ان من أولويات الحكم الراشد ايجاد مساحة لكل ما من شأنه تحقيق الرفاهية والرخاء للشعوب المتطلعة دوماً لحياة أفضل في شتى صورها وتوجهاتها، التي يجب أن تكون نابعة من تلك البيئة المحلية لا أن تكون مستوردة من الخارج، فكثيراً ما تتوه النظم السياسية بتطبيق أسس ومعايير تختلف اجتماعياً وسياسياً وثقافياً مع المقومات المحلية التي هي أيضاً قد تتفاوت في درجة اتفاقها واتساقها وتنوعها، ولو تم تواطؤ على اظهارها بمظهر الوحدة والتماسك فالواقع المعاش يعد أكبر تفسير وتوضيح لهذه الاشياء، وبالتالي يجب أن تراعى المكونات المحلية حتى لا تنزلق وتؤكد فشلها ولو بعد حين فهي في تفاعل مستمر. إن إقليم دارفور ظل إقليماً واحداً تتعدد فيه الأعراق والإثنيات وتتنوع فيه التقاليد وتتمايز الثقافة، إلا أن أهله جميعاً يربطهم الإسلام باعتباره ديناً ارتضوه، وذلك لما فيه من الجاذبية والديناميكية التي تجعله يفي بكافة متطلبات المراحل عبر مسيرة الانسان وصلاحيته المتجددة في كل زمان ومكان، ولعالميته بدعوته لكل البشر، كيف لا وهو آخر دين وأمته في اتساع وازدياد دوماً. إن الإقليم ومنذ بدايات تطبيق النظام الفدرالي أصبح ثلاث ولايات «شمال - جنوب - غرب»، وتتعدد فيه المحليات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، دون أن تقدم أي مردود اقتصادي أو اجتماعي يعمل على الارتقاء بكافة أشكال المعضلات التي أصابت وتصيب الأرض والإنسان، وباتت في غالبها عالة على المال والإنفاق العام، فقللت من فرص إنشاء المدارس والطرق والجسور وتقديم خدمات صحية للإنسان والحيوان، وكذلك في تقديم الدعم الفني للزراعة، فبدلاً عن ذلك اصبحت منارة للاستقطاب السياسي الحاد، فجعلت المواطنين يدمنون التفرغ للعمل السياسي، فتركوا قراهم وزراعتهم وقلت الأيدي العاملة، وبات الناس في شكوى بسبب هذه الأشياء. وبعد اتفاق أبوجا مع حركة مناوي تم قيام سلطة انتقالية تتعدد فيها المفوضيات بمختلف اختصاصاتها من تأهيل وإعادة توطين وأراضٍ وغيرها الكثير، ولما كانت هذه الهيئات معنية بإدارة الاقليم فهي تحتاج لأموال للصرف على الجيوش الجرارة من الموظفين الفعليين وغيرهم لسداد الرواتب والتسيير، فهي حقاً أموال طائلة لو تم صرفها على تعبيد وانشاء الطرق لاستفاد الاقليم أيما استفادة، فالمعيش أن ولايات دارفور تكابد بشق الأنفس حتى تتمكن شهرياً من سداد الرواتب، وهي في حوار وشد وجذب مع المركز في هذا الأمر، ونحن لا ندري ما فائدة الحكم الفدرالي والولايات لا تتمتع ببعض الصلاحيات التي تخول لها الحق في الادارة بصورة مرضية، وتتمكن من سد الفجوات بإيجاد التشريعات التي تؤكد هذه الحقوق في مواجهة المركز، والمعيش أيضاً أن سلطات الولايات تقوم بالصرف على بعض النشاطات التي تتعلق بالإمداد والتموين لقوات الشرطة والجيش من الأموال الخاصة بالولاية التي كان يجب أن تصرف على أمور تخص الولاية وأهلها، فمن سمات الحكم الفدرالي أن تضطلع الحكومة الاتحادية بمسؤولية