سعد/ الامباشي عبد الله الدخري / الامباشي أحمد متولي دهب/ والامباشي احمد اسماعيل.. واعتبر ذلك (خطوة تعبوية) في انتظار ما تحمله الأيام وكان زين العابدين قد أشار في الحاشية رقم (2) في صفحة (3) إلى «أن تنظيم (الضباط الأحرار) كان وقتها بمثابة مظلة واسعة تنضوي تحتها كثير من المدارس الفكرية والاتجاهات: كان يضم (الشيوعيين) و(القوميين العرب) و(البعثيين) بجناحها (العراقي) و(السوري) بجانب بعض الضباط الذين لا ينتمون لأي مدرسة فكرية منظمة» ويرى أن هذه الفئة الأخيرة هي التي كانت أقرب لتفكيره وميوله وهي حقيقة تثبتها ملامح شخصية.
في عام 1965 عانى الجيش وهو يواجه حركة (تمرد الأنانيا) من نقص في السلاح والذخيرة والعتاد، ولم تلتفت (الأحزاب) في خضم صراعاتها (لغضب المؤسسة العسكرية) التي ترجمت ذلك الغضب إلى (مذكرة خطيرة) رفعت (للقيادة العامة) فتحرك وزير الدفاع بالانابة آنذاك (عبد الحميد صالح) ومعه (اللواء الخواض محمد أحمد القائد العام) استهدفت الزيارة احتواء الموقف وانتهى الحوار الساخن الذي شهده نادي الضباط في جوبا إلى اعتقال كل من (د. عبد الحميد صالح) و(اللواء الخواض) وهو القائد العام.. ولأن الاعتقال كان (عفوياً) فان الأمر قد انتهى سريعاً بعد تدخل كل من (البكباشي أحمد عبد الحليم محمد) (صار قائداً لسلاح المدرعات فيما بعد) و(الصاغ فاروق عثمان حمد الله) (وكان غريباً) أن (يعفيا) مع غيرهما فيما بعد وقد نقل (أبو القاسم محمد ابراهيم) ومعه (الزين).. الوضع بدقة لرئيس الوزراء آنذاك (محمد أحمد محجوب) وفي داره واحتجا على قرارات الاحالة للمعاش ورفعا له بصراحة متناهية أن الحدث يهدد مسيرة النظام الديمقراطي (ص4) وكان ذلك انذاراً واضحاً ولم يترددا وهما يسمعان لاجابة من المحجوب.. في العمل على المزيد من تقوية تنظيمهما العسكري (تنظيم القوة الحديثة) واعتمدا في ذلك على أن (سلاح المظلات) قد أسس بنجاح وأصبح قوة ضاربة.. ص(5).
أدى ذلك الجو المشحون بالغضب بسبب احالة الضباط للمعاش إلى التداول مع (اليوزباشي خالد حسن عباس) و(اليوزباشي مأمون عوض أبوزيد) وكانا من أعضاء (تنظيم الضباط) الأحرار واتصلنا عن طريقهما (باليوزباشي جعفر محمد نميري).. وتم انضمامه للتنظيم في أواخر عام 1966..ص(5) وكان رئيس التنظيم في ذلك الوقت (البكباشي «م» محمود حسيب).. ويضيف (زين العابدين) في هذا السياق معلومات غاية في الأهمية اتسم التنظيم بضوابط صارمة ولا يعرف العضو أكثر من زملائه في الخلية.
الترشيح للعضوية يتم عن طريق تزكية اثنين من الأعضاء القدامى.
كان من أعضاء التنظيم آنذاك (اليوزباشي عبد الرحمن محمد أحمد)، (اليوزباشي الرشيد أبو شامة)، (اليوزباشي الرشيد نور الدين) و(الصاغ بابكر النور).
اقترب (الزين) كثيراً من كل من (اليوزباشي الرشيد نور الدين) و(اليوزباشي فاروق عثمان حمد الله) وكان (الرشيد نور الدين) قد انسلخ عن التنظيم بسبب رأيه في أن التنظيم وقع في قبضة (الشيوعيين) ولم تفلح محاولة (الزين) التي تمت بتكليف من (اليوزباشي جعفر نميري) في اعادته.
استهدف التنظيم حتى تلك اللحظات (دوراً وقائياً لحماية الدستور والحفاظ على أمن البلاد وضمان توفير الامكانات للجيش) ولكن:-
٭ «الأوضاع السياسية في البلاد ظلت تتدهور باستمرار والصراعات بين الاحزاب تتعاظم والمنظمة الشعبية عليها تتزايد والاحساس بأن ثورة اكتوبر قد اجهضت وافرغت عن معانيها وتمت خيانتها وفي وضح النهار».
٭ ابان وجوده ضمن كتيبة في (منطقة الفشقة) خلال عام 1967 تعرض نظام الحكم لهزة سياسية أعقبت (طرد نواب الحزب الشيوعي) في البرلمان (ص6) وقد انعكست الأزمة على (المؤسسة العسكرية) عليه وبناء على تعليمات من القيادة العامة انعقد اجتماع القيادة الشرعية مع الضباط لقراءة ما يجري.. وازاء تحفظ كثير من الضباط في ابداء آرائهم استأذن (الزين) في الحديث فأوضح:-
- أن (الجيش) قومي الارادة والتوجيه.
- أن (الجيش) مسؤول من حماية الدستور وصيانة مصالح البلاد.
- هناك مشكلة سياسية قائمة لابد من التصدي لها.
- لو كنت في مقام (القائد العام) لاستلمت السلطة (لفترة انتقالية).
ووجد ما قال (الزين) ارتياحاً من الضباط.
٭ كانت نهاية هذه المحطة في حياة (الرجل).. ملاحظة أبداها (ضابط الاستخبارات في القيادة الشرقية) بأنه أحرج (اللواء أحمد المرتضى فضل المولى).. ولحسن الحظ لم يؤثر رأي رجل الاستخبارات في مسار (الزين) العسكري.
وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله
كيف تم التحرك من خور عمر.. وكيف انقلبت الثورة إلى ملك..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.