مع بداية عهد جديد لوطننا، فإننا في حاجة فهم كامل معمق وموثق لمفهوم الأمن القومى الاقتصادى الحديث. فلقد نضجت مفاهيم الدول للأمن القومى، وأصبحت ترتكز على القوة الوطنية، التى منها تستمد الدول قوتها الاقتصادية. والقاعدة التى لابد أن نعيها هى أنه ما إن امتلكت أية دولة القوة الاقتصادية فقد استطاعت تلقائياً أن تمتلك القوة السياسية والعسكرية، فحتى تصل أية دولة إلى مستوى أن تكون قوة اقتصادية يصبح هدفها الأول والرئيسى لأمنها القومى هو الحفاظ على أمنها القومى الاقتصادى. وكيف يتحقق ذلك للسودان؟ وكيف نحافظ على قوتنا الاقتصادية؟ ومن يراقب الأمن القومى الاقتصادى؟ وقبل أن أقترح إجابات لهذه الأسئلة فنحن نحتاج لفهم كامل لخصائص «قوتنا الوطنية» بهدف تحديد «شخصية السودان الاقتصادية»، ومن ثم «استراتيجياتنا الاقتصادية» التى منها نتعرف على عناصر الأمن القومى الاقتصادى. إن خصائص القوة الوطنية للسودان هى - بالتحديد - مجموع جميع الموارد المتاحة لدينا سواء كانت طبيعية، جغرافية، بشرية، حيوانية، سمكية، مائية (نيلية وجوفية)، ساحلية، معدنية، زراعية، صحراوية أم تاريخية من آثار مادية، ثقافية، علمية، أم تكنولوجية وموارد الطاقة بجميع أنواعها (بترول، غاز، شمسية، رياحية والطاقة المتجددة والبديلة)، ومن هنا يستطيع القارئ أن يدرك تماماً إمكانيات السودان وغنائه بكل هذه الخصائص السالف ذكرها. إذن السودان قوة وطنية. وتباعاً، وبعد تعرفنا على خصائص قوتنا الوطنية، نستطيع أن نحدد شخصية السودان الاقتصادية، وهى، باختصار، مقومات اقتصاد شامل وكامل على معظم القطاعات الرئيسية، أهمها: الزراعة بجميع مركبات محاصيلها الغذائية للاكتفاء الذاتى، والتجارية للتصدير، وكذلك الصناعة بكل أنواعها ابتداءً من فرز وتعبئة إلى الصناعات الثقيلة، ثم الصناعات الكيماوية والهندسية والتعدين، ثم الطاقة بجميع أنواعها، والإنتاج السمكى والداجنى والحيوانى، والتشييد والبناء، ثم البحث العلمى والابتكار والإنتاج الحربى، ولا ننسى قطاع النقل والإتصالات، والتكنولوجيا، والسياحة، ويظلل كل هذا ويعظمه الإبداع الثقافى، وما خفى كان أعظم قد نكتشفه بالعلم فى المستقبل. وبناءً عليه، فإن ملامح استراتيجيتنا الاقتصادية - بلا جدال - هى أن ننهض مرة أخرى، كما تصنفنا تقارير المؤسسات المالية والدولية دون أن تذكر ذلك صراحة كقوة اقتصادية إقليمية متوسطة الحجم، دولة لا تفرض عليها إملاءات خارجية تهدد أمنها. فالسودان ينتمى إلى قارة أفريقيا، وعلى المستوى الإقليمى نيلي و بحر أحمري _ إن جاز التعبير-، وعلى محور التاريخ والثقافة أفريقي عربي مسلم، فإذا ارتكزنا على الحقيقة الأبدية، أن أية دولة أمنها خارج حدودها السياسية، فإننا لا بد ان نكون قوة اقتصادية إقليمياً. ولكن لكى نظفر بوضع القوة الإقليمية فلابد أن نزدهر داخلياً، ونحافظ على النمو. ولكى يظل ازدهارنا مستمرا فلابد أن نعود مرة أخرى إلى التخطيط الاقتصادى، بل يتحتم علينا، من الآن فصاعدا، أن نراعى تخطيط الأقاليم من ريف ومدن ونحن نخطط قومياً لاقتصادنا، فالعدالة هى استثمار الثروات التى تتميز بها ولايات السودان والنهوض بها، فلن يزدهر الإقتصاد السوداني دون رفع مستوى الريف. فكثير من ولايات السودان صندوق من ذهب وليست مجرد صحاري أو غابات، فالريف هو عمقنا الاستراتيجى، ولكى نحافظ عليه استراتيجياً واقتصادياً علينا أن نستغل كل ما يزخر به من ثروات. أما على الصعيد الخارجى فنحتاج أن نضع لأنفسنا استراتيجية للتعاون الإقليمى على ثلاثة محاور أن يكون السودان بموقعه المتميز لاعبا فاعلا وسط دول حوض النيل من دول المنبع إلى دول المصب، ونقل خبرتنا الزراعية والتعليمية ومشروعات الطاقة مقابل التعاون بالاستفادة من الطاقة في دول حوض النيل مقابل الغذاء، فبتلك الاستراتيجية والتعاون يمكن أن نحصل على طاقة كهربائية ضعف الطاقة الكهربائية داخل السودان، بل يمكن يمكننا ذلك من زيادة رقعتنا الزراعية لمد دول الإقليم بالمزيد من الغذاء. ثانيها: تعاون اقتصادى وتجارى مع دول شمال أفريقيا، مصر وليبيا ويمكن أن تكون هذه الدول بوابة تصدير إلى أوروبا. ثالثها: المحور الآسيوى الشرقى، وبالتحديد التعاون العربى والشرق أوسطى فى جميع المجالات، بل يجب أن نضع نصب أعيننا أن دول الخليج على أتم استعداد لزيادة استثماراتها أضعافاً مضاعفة عما تم ضخه من قبل. كما علينا أن نخطط إلى أبعد، ونمد أذرعنا إلى أمريكا اللاتينية والصين، فلن نستطيع وقف نزيف بضائع الصين وتأثيرها على الإنتاج المحلى إلا بتشجيعها على الاستثمار فى بلدنا مع وضع قيود على صادراتهم لنا من بضائع رخيصة ورديئة. كما علينا أن نتطور علمياً وتكنولوجياً إلى أبعد مدى، ونمتلك أحدث أنواع الأقمار الصناعية ونستخدمها لنحلل ونراقب كل شبر فى السودان. وإذا انتقلنا إلى (التساؤل الثانى) وهو: كيف نحافظ على قوتنا الاقتصادية؟ فالإجابة تكون بوضع معايير وقواعد عامة ( خطوط حمراء) تصاغ من استراتيجياتنا الاقتصادية، بحيث تحصننا من تكرار التجارب المريرة ولا تسمح فى المستقبل لأية جهة بالتهاون أو الانحراف عن أهدافنا الاستراتيجية، أما عن الاستفادة والمردود فلا بد أن ننشئ الإطار المؤسسى الحقيقى العميق لدولة لها كيانها وسيادتها، ونخلق مناخ المنافسة بين المستثمرين وبرامج الأحزاب والتشريعات البرلمانية، والتى كلها ستعمل لتحقيق التنمية والازدهار دون الخروج عن المعايير والقواعد العامة، وكذلك الالتزام والاستمرارية لسياستنا الخارجية، والتنوع والتجديد لدبلوماسيتنا المدنية والعسكرية. أما عن الإجابة عن (التساؤل الأخير)، فالبديهى أن يتولى رئيس الجمهورية المنتخب مراقبة الأمن القومى الاقتصادى، وأرى تفعيل مجلس الأمن القومى، الذى سيقوم بمتابعة مختلف الجهات بما يؤدى إلى تقارب وجهات النظر وخلق مناخ تفاهم.