الأمن، وهذا لا يعني تجنيدها للأفراد وتدريبهم ومن ثم إرسالهم بغية استتباب الأمن وتوفير الاستقرار نشداناً للسلام وتمهيداً لتوفير الأجواء الصالحة للانتاج والعمل، فكان عليها أيضاً أن تقوم بتوفير أي دعم لوجستي أو فني لهذه القوات التي تعمل على استعادة النظام وحفظ الأمن، لا أن توكل المهمة للسلطات الولائية التي تعجز عن توفير الرواتب ناهيك عن المشكلات التي تحيط بها من كل جانب. نحن ننظر لأمر دارفور والأمور التي تحيط بها في ظل وجود حكومات منتخبة وفقاً للانتخابات التي أجريت في عام 2010م، وجاءت بمن جاءت بهم على سدة حكم الولايات الدارفورية الثلاث، ونحن نعتبر هذا نوعاً من الازدواج «وجود سلطة انتقالية وحكومات سواء معينة أو منتخبة» الذي يدفع انسان دارفور فاتورته، خصماً على التعليم والواقع المرير الذي يحيط به والمستوى الصحي المتدهور ابتداءً من عدم توفر الكوادر الطبية بتخصصاتها المختلفة، مروراً بالمباني التي حالها يغني عن السؤال. والملاحظ عدم وجود أي أثر لدعم شعبي وعمل خيري يدعم ويقف إلى الجانب العام، فبعد انتخاب الحكومات الولائية بدارفور ظننا أو على الأرجح ذهاب السلطة الانتقالية، لأن وجودها يتعارض ورغبة الجماهير التي هُرِعَت إلى صناديق الاقتراع وجاءت بمن قبلتهم، وهم مفوضون بذلك من قبل هذا الشعب، والسلطة الانتقالية جاءت عبر اتفاق سياسي وقد نجح في إخماد نيران الحرب. وقد خرج موقع الاتفاق، وبذلك تم تقويض الاتفاق، إلا أن السلطات قامت بإحياء هذه السلطة الانتقالية التي ساد عملها عبر مفوضياتها الكثير من التشوهات والممارسات الخاطئة بحق المال العام وتولي الوظائف. فالانتخابات جاءت لتؤكد رغبة الجماهير ولاضفاء طابع الشرعية على اختيار المواطنين وتطبيقاً لمبادئ اتفاق أبوجا، لأن وجود سلطتين يعمل على خلق بؤر من الصراع، فالسلطة الانتقالية تستمد شرعيتها من الاتفاق السياسي، والحكومات المنتخبة تستمد شرعيتها من أصوات الجماهير التي أدلت بها إبَّان الانتخابات، فمن من هذه السلطات له حق المبادرة والمشورة مع الأجهزة التنفيذية سواء الولائية أو المركزية؟ وكيف يتم ذلك؟ وعند الخلاف هل يعود الأمر والتقرير فيه إلى وجهة سياسية صرفة أم أن تكون تنفيذية؟ وما هي الأجهزة التي يمكن الرجوع إليها عند وجود الخلاف في مسألة تتعلق بالتوجيه والادارة؟ هل تعود للرئيس ومساعديه فيكون القرار نهائياً ولا يقبل التعليق أو التعرض له بأي شكل من الأشكال. ونحن نضع في الاعتبار ما تم في الدوحة من اتفاق مع بعض الحركات المسلحة بدارفور، وهو لا يأتي بجديد عن سابقيه من اتفاقات مع حركات دارفور المسلحة، ولا نتوقع إلا عملية جراحية في موضع آخر من جسد الاقليم، فلم تدرس وتستخلص الأشياء من وضع الاقليم كاقليم واحد، وما النفع الذي عاد على أهله بعد تقسيمه إلى ولايات ثلاث، بعد أن ظل لأكثر من خمسة عشر عاماً ثلاث ولايات، فهلاَّ انبرى أحد وعدد لنا المزايا أو العيوب التي نتجت عن وجود ثلاث ولايات، ليؤكد لنا ضرورة تقسيمه إلى خمس ولايات؟ أم اقليم واحد؟ لقد تعقدت أمور اقليم دارفور كثيراً بعد أن كان ملجأ للكثير من أهل السودان الذين وفر لهم العمل والسكن. وظل هذا التعقيد من نظرة الحكومة لاحتياجات أهل الاقليم، والنظر لها من خلال مطالب الحركات المسلحة أو من خلال بعض القبائل أو أبنائها الذي تم استقطابهم أو الذين انخرطوا مع التنظيم الذي يقود الحكومة منذ أن كانوا طلاباً، وتغافلت عن هذه الاشياء بأن هنالك فئات وشرائح وما أكبرها لا تنتمي لحركات مسلحة أم غير مسلحة، وهم ليسوا مع المؤتمر الوطني أو ضده، فتم تجاهلهم، حتى أن الاتفاقيات التي وقعت مع الحركات المسلحة بدارفور كانت غير كافية ولم يتم التفاوض حولها بصورة تخدم المصلحة العامة، والتي يشتم منها شخصنة الامور والاشياء، فدائماً وأبداً نجد الوفود التي لها الكلمة خارج أهل الاقليم، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال بسيط: ألا يوجد من أبناء دارفور من هم بالحكومة لهم القدرة على قيادة دفة الحوار مع استعانتهم بآخرين للوصول إلى نتائج تؤدي لبسط الأمن والسلام في ربوع الاقليم؟ أم أنهم لا يملكون الكفاءة والمقدرة؟ أم أنهم ورغم أنهم مثقفون مازالوا غير قادرين على التحاور مع اخوتهم الذين رفعوا السلاح ضد الحكومة؟ ومتى سيكونون قادرين على الإمساك بزمام المبادرة واعتلاء دفة الحوار والتفاوض، نائين بأنفسهم عن القبلية والحزبية الضيقة، متجردين من كل طموح شخصي يحمله كل واحد في داخله ولا يتنازل عنه ويود تحقيقه، وان أتت النار على الكل وأصبح الاقليم بؤرة نيران، فإنها تأتي على الكل أرضاً وزرعاً وانساناً؟! حقيقة أن توقيع اتفاق الدوحة لم يأت بجديد عن اتفاق أبوجا، فالسلطة الانتقالية موجودة وان تغيرت الوجوه، فبدلاً عن «مني أركو مناوي» جيء ب «التيجاني السيسي». وقد كان آخر حاكم للإقليم من قبل حزب الأمة، وتجمعت حوله بموجب المفاوضات بعض الحركات، إلا أننا كنا نتمنى أمرين، أولهما أن تعمل الحكومة على تغيير بعض الوجوه التي تقود التفاوض الحكومي، فهي ظلت لأكثر من عشرين عاماً موجودة بصورة دائمة في أي تشكيل للتفاوض مع كل من يحمل السلاح في وجه الحكومة، فمثل هذا التغيير يزيد من فرص نقل الخبرات للآخرين وعدم تعنت المفاوض في رأيه، والعامل النفسي يلعب دوراً كبيراً في قبول المفاوض لدى الآخرين، وبالتالي يمكن احراز أفضل النتائج والتوصل للحل السليم، ولا بد ثانياً من فرد مساحة زمنية مناسبة لما يتم التفاوض حوله، ولمن له أهمية في الوجود ابان التفاوض، لأن المسألة تهم الوطن لا أشخاصاً محددين، وكذلك حتى يتم اقناع الممتنعين أو المشتككين للدخول في التفاوض، والواقع يحدثنا كثيراً عن مآلات التغاضي عمن هم ذوو فائدة في التفاوض وأصحاب تأثير في القضية حتى لا نعود للوراء، لأن إبداء الاستعداد وجعل الكل هم أصحاب الشأن والمصلحة يحتم عمق الدراسة والتحليل وبسط مبادئ الشورى وقول الحق، نشداناً للحرية والعدالة وتوفير الأمن والسلام.