الإمام الصديق المهدي عندما رحل قبل نصف قرن بالتمام والكمال فى مثل هذه الأيام فى 2/اكتوبر/1961 كنا أطفالاً يافعين. لذلك لا تختزن عقولنا صورة له أو لتأثيره فى الحياة السياسية. على عكس خلفه الإمام الشهيد الهادي المهدي والذى كنا فيما تلى من سنوات نراه فى غدوه ورواحه نحو الخرطوم يمر بسيارته أمام مدرستنا الثانوية مدرسة المؤتمر فى أواخر الستينات. وكان يرفع يده فى بساطة آسرة لتحيتنا. تماماً كما كان يفعل الرئيس الأزهرى وهو يسلك ذات الطريق فى طريقه للقصر الجمهورى بوصفه رئيساً لمجلس السيادة. كبرنا وكبرت اهتماماتنا السياسية ورحنا نعوض بالقراءة ما فاتنا من صفحات مطوية من تاريخ ضبابى شهدته أعمارنا الغضة وغفلت طفولتنا عن استيعابه. ولعل أكثر ما أستوقفنى فى سيرة الإمام الصديق هو الرحيل المبكر ، وفى تقديرى أنه توفى وهو فى نحو الخمسين من العمر أو ربما يزيد قليلاً. وتذكرت على الفور الكثير من رموز السياسة فى بلادنا الذين رحلوا فى ذات العمر وهم فى ذروة سنوات النضج السياسى، مبارك زروق، عبد الخالق محجوب، الشريف حسين الهندي. ولا يخامرنى شك أن هؤلاء الثلاثة ورابعهم الإمام الصديق لو امتد بهم العمر لتغيرت معال? تاريخنا المعاصر، قد يرى البعض فى هذا الرأي نوعاً من المغالاة ولكن كل الشواهد تؤكد أن العمر لو امتد بالإمام الصديق لما كان الانقسام الحاد فى حزب الأمة على عهد الديمقراطية الثانية فى الستينات. وبرحيل زروق وعبد الخالق محجوب فقد المسرح السياسى الكثير من عناصر الاتزان والاستنارة والرؤية الوطنية الثاقبة. أما وجود الشريف حسين فى سودان ما بعد الانتفاضة فأكاد أجزم بانه كان سيغير كثيراً فى مسارنا السياسى وفى كسب الحزب الاتحادى فى انتخابات 86 م. ولعل أكثر ما شدنى فى سيرة الإمام الصديق هو بغضه الفطرى للأنظمة الشمولية العسكرية وإيمانه المطلق بالديمقراطية كقيمة أساسية للحكم. وهذا ليس بغريب على رجل جمع ما بين الاستنارة الأكاديمية بتخرجه من كلية غردون قسم الهندسة الى جانب الوعى السياسى المبكر الذى استقاه من رحم حركة الخريجين منذ مشاركته فى اضراب الكلية الشهير فى حقبة الثلاثينات الى أن تبوأ رئاسة حزب الأمة فى 1949. ويتجلى هذا عندما بادر وطالب بحل حكومة السيدين والتى أعقبت حكومة الاستقلال مقترحاً قيام حكومة قومية تشترك فيها كل القوى السياسية الفاعلة لتضط?ع بوضع الدستور الدائم. وقد انتهز عرابو التسليم والتسلم الذى تم فى 17 نوفمبر 58 فترة سفره فى رحلة علاجية خارج البلاد لاتمام الانقلاب على الديمقراطية . وفى مذكرة بعث بها الى الرئيس عبود عقب انقلاب علي حامد لضمان عدم تنفيذ حكم الاعدام على الانقلابيين نتبين بوضوح إيمانه المطلق بالديمقراطية اذ جاء فيها : «ان الحكم بات سلسلة من المشاكل وليس من المصلحة أن يكون الجيش ضمن هذه المشاكل، بل الصواب أن يكون بعيداً عن كافة التيارات السياسية ليُضمن حياده وقوميته وسهره على حماية البلاد وصيانة سلامتها. ان البلاد التى أخرجت الجيش عن مهمته الأساسية وزجت به فى مضمار السياسة ستفقد جيشها أول ما تفقد بتعريضه للانقسام ». وخلص الإمام الصديق فى مذكرته الى أن يتفرغ الجيش لمهام ال?من وحماية وحدة الوطن وترابه. وأن تتولى الحكم هيئة قومية انتقالية تعمل على استعادة الديمقراطية الراشدة وترفع حالة الطوارىء وتكفل حريات المواطنين وتضمن حرية الصحافة. رحمك الله سيدى الإمام وغفر لك،، وما أشبه الليلة بالبارحة